مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

اللعب ولغة الزهور..

اللعب ولغة الزهور.. (الوصول: مشاهد من حياة امرأة مثال) من سيرة وحياة الشهيدة أم ياسر

اللعب ولغة الزهور..
 
تغمض عينها لتستفيق في ذاكرتها سهام الصغيرة, سهام التي تشبه الفراشة وهي تركض بين الحقول، سهام التلميذة على مقاعد الدرس، المعلمات لكم كانت سهام تحبهنّ، وإن تغيرن في السنة التالية لا يتغير حب سهام لهنّ، في السنة التالية تجلب سهام زهرتين الأولى للمعلمة القديمة والثانية للجديدة، "يا أم خليل.. بدي ورد"، أم خليل جارتهم، في الفجر تكنس أراضي الدار..
وسهام تطل برأسها وعلى أصابع قدمها تنط من الجدار المنخفض "بدي ثلاث وردات يا خالتي، ثلاث وردات، وحدة ل.." وتذهب أم خليل..
ومن أفضل زهورها تأتي بثلاث زهور نظرة ترفع عنها أشواكها خوفاً على سهام، أم خليل وهي تسلمها الزهور المبللة بندى الصباح، تعطيها الزهور مع قبلة في أغلب الأحيان "الورد بجمل الورد"، ما أجمل ابتسامة أم خليل، زهور أم خليل ملاذ سهام حين تتوقف البرية عن إنتاجها، لقد اعتادت سهام وهي في طريقها إلى المدرسة أن تقطف من البرية زهوراً مختلفة أغلبها صغير فتصنع باقة من صغار الزهور متعددة الألوان... ثم باقة  أخرى وثالثة..
لا تدري لمَ اعتادت هي تقديم هذه الزهور.. كل ما تدريه أنّ زهورها تترك أثراً طيباً في الوجوه، أو قبلة، وضمة حنونة، وسهام تحب أن تترك أثراً، أن تترك فرحاً، كان سهلاً على سهام بالزهور وغيرها أن تترك أثراً، تعلم أنها كانت محبوبة، حتى مع الصغار أمثالها كانت محبوبة، هي تذكر أن الخلاف مهما طال لا يمتد لأكثر من ساعة، هذا إذا وجد، ما كانت لتستطيع، قلبها بكل بساطة لا يريد لأحد زعلاً، حتى وإن لم تكن هي السبب، حتى وإن كان الخلاف بين اثنتين سواها، كانت تسعى جاهدة لهدم هذا الخلاف، الخلاف أو الترهل نبتة شائكة لا ترضاها تربة هذا القلب، لكم أحبت سهام طفولتها، أقرانها والأهل والمدرسة والفسحات وتلك الدروب.. والبراري.. والطرق المختصرة، وإن إقتضى الأمر تسلق بعض الحجارة..
كان اللعب هو كل الدنيا.. حتى العمل في المنزل ومساعدة الأم، يصبح لعباً بطريقة أو بأخرى، تقوم بالعمل وهي تغني وتركض، وقد تدحرج الشيء المطلوب أو تلعب به، أيّ فرصة ممكن أن تستثمر، والضحكة تأتي من كل مكان، وفي الوقت الضائع، كان الوقت المكتسب المشبع بالضحكات، ما بين النزول إلى التبانة والغرف في نثار التبن النعام، إلى تسلق الحائط الصغير والصعود إلى سطح المطبخ، إلى شجيرات التين والرمانة والسيارة الصخرية.
جلب الماء من البئر عمل ضروري، وهو أجمل الألعاب إبتداءً من إنزال السطل ومده المتواصل بالحبل، والأذن تصغي لصوت ارتطامه بالماء، ثم عليها الإنتظار ومساعدة السطل بتحريك الحبل صعوداً ونزولاً إلى الجانبين، ثم تستشعر اليد الصغيرة بثقل الحبل، ويبدأ الرفع وبعد جهد يطل السطل برأسه من فوهة البئر الصغيرة وهو يهتز وينثر حوله الماء، تملىء سهام الإبريق، نصف الماء على الأرض عاد إلى البئر ونصفه في جوف الإبريق، "شو تعبتي، بس تتعبي وقفي يا عمري".
يا عمري.. كلمة كثيراً ما كانت ترددها الأم مع لمسة على الرأس، وملامح تقول ادخلي إلى الصدر إن شئت وفي العيون دعوة للاحتضان لا تقاوم.. الغضب استثناء في وجه الأم.. فهو لا يمكث إلا قليلاً، يمر مروراً لا يستطيع البقاء، كمن لا يجد مكاناً، فالوجه مسكون بطيبته، الحنان الفائض يحتل الملامح دوماً، لا تتذكر سهام متى تغضب أمها، رغم المشاغبات والتخريب الناتج عن عاصفة التعب البريء، يستغرب سواها من الكبار "شو بالك طويل يا حجي"، "مش هني مبسوطين خلص"، كأن ضحكة الصغار زادها من التعب الطويل الذي لا ينتهي، ما رأت أمها تستريح، تستفيق سهام والأم غارقة في العمل وتنام سهام والأم على حالها، متى كانت تنام أمها، ومتى تستريح، حتى على الطعام هي آخر من يجلس وإن جلست فهي تطعم هذا، وتقرب الطعام لذاك، أو تقوم لتجلب ناقصاً، لا تتذمر ولا تشكو ولا تطلب المساعدة، مهما كان العبء ثقيلاً، وكأنها تنسى أنّ أحداً سواها يستطيع المشاركة..
 
المصدر: (الوصول: مشاهد من حياة امرأة مثال) من سيرة وحياة الشهيدة أم ياسر، بقلم: عبد القدوس الأمين، سلسلة المرأة المقاومة، جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية.

التعليقات (0)

اترك تعليق