الإسلام والتشجّيع على الزواج
يُمكن تحديد المنهج الإسلامي في التشجيع على الزواج، باعتباره النواة الأُولى لتكوين الأُسرة المسلمة في أُسلوبَي الترغيب على الزواج والترهيب من تركه الواردين في الكتاب الكريم والسنة المطهّرة.
قال تعالى: (وَأَنكِحُوا اšلأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(النور:٣٢)(1).
فهذه الآية تدلّ على أمرٍ إلهي في التشجيع على الزواج والوعد بتذليل العقَبات الاقتصاديّة التي تعتريه.
كما كشف لنا القرآن الكريم ـ وفي معرض الامتنان على البشريّة ـ عن أنّ الزواج آية من آياته الرحمانيّة التي تعمُّ جميع الناس، سواء منهم المسلم أم الكافر، ينعمون من خلاله بالسكينة والاطمئنان في أجواءٍ من المودّة والرحمة، فقال عزَّ من قائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(2).
وإذا طالعنا السُنّة المباركة نجد أنَّ الرسول الأكرم(ص) قد وضّح لنا الرغبة الإلهيّة للبناء الأُسري القائم على أساس الزواج وله(ص): (ما بُني بناء في الإسلام أحبُّ إلى الله من التزويج)(3).
وحَرَص(ص) على إبراز المُعطيات الإيجابيّة للزواج تشجيعاً للشباب من أجل الإقدام عليه عندما قال(ص): (يا مَعشر الشباب، مَن استطاع منكم الباه فليتزوَّج، فإنّه أغضُّ للبَصر وأحصَنُ للفرج..)(4).
وبصرف النظر عمّا ورَد في النقل ـ من آيات وروايات ـ بخصوص الترغيب في الزواج فإنّ العقل يحكُم بضرورته لكونِه السبب المُباشر وراء تشكيل أوّل خليّة اجتماعيّة، هي الأسرة التي ترفد المجتمع بأفراد صالحين يُسهمون في بنائه وتطويره وفق أُسُس سليمة بعيدة عن أسباب الانحراف والابتذال.
ومن هذه الجهة يكشف لنا الإمام الرضا(ع) ضرورة الزواج الاجتماعيّة يستقل بإدراكها العقل بغضّ النظر عن الشرع، فيقول(ع): (لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آيةٌ مُحكمة منزلة، ولا سُنَّة متّبعة، لكان فيما جعل لله فيها من بِرّ القريب، وتآلف البعيد، ما رغب فيه العاقل اللبيب، وسارَع إليه المُوفّق المُصيب...)(5).
كما أنَّ الزواج من السنن الاجتماعيّة، التي لم تزل دائرة في تاريخ النوع الإنساني إلى هذا اليوم، وهو دليل على كونه سُنّة فطريّة حافظت على بقاء النوع الإنساني؛ ذلك لأنّ الأنواع تبقى ببقاء نسلها، ناهيك عن أنّ الذكَر والأُنثى مُجهّزان بحسب البنية الجسمانيّة بوسائل التناسل والتوالد..
وكلاهما في ابتغاء ذلك شرع سواء، وإنْ زيدت الأُنثى بجهاز الإرضاع والعواطف الفطريّة المُلائمة لتربية الأولاد، وقد أودع تعالى كلا الجنسين غرائز إنسانية تنعطف إلى محبّة الأولاد ورعايتهم، وتنقضي بكون كل منهما مسكناً للآخر، وبلزوم تأسيس البيت، إذن فالفحشاء والسِّفاح الذي يَقطع النسل ويُفسد الأنساب أوّل ما تبغضه الفطرة الإنسانيّة القاضية بالنكاح(6).
وممّا يدلّ على أنّ الزواج أمر فطري قول الرسول الأكرم(ص): (من أحبّ فطرتي، فليستنَّ بسنتي، ومن سنتي التزويج)(7).
وعليه فالزواج يقف سدّاً منيعاً يحول دون الانحراف الجنسي، وهو من أفضل الوسائل الوقائيّة التي تحصّن الناس من الانزلاق إلى هاوية الرذيلة، وبالتالي الوقوع في الفتنة.
رُوي عن الإمام الرضا(ع) أنّه قال: (نزل جبرئيل على النبيّ(ص) فقال: يا محمّد إنّ ربّك يُقرؤك السلام ويقول: إنَّ الأبكار من النّساء بِمَنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلاّ اجتنائه، وإلاّ أفسَدَته الشمس، وغيّرته الرّيح، وإنّ الأبكار إذا أدركن ما تدرك النّساء فلا دواء لهُن إلاّ البعول، وإلاّ لم يُؤمَن عليهنّ الفتنة، فصعد رسول الله(ص) المنبر، فجَمَع الناس، ثمّ أعلَمَهُم ما أمر الله عزَّ وجلَّ به)(8).
ولم يكتفِ الإسلام بتشجيع الشباب من الجنسين على الزواج، بل دعا المسلمين إلى تحقيق أعلى درجة من المشاركة والتعاون، ومدّ يد العون لكلِّ من تضيق يده عن تهيئة الوسائل اللازمة للزواج، ووعد كلّ من يُساهم في هذا العمل الخيري بالثواب الجزيل ، وثمّة شواهد نقليّة على هذا التوجه، منها.
قال الإمام زين العابدين(ع): (... ومن زوَّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها، آنَسَهُ الله في قبره بصورة أحبّ أهله إليه)(9)
وقال حفيدُه الإمام الكاظم(ع): ( ثلاثة يَستظلّون بظلّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه: رجل زوّج أخاهُ المسلم، أو خدَمه أو كتَم له سرّاً)(10).
وفي هذا الإطار مَلحّة لتوسيع المشاركة الاجتماعيّة في هذه القضيّة الحيويّة، ودفع المسلمين للقيام بدور الوساطة بين الشباب المؤهّلين للزواج، وفتح قنوات الاتّصال والتعارف بين عوائلهم، وكذلك مدّ جُسور الفهم والتفاهم بين العروسين، وهي أمور لابدّ منها حتّى يكون الزواج عن قناعة ورضا وطيب نفس، وعلى نحوٍ مدروس، وليس قراراً ارتجالياً قد تترتّب عليه عواقب لا تُحمد عقباها.
ثمّ إنّ الوسيط أو الشفيع يُساهم مساهمة فعّالة في تذليل الصعوبات ورفع الموانع والعقبات التي تَعترض الجانبين، وقد أشادَ أميرُ المؤمنين(ع) بدور الشفيع أو الوسيط فقال: (أفضل الشفاعات أنْ يشفع بين اثنين في نكاح، حتّى يَجمَع شَملَهُما)(11).
المُعطيات الإيجابية للزواج:
ومن ضمن أُسلوب (الترغيب) نجد من خلال نظرتنا الفاحصة للنصوص أنّ الإسلام يُبرز -بوضوح- المعطيات الإيجابيّة للزواج، ويُمكن تبويبها في النقاط التالية:
١ ـ الدخول في ولاية الله:
فلاشكّ أنّ مَن أقدم من الشباب على الزواج، أو مَن قدّم خدمة في هذا الشأن، امتثالاً لأمرِ الله تعالى، ورغبةً في رضاه، سوف يُدخله الله تعالى في ولايته، وقد ورد عن الرسول الأكرم(ص) أنّه قال: (مَن نكَح لله وأنكَح لله استحقَّ ولاية الله)(12).
ويُفهم من ذلك بالدلالة الالتزاميّة أنّ مَن يُحجِم عن الزواج بدون سبب شرعي، أو مَن يَضَع العراقيل في هذا السبيل، فسوف يكون أقرب إلى ولاية الشيطان.
ولعلّ ذلك ما يُفسّر قول الرسول(ص): (أيّما شاب تزوّج في حَداثة سنّه عجّ شيطانه: يا ويله ! عَصَمَ منّي دينه)(13).
٢ ـ امتثال سُنّة الرسول(ص):
وهي سُنَّةٌ هاديةٌ راشدة تدفع من عمل بها نحو الصلاح، وتُؤدّي إلى الفوز والفلاح، وقد تجسّدت بأقوال الرسول(ص) العديدة، التي حثَّ فيها الشباب على نبذ حياة العزوبيّة، كما جُسّدَت في أفعاله، فقد تزوّج مرّات عديدة، وزوّج بناته أيضاً، كما تمثّلت في تقريره، فَلَم يكتفِ بالسكوت عمّن يتزوّجون، بل كان يسأل أصحابه ومَن يُحيط به عن أخبار الزواج، فيُبارك لمَن تزوّج منهم ويدعو له، كما ويسأل العزّاب منهم عن سبب عزوفهم عن الزواج، و يُحاول حلّ مشاكلهم ويشفع أو يتوسّط لتسهيلها، وقد زوّج (جُوَيبِر) مع فقره المُدقِع من (الزلفاء) مع ما هي فيه من الجاه والثراء.
فالزواج -إذن- إضافةً إلى أنّه آية ربانيّة فهو سنّة نبويّة يتوجّب إتّباعها، والعمل بها، قال(ص): (النكاح سنّتي، فمَن رغِب عن سنّتي فَلَيس منّي...)(14).
وانطلاقاً من هذا التوجّه النبوي، قال أمير المؤمنين(ع) موصياً: (تزوّجوا، فإنَّ رسول الله(ص) كثيراً ما كان يقول: مَن كان يُحبُّ أنْ يتَّبِع سُنّتي فليتزوّج، فإنَّ مِن سُنّتي التزويج)(15).
٣ ـ اكتساب الفضيلة العالية:
فالمتزوِّج أفضل عند الله تعالى ورسوله(ص) من الأعزب درجةً، وأجزل ثواباً، قال الرسول(ص): (المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائِم القائم العزِب)(16).
ورُوي عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: (ركعتان يُصلّيها مُتزوّج أفضل من سبعين ركعة يُصلّيها أعزب)(17).
وعن أبي الحسن(ع) قال: (جاء رجلٌ إلى أبي جعفر(ع) فقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا، فقال أبو جعفر عليه السلام: لا أحبُّ أنّ ليَ الدنيا وما فيها وأنْ أبيت ليلةً وليس لي زوجة، ثمّ قال: إنّ ركعتين يُصلّيهما رجلٌ متزوِّج أفضل من رجلٍ أعزب يقومُ ليلهُ ويصوم نهاره)(18).
ولعلَّ الوجه في هذا التفاضل، أنّ الأعزب يكون عُرضةً لضغط الغريزة الجنسيّة فيَشغل الجنس حيّزاً كبيراً من تفكيره ويكون محوراً لاهتمامه، الأمر الذي ينعكس -سلباً- على عبادته، التي تكتسب فضيلتها وكمالها من التوجّه الكلّي نحو المعبود، والابتعاد عمّا سواه.
وهناك من تضيق عدَسَة الرؤية لديه أو يفهم الدين فهماً قاصراً، فَيَرى أنّ الرهبانيّة تُكسب الإنسان فضلاً وكمالاً، كما هو الحال عند بعض النصارى وأهل التصوّف، ولكنّ أهل البيت(ع) يرفضون هذا الفهم القاصر، فقد وَرَد عن الإمام الرضا(ع): (إنَّ امرأة سألت أبا جعفر(ع) فقالت: أصلَحك الله إنّي مُتبتّلة، فقال لها: وما التبتّل عندك ؟ قالت: لا أُريد التزويج أبداً، قال: ولِمَ ؟ قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة(ع) أحقُّ به منك، إنّه ليس أحدٌ يسبقها إلى الفضل)(19).
٤ـ الطهارة المعنويّة:
فممّا لا ريب فيه أنّ الزواج عامل مساعد على التطهّر من الآثام كالزنا، واللواط، وسائر أشكال الانحراف عن الطريق المستقيم، ومن أجل ذلك قال الرسول الأكرم(ص): (مَن سرّه أنْ يلقى الله طاهراً مُطهّراً، فَليَلقه بزوجةٍ صالحة)(20).
فالزواج هو الطريق الطبيعي لرفد الأُمّة بعناصر شابّة، تُجدّد حيويّتها، وتقوم على أكتافهم نهضتها وصيرورة تقدّمها، ولذلك نلاحظ أنّ الرسول(ص) قد أفصَح أكثر من مرّة عن رغبتهِ في كثرة أفراد أمّته، ومن ذلك قوله: (تناكحوا، تكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُمم يوم القيامة حتّّى بالسِّقط)(21).
٥ ـ زيادة الرزق وحسن الخلق:
لقد طمأن الله تعالى الذين يَخشون الدخول في عشّ الزوجيّة خوفاً من الفقر، وما يُوجبه من النفقة، قائلاً: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(22).
وهو وعدٌ جميل بالغنى وسِعة الرزق، وقد أكّده بقوله (واللهُ واسعٌ عليمٌ)، والرزق يتبع صلاحيّة المرزوق بمشيئةٍ مِن الله سبحانه(23).
وفي حديث الرسول الأعظم(ص) ما يقشع غيوم الهموم التي تتراكم في النفوس خوفاً من أعباء الزواج، فقد قال(ص): (التمسوا الرزق بالنكاح)، وأيضاً قوله(ص): (تزوَّجوا النساء، فإنّهنَّ يأتين بالمال)(24).
وفي حديثٍ ثالثٍ يكشف لنا فيه عن مُعطيات أُخرى معنويّة للزواج، إضافةً إلى المادّيّة عندما قال(ص): (زوّجوا أياماكُم،(25) فإنَّ الله يُحسِن لهم في أخلاقِهم، ويوسّع لهم في أرزاقهم، ويزيدهم في مُروّاتهم)(26).
وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق(ع): (مَن ترك التزويج مخافة الفقر، فقد أسَاء الظنّ بالله عزَّ وجلَّ)(27) انطلاقاً من الآية المتقدّمة التي تتضمّن وعداً جميلاً بالمدد والمعونة.
____________
1) سورة النور: ٢٤| ٣٢.
2) سورة الروم: ٣٠| ٢١.
3) مكارم الأخلاق| الطبرسي: ١٩٦.
4) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
٤) مكارم الأخلاق: ٢٠٦.
5) تفسير الميزان| العلاّمة الطباطبائي ٤: ٣١٢ ـ ٣١٣.
6) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
7) وسائل الشيعة ١٤: ٣٩ كتاب النكاح.
8) ثواب الأعمال، للصدوق: ١٧٥ ـ ١٧٦.
9) الخصال| الصدوق ١: ١٤١ باب الثلاثة.
10) مكارم الأخلاق| الطبرسي: ١٩٦.
11) المحجّة البيضاء | الكاشاني ٣: ٥٤ مؤسّسة الأعلمي ط٢.
12) كنز العمّال ١٦: ٢٧٦| ٤٤٤٤١.
13) جامع الأخبار: ٢٧١ | ٧٣٧، كنز العمّال ١٦: ٢٧١| ٤٤٤٠٧.
14) تُحف العقول: ١٠٥.
15) جامع الأخبار: ٢٧٢| ٧٤١.
16) ثواب الأعمال: ٦٢.
17) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
18) أمالي الطوسي ١: ٣٨٠. وبحار الأنوار ١٠٣: ٢١٩.
19) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
20) المحجّة البيضاء ٣: ٥٣.
21) سورة النور: ٢٤| ٣٢.
22) تفسير الميزان ٥: ١١٣.
23) مكارم الأخلاق: ١٩٦.
24) الأيامى: جمع أيّم، وهو الذكر الذي لا أُنثى معه والأُنثى التي لا ذكر معها، تفسير الميزان ٥: ١١٢ ـ ١١٣.
25) نوادر الراوندي: ٣٦، بحار الأنوار ١٠٣: ٢٢٢.
26) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
27) كنز العمّال ١٦: ٢٧٧ | ٤٤٤٤٩.
قال تعالى: (وَأَنكِحُوا اšلأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(النور:٣٢)(1).
فهذه الآية تدلّ على أمرٍ إلهي في التشجيع على الزواج والوعد بتذليل العقَبات الاقتصاديّة التي تعتريه.
كما كشف لنا القرآن الكريم ـ وفي معرض الامتنان على البشريّة ـ عن أنّ الزواج آية من آياته الرحمانيّة التي تعمُّ جميع الناس، سواء منهم المسلم أم الكافر، ينعمون من خلاله بالسكينة والاطمئنان في أجواءٍ من المودّة والرحمة، فقال عزَّ من قائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(2).
وإذا طالعنا السُنّة المباركة نجد أنَّ الرسول الأكرم(ص) قد وضّح لنا الرغبة الإلهيّة للبناء الأُسري القائم على أساس الزواج وله(ص): (ما بُني بناء في الإسلام أحبُّ إلى الله من التزويج)(3).
وحَرَص(ص) على إبراز المُعطيات الإيجابيّة للزواج تشجيعاً للشباب من أجل الإقدام عليه عندما قال(ص): (يا مَعشر الشباب، مَن استطاع منكم الباه فليتزوَّج، فإنّه أغضُّ للبَصر وأحصَنُ للفرج..)(4).
وبصرف النظر عمّا ورَد في النقل ـ من آيات وروايات ـ بخصوص الترغيب في الزواج فإنّ العقل يحكُم بضرورته لكونِه السبب المُباشر وراء تشكيل أوّل خليّة اجتماعيّة، هي الأسرة التي ترفد المجتمع بأفراد صالحين يُسهمون في بنائه وتطويره وفق أُسُس سليمة بعيدة عن أسباب الانحراف والابتذال.
ومن هذه الجهة يكشف لنا الإمام الرضا(ع) ضرورة الزواج الاجتماعيّة يستقل بإدراكها العقل بغضّ النظر عن الشرع، فيقول(ع): (لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آيةٌ مُحكمة منزلة، ولا سُنَّة متّبعة، لكان فيما جعل لله فيها من بِرّ القريب، وتآلف البعيد، ما رغب فيه العاقل اللبيب، وسارَع إليه المُوفّق المُصيب...)(5).
كما أنَّ الزواج من السنن الاجتماعيّة، التي لم تزل دائرة في تاريخ النوع الإنساني إلى هذا اليوم، وهو دليل على كونه سُنّة فطريّة حافظت على بقاء النوع الإنساني؛ ذلك لأنّ الأنواع تبقى ببقاء نسلها، ناهيك عن أنّ الذكَر والأُنثى مُجهّزان بحسب البنية الجسمانيّة بوسائل التناسل والتوالد..
وكلاهما في ابتغاء ذلك شرع سواء، وإنْ زيدت الأُنثى بجهاز الإرضاع والعواطف الفطريّة المُلائمة لتربية الأولاد، وقد أودع تعالى كلا الجنسين غرائز إنسانية تنعطف إلى محبّة الأولاد ورعايتهم، وتنقضي بكون كل منهما مسكناً للآخر، وبلزوم تأسيس البيت، إذن فالفحشاء والسِّفاح الذي يَقطع النسل ويُفسد الأنساب أوّل ما تبغضه الفطرة الإنسانيّة القاضية بالنكاح(6).
وممّا يدلّ على أنّ الزواج أمر فطري قول الرسول الأكرم(ص): (من أحبّ فطرتي، فليستنَّ بسنتي، ومن سنتي التزويج)(7).
وعليه فالزواج يقف سدّاً منيعاً يحول دون الانحراف الجنسي، وهو من أفضل الوسائل الوقائيّة التي تحصّن الناس من الانزلاق إلى هاوية الرذيلة، وبالتالي الوقوع في الفتنة.
رُوي عن الإمام الرضا(ع) أنّه قال: (نزل جبرئيل على النبيّ(ص) فقال: يا محمّد إنّ ربّك يُقرؤك السلام ويقول: إنَّ الأبكار من النّساء بِمَنزلة الثمر على الشجر، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلاّ اجتنائه، وإلاّ أفسَدَته الشمس، وغيّرته الرّيح، وإنّ الأبكار إذا أدركن ما تدرك النّساء فلا دواء لهُن إلاّ البعول، وإلاّ لم يُؤمَن عليهنّ الفتنة، فصعد رسول الله(ص) المنبر، فجَمَع الناس، ثمّ أعلَمَهُم ما أمر الله عزَّ وجلَّ به)(8).
ولم يكتفِ الإسلام بتشجيع الشباب من الجنسين على الزواج، بل دعا المسلمين إلى تحقيق أعلى درجة من المشاركة والتعاون، ومدّ يد العون لكلِّ من تضيق يده عن تهيئة الوسائل اللازمة للزواج، ووعد كلّ من يُساهم في هذا العمل الخيري بالثواب الجزيل ، وثمّة شواهد نقليّة على هذا التوجه، منها.
قال الإمام زين العابدين(ع): (... ومن زوَّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها، آنَسَهُ الله في قبره بصورة أحبّ أهله إليه)(9)
وقال حفيدُه الإمام الكاظم(ع): ( ثلاثة يَستظلّون بظلّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه: رجل زوّج أخاهُ المسلم، أو خدَمه أو كتَم له سرّاً)(10).
وفي هذا الإطار مَلحّة لتوسيع المشاركة الاجتماعيّة في هذه القضيّة الحيويّة، ودفع المسلمين للقيام بدور الوساطة بين الشباب المؤهّلين للزواج، وفتح قنوات الاتّصال والتعارف بين عوائلهم، وكذلك مدّ جُسور الفهم والتفاهم بين العروسين، وهي أمور لابدّ منها حتّى يكون الزواج عن قناعة ورضا وطيب نفس، وعلى نحوٍ مدروس، وليس قراراً ارتجالياً قد تترتّب عليه عواقب لا تُحمد عقباها.
ثمّ إنّ الوسيط أو الشفيع يُساهم مساهمة فعّالة في تذليل الصعوبات ورفع الموانع والعقبات التي تَعترض الجانبين، وقد أشادَ أميرُ المؤمنين(ع) بدور الشفيع أو الوسيط فقال: (أفضل الشفاعات أنْ يشفع بين اثنين في نكاح، حتّى يَجمَع شَملَهُما)(11).
المُعطيات الإيجابية للزواج:
ومن ضمن أُسلوب (الترغيب) نجد من خلال نظرتنا الفاحصة للنصوص أنّ الإسلام يُبرز -بوضوح- المعطيات الإيجابيّة للزواج، ويُمكن تبويبها في النقاط التالية:
١ ـ الدخول في ولاية الله:
فلاشكّ أنّ مَن أقدم من الشباب على الزواج، أو مَن قدّم خدمة في هذا الشأن، امتثالاً لأمرِ الله تعالى، ورغبةً في رضاه، سوف يُدخله الله تعالى في ولايته، وقد ورد عن الرسول الأكرم(ص) أنّه قال: (مَن نكَح لله وأنكَح لله استحقَّ ولاية الله)(12).
ويُفهم من ذلك بالدلالة الالتزاميّة أنّ مَن يُحجِم عن الزواج بدون سبب شرعي، أو مَن يَضَع العراقيل في هذا السبيل، فسوف يكون أقرب إلى ولاية الشيطان.
ولعلّ ذلك ما يُفسّر قول الرسول(ص): (أيّما شاب تزوّج في حَداثة سنّه عجّ شيطانه: يا ويله ! عَصَمَ منّي دينه)(13).
٢ ـ امتثال سُنّة الرسول(ص):
وهي سُنَّةٌ هاديةٌ راشدة تدفع من عمل بها نحو الصلاح، وتُؤدّي إلى الفوز والفلاح، وقد تجسّدت بأقوال الرسول(ص) العديدة، التي حثَّ فيها الشباب على نبذ حياة العزوبيّة، كما جُسّدَت في أفعاله، فقد تزوّج مرّات عديدة، وزوّج بناته أيضاً، كما تمثّلت في تقريره، فَلَم يكتفِ بالسكوت عمّن يتزوّجون، بل كان يسأل أصحابه ومَن يُحيط به عن أخبار الزواج، فيُبارك لمَن تزوّج منهم ويدعو له، كما ويسأل العزّاب منهم عن سبب عزوفهم عن الزواج، و يُحاول حلّ مشاكلهم ويشفع أو يتوسّط لتسهيلها، وقد زوّج (جُوَيبِر) مع فقره المُدقِع من (الزلفاء) مع ما هي فيه من الجاه والثراء.
فالزواج -إذن- إضافةً إلى أنّه آية ربانيّة فهو سنّة نبويّة يتوجّب إتّباعها، والعمل بها، قال(ص): (النكاح سنّتي، فمَن رغِب عن سنّتي فَلَيس منّي...)(14).
وانطلاقاً من هذا التوجّه النبوي، قال أمير المؤمنين(ع) موصياً: (تزوّجوا، فإنَّ رسول الله(ص) كثيراً ما كان يقول: مَن كان يُحبُّ أنْ يتَّبِع سُنّتي فليتزوّج، فإنَّ مِن سُنّتي التزويج)(15).
٣ ـ اكتساب الفضيلة العالية:
فالمتزوِّج أفضل عند الله تعالى ورسوله(ص) من الأعزب درجةً، وأجزل ثواباً، قال الرسول(ص): (المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائِم القائم العزِب)(16).
ورُوي عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: (ركعتان يُصلّيها مُتزوّج أفضل من سبعين ركعة يُصلّيها أعزب)(17).
وعن أبي الحسن(ع) قال: (جاء رجلٌ إلى أبي جعفر(ع) فقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا، فقال أبو جعفر عليه السلام: لا أحبُّ أنّ ليَ الدنيا وما فيها وأنْ أبيت ليلةً وليس لي زوجة، ثمّ قال: إنّ ركعتين يُصلّيهما رجلٌ متزوِّج أفضل من رجلٍ أعزب يقومُ ليلهُ ويصوم نهاره)(18).
ولعلَّ الوجه في هذا التفاضل، أنّ الأعزب يكون عُرضةً لضغط الغريزة الجنسيّة فيَشغل الجنس حيّزاً كبيراً من تفكيره ويكون محوراً لاهتمامه، الأمر الذي ينعكس -سلباً- على عبادته، التي تكتسب فضيلتها وكمالها من التوجّه الكلّي نحو المعبود، والابتعاد عمّا سواه.
وهناك من تضيق عدَسَة الرؤية لديه أو يفهم الدين فهماً قاصراً، فَيَرى أنّ الرهبانيّة تُكسب الإنسان فضلاً وكمالاً، كما هو الحال عند بعض النصارى وأهل التصوّف، ولكنّ أهل البيت(ع) يرفضون هذا الفهم القاصر، فقد وَرَد عن الإمام الرضا(ع): (إنَّ امرأة سألت أبا جعفر(ع) فقالت: أصلَحك الله إنّي مُتبتّلة، فقال لها: وما التبتّل عندك ؟ قالت: لا أُريد التزويج أبداً، قال: ولِمَ ؟ قالت: ألتمس في ذلك الفضل، فقال: انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة(ع) أحقُّ به منك، إنّه ليس أحدٌ يسبقها إلى الفضل)(19).
٤ـ الطهارة المعنويّة:
فممّا لا ريب فيه أنّ الزواج عامل مساعد على التطهّر من الآثام كالزنا، واللواط، وسائر أشكال الانحراف عن الطريق المستقيم، ومن أجل ذلك قال الرسول الأكرم(ص): (مَن سرّه أنْ يلقى الله طاهراً مُطهّراً، فَليَلقه بزوجةٍ صالحة)(20).
فالزواج هو الطريق الطبيعي لرفد الأُمّة بعناصر شابّة، تُجدّد حيويّتها، وتقوم على أكتافهم نهضتها وصيرورة تقدّمها، ولذلك نلاحظ أنّ الرسول(ص) قد أفصَح أكثر من مرّة عن رغبتهِ في كثرة أفراد أمّته، ومن ذلك قوله: (تناكحوا، تكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُمم يوم القيامة حتّّى بالسِّقط)(21).
٥ ـ زيادة الرزق وحسن الخلق:
لقد طمأن الله تعالى الذين يَخشون الدخول في عشّ الزوجيّة خوفاً من الفقر، وما يُوجبه من النفقة، قائلاً: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(22).
وهو وعدٌ جميل بالغنى وسِعة الرزق، وقد أكّده بقوله (واللهُ واسعٌ عليمٌ)، والرزق يتبع صلاحيّة المرزوق بمشيئةٍ مِن الله سبحانه(23).
وفي حديث الرسول الأعظم(ص) ما يقشع غيوم الهموم التي تتراكم في النفوس خوفاً من أعباء الزواج، فقد قال(ص): (التمسوا الرزق بالنكاح)، وأيضاً قوله(ص): (تزوَّجوا النساء، فإنّهنَّ يأتين بالمال)(24).
وفي حديثٍ ثالثٍ يكشف لنا فيه عن مُعطيات أُخرى معنويّة للزواج، إضافةً إلى المادّيّة عندما قال(ص): (زوّجوا أياماكُم،(25) فإنَّ الله يُحسِن لهم في أخلاقِهم، ويوسّع لهم في أرزاقهم، ويزيدهم في مُروّاتهم)(26).
وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق(ع): (مَن ترك التزويج مخافة الفقر، فقد أسَاء الظنّ بالله عزَّ وجلَّ)(27) انطلاقاً من الآية المتقدّمة التي تتضمّن وعداً جميلاً بالمدد والمعونة.
____________
1) سورة النور: ٢٤| ٣٢.
2) سورة الروم: ٣٠| ٢١.
3) مكارم الأخلاق| الطبرسي: ١٩٦.
4) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
٤) مكارم الأخلاق: ٢٠٦.
5) تفسير الميزان| العلاّمة الطباطبائي ٤: ٣١٢ ـ ٣١٣.
6) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
7) وسائل الشيعة ١٤: ٣٩ كتاب النكاح.
8) ثواب الأعمال، للصدوق: ١٧٥ ـ ١٧٦.
9) الخصال| الصدوق ١: ١٤١ باب الثلاثة.
10) مكارم الأخلاق| الطبرسي: ١٩٦.
11) المحجّة البيضاء | الكاشاني ٣: ٥٤ مؤسّسة الأعلمي ط٢.
12) كنز العمّال ١٦: ٢٧٦| ٤٤٤٤١.
13) جامع الأخبار: ٢٧١ | ٧٣٧، كنز العمّال ١٦: ٢٧١| ٤٤٤٠٧.
14) تُحف العقول: ١٠٥.
15) جامع الأخبار: ٢٧٢| ٧٤١.
16) ثواب الأعمال: ٦٢.
17) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
18) أمالي الطوسي ١: ٣٨٠. وبحار الأنوار ١٠٣: ٢١٩.
19) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
20) المحجّة البيضاء ٣: ٥٣.
21) سورة النور: ٢٤| ٣٢.
22) تفسير الميزان ٥: ١١٣.
23) مكارم الأخلاق: ١٩٦.
24) الأيامى: جمع أيّم، وهو الذكر الذي لا أُنثى معه والأُنثى التي لا ذكر معها، تفسير الميزان ٥: ١١٢ ـ ١١٣.
25) نوادر الراوندي: ٣٦، بحار الأنوار ١٠٣: ٢٢٢.
26) مكارم الأخلاق: ١٩٧.
27) كنز العمّال ١٦: ٢٧٧ | ٤٤٤٤٩.
اترك تعليق