مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خديجة مزرعاني(1): قتلوا أمي في حضني..

خديجة مزرعاني(1): قتلوا أمي في حضني.. معاناة نصف قرن من الإرهاب الصهيوني

لا يدور في خلد الناظر إلى هذه السيدة، التي حملت على ظهرها أكثر من خمسة وثمانين عامًا من العمر، أنها تختصر في سيرتها مسيرة أكثر من ستين عامًا من العدوان الصهيوني على لبنان.
ولا يسعك إلا أن تذرف دمعة، أو على الأقل تحبسها بحسرة، وأنت تستمع إليها وهي تروي كيف قتلوا أمها في حضنها، وهي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، أو كيف اعتقلوها يوم عيد الأم، وهي في ستينيات العمر، في معتقل الخيام، بغية الضغط على ابنها ذي الثامنة عشرة.
ورغم أوجاعها، وتعب السنين الذي أثقل كاهلها، فإن السيدة خديجة مزرعاني صمدت ورضيت أن تتكلم، كي تقدّم شهادة تروي من خلالها تجربة تدوّي في أسماع الكثيرين.

الأم الشهيدة

منذ أن ولدتُ في قرية حولا الجنوبية، الواقعة مباشرة على الخط الحدودي مع فلسطين، في العام 1930، كنت أستمع إلى أهالي بلدتي الذين كانوا ينتقلون للعمل داخل فلسطين ويحدثوننا عن الصهاينة، من دون أن نراهم، فكنا نتصورهم مجرمين أشدّاء، فنرتجف من جرّاء ذلك.
وقد تم لقاؤنا الأول كأطفال مع اليهود عندما كنا نرعى الأبقار التي يملكها أهلنا قرب مزرعة المنارة اللبنانية التي بيع جزء منها للصهاينة فاستوطنوها. ووجدناهم على عكس الصورة التي كنا نحملها عنهم: فهم كانوا، آنذاك، جبناء يفرّون عندما يرون رجلاً عربيًا. أما بالنسبة لنا نحن الصغار فكانوا يطاردوننا. وأذكر مرة كيف لاحقنا ناطور المنارة على حصانه، شاهرًا مسدسه، وكيف أمسك بأحدنا وكاد يخنقه بيديه رغم صغر سنّه.
ومع نشوء قضية فلسطين، في العام 1948، تحوّلت بلدتنا إلى مسرح للعمليات العسكرية بسبب تمركز الصهاينة في تلّة المنارة، وقوات جيش الإنقاذ العربي في تلة العباد المقابلة، وهاتان التلتان تشرفان على حولا من جهة الشرق على الحدود اللبنانية-الفلسطينية، ومن حين إلى آخر كانت تحصل اشتباكات بين الطرفين.

العصابات الصهيونية تهاجم حولا

في ربيع ذلك العام هاجم اليهود القرية وقتلوا ثلاثة من أبنائها، الأمر الذي أدخل الرعب إلى قلوب الآخرين، فهجروا بيوتهم والتجأوا إلى الوديان والبراري المحيطة، وكانوا يتسللون نهارًا إلى بيوتهم حذرين، فيأخذون منها ما يستطيعون من خبز ومؤونة. وعند المغرب يلجأون إلى "الوعر"، حيث يبيتون ليلتهم في العراء على الأرض، أو على ما حملوه معهم من متاع بيوتهم.
في أواخر الصيف انسحب "جيش الإنقاذ" من تلّة العباد، وطلب من الأهالي أن يساعدوه في نقل عتاده على جمالهم وحميرهم إلى بنت جبيل، واستولى اليهود على التلة وكانوا يمطرون القرية برصاصهم من حين إلى آخر.
وفي أحد الأيام، وبعد أن تسللنا إلى بيوتنا نهارًا، سمعنا صراخًا عاليًا، وفوجئنا بالأهالي يهربون ويقولون أن هناك جيشًا غريبًا جاء إلى البلدة من جهة الداخل اللبناني، وأغلب الظن أنهم يهود. فهربتُ مع أهلي كما هرب الجميع بعد أن علمنا أنهم يعتقلون كل من يقع في أيديهم. ولاحقًا علمنا أن هذا الجيش قام بإدخال المعتقلين إلى ثلاثة منازل في البلدة، فأطلق النار عليهم ثم نسف البيوت فوق رؤوسهم... لقد كانوا من العصابات الصهيونية التي ارتكبت مجزرة رهيبة في حولا ذهب ضحيتها حوالي مائة شهيد.
بعد أن خرجنا من البلدة، ترافقت وأمي وعلى يدي رضيعتي التي لم تتجاوز الشهر من عمرها، وفررنا باتجاه الوعر مع من هرب من دون أن ندري، حينها، بما يدور في القرية، وعندما وصلنا إلى مكان بعيد عن البيوت اختبأنا تحت زيتونة كبيرة، وصوت الرصاص الغزير يخرق الأجواء، فقالت أمي: "هذا الرصاص الكثير من فعل اليهود لا من فعل العرب".
وبعد قليل من جلوسنا شاهدنا والدي يقترب وأمامه قطيع الأبقار الذي نملكه. ثم طلب مني أن أقوده إلى منطقة بعيدة ويبقى هو مع أمي. وانطلقت في هذه المهمة، والرصاص يتطاير فوق رأسي، وكل من ألتقي به كان يستغرب وجودي ويؤنبني على جرأتي على السير في مثل هذه الظروف. وبعد إنجاز المهمة عدت إلى أبي وأمي، وكل ذلك وأنا حافية والدماء تسيل من قدمي. ثم تابع أبي سيره، وتركنا على أمل أن نلتقيه لاحقًا.
بعد قليل نوينا أن ننتقل من هذه المنطقة المكشوفة، وسرنا معًا حفاة فوق الأشواك والأحجار. ثم طلبت أمي أن تحمل الصغيرة بعد أن ظهر التعب عليّ. ما إن أخذتها وسرنا لدقائق حتى قالت لي: "خذي البنت"، وسكتت.
وادي السلوقي: في مكان ما هنا احتضنت خديجة والدتها وهي تجود بنفسها!

 فتناولتها من يديها، وإذ بها تترنح وتسقط على الأرض، فسألتها عمّا أصابها، وإن كانت تعثّرت بشيء فلم تُجبْ. فوضعت الصغيرة على الأرض واحتضنت أمي فإذ بيدي ترجع مليئة بالدماء، ويدها كانت كذلك بعد أن امسكتْ موضع الألم... يا حسرتي! لقد اخترقت رصاصة يهودية جسد أمي! فاحتضنتها بكلتي يدي وقرّبتها من صدري، ثم حّولت ركبتي وسادة لها. وكنت أنقلها من ركبة إلى أخرى عندما أشعر بالتعب.
بقيتُ على تلك الحال من الصباح إلى المساء، الرصاص يتطاير فوق رأسي، وأمي على ركبتي تنزف حتى الموت، وابنتي تبكي إلى جانبي فأرفعها إلى صدري وأرضعها لعلّها تجد شيئًا من الحليب، ثم أعيدها إلى مكانها، حتى اقترب موعد الغروب، وأنا على تلك الحال ونفسي تحدّثني بضرورة أن أذهب وأخبر عما جرى لأمي، وما أن أهمّ بتركها حتى يرتسم في ذهني خوف من أن يهاجمها ضبع أو وحش في تلك البراري.
وعندما بدأ الظلام يحلّ لم أجد بدًا من الذهاب، فحملتُ صغيرتي وسرتُ حافية أبحث عمن يساعدني وأنادي أهلي لعلّهم يسمعونني.
وفي طريقي شاهدت مجموعة من أشجار البطم الكبيرة، وتحتها قطيع من البقر يلتهم ما خزّنه الأهالي بعد أن حملوه من بيوتهم. التفتتُ فوجدتُ جرّة من الفخار مملوءة بالماء، فاندفعت نحوها بعد أن أنهكني العطش طوال النهار، قلبتها قليلًا على جنبها لعجزي عن حملها، وشربت من حافتها مرة واثنتين وثلاثًا حتى ارتويت.
بعدها تابعتُ سيري وأنا أنادي أهلي طويلًا حتى سمعتهم يجيبونني. تتبعت الصوت حتى التقيت بهم وحدثتهم عن استشهاد أمي، فهدأوا من روعي وطلبوا مني الذهاب إلى بلدة شقرا المجاورة، حيث انتظرتهم حتى منتصف الليل، فأحضروا جثمان والدتي وتركوه حتى الصباح. غسّلوها وصلّوا عليها ودفنوها هناك.
بقينا في شقرا حوالي خمسة أشهر، ثم نقلتنا الدولة اللبنانية إلى منطقة ضبية حيث أُقيم لنا مخيم أقمنا فيه حوالي ستة أشهر، عدنا بعدها إلى حولا لنجدها مدمّرة وقد جرت فيها مجزرة مروعة، وحُفرت فيها القبور الجماعية، وما تزال بعض الجثث ترقد تحت الأنقاض.
لقد ذقنا المرارة الكبرى، ودفعنا ثمنًا باهظًا منذ وجود "إسرائيل"، في ظل السكوت الدولي...

المصدر: موقع المقاومة الإسلامية، جلال شريم.

التعليقات (0)

اترك تعليق