بَعْثُ الحَكَمَين..حَكَماً من أهله وحَكَمَاً من أهلها: من السنن المهجورة بعثُ الحكمين عندما يختلف الزَّوجان للإصلاح بينه
من السنن المهجورة بعثُ الحكمين عندما يختلف الزَّوجان للإصلاح بينهما، وذلك قبل أن يستحكم الخلاف والشِّقاق، لقوله تعالى: «وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا»(سورة النساء، الآية:35).
كيف يعالج الإسلام هذه المشكلة، وما هي صلاحيّات الحَكَمَين، ومن يجب عليه أن يختارهما.[...].
إنّ الله تبارك وتعالى هو مصدر التّشريعات الإسلاميّة، وهو العالم بكلّ مكنونات الإنسان وما يُصلحه وما يُفسده. وعليه فإنّ هذه التشريعات قد وضعت حلولاً ومعالجات لكلّ ما يحصل للإنسان في حياته، لو التزم بها لتلافي كثيراً من المشاكل والإنحرافات والمخالفات التي يرتكبها. ومن جملة هذه المشاكل: الشِّقاق بين الزّوجين.
معنى الشِّقاق:
الشِّقاق هو نشوز الزّوج والزّوجة معاً، فكأنّ كلّ واحد منهما جانب (وشِقّ)(1)، والشِّقاق المخالفة وكونك في شقٍّ غير شقّ صاحبك، أو مِن شقِّ العصا بينك وبينه(2).
يقول صاحب الجواهر(قدس سره): والظاهر تحقُّق الشّقاق بينهما بالنّشوز من كلٍّ منهما، ومن هنا كان المحصّل من الأصحاب في المراد من الآية «وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا» إضمار الإستمرار، بمعنى وإن خفتم استمرار الشِّقاق بينهما أو كَوْن المُراد بالخوف، العلم والتّحقّق(3).
الوجوب وعلى مَن
قال تعالى: «وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُريدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَليمَاً خَبيرَاً»(سورة النساء، الآية:35).
ظاهر الآية وجوب البعث شرعاً لقوله تعالى (فابعثوا)، وعلى مَن يجب؟
مَن هو المخاطَب في قوله تعالى (فابعثوا) و(خفتم)؟ هل هو الرجل أم المرأة لأنّ الأمر يتعلق بهما، ولو كان المطلوب منهما أن يبعثا الحكمين لأتى نصّ الآية (فإن خافا شقاق بينهما) وكذلك (بعثا)، ولكن النصّ لم يأتِ كذلك.
أي أنّ المخاطَب غير الزوجين؟
المتيقّن منه (أنّه) الحاكم الشرعي، وفي مثل عصرنا لا يبعد شمول الخطاب للعلماء، ويحتمل أن يكون المخاطَب به جميعَ المكلّفين سوى الزّوجين، فيجب عليهم بالوجوب الكفائي محاولة الإصلاح ورفع الشَّقاق ولو بالتّفريق المشروع، والقول بتوجيه الخطاب المذكور من الآية إلى الزّوجين نفسيهما ضعيف جداً(4).
ما يُشترط في الحَكَمَين
1- يعتبر في الحكمَين العقل والبلوغ وأهليّة التّوفيق، أمّا العدالة فغير معتبرة لعدم الدّليل عليها.
2- والمهمّ في الحكمَين أن يكون كلّ واحدٍ منهما يريد الخير للزّوجين، ويكون لديهما اطّلاع عليهما ليتمكّنا من حلّ المشاكل بينهما توصّلاً للإصلاح.
3- والهمّ من كلّ شيء أن يكون الحكمان عالمَين بالأحكام الشرعيّة المتعلّقة بعملهما من جهة فصل المخاصمات بين الزّوجين، وإلزام كلّ منهما ما يجب عليه من الحقوق والواجبات(5).
عمل الحَكَمَين
إنّ وظيفة الحكمين وظيفة خطيرة جداً، إذ يتوقّف على عملهما مصير أسرة قد تكون مؤلّفة من مجموعة أفراد، فإن تفرّق الزّوجان انفصمت عُرى هذه الأسرة وتفكّكت، وخاصّة إذا كان الأولاد والبنات صغار السِّن، فإنّهم سوف يعيشون حالات غير سويّة من حيث العواطف، وتنمو شخصيّاتهم على المكايدة من جهة تأثير الأبوين عليهما تأثيراً سلبيّاً يؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه.
ولذا، لا بدّ للحَكضمَين من أن يُحكِّما ضميريهما في شأن الزَّوجين، وهنا لا بدّ من القيام بخطوات عدّة:
أولاً: أن يسمعا رأي كلّ من الزّوج والزّوجة ليقفا على أصل المشاكل التي أدّت إلى الشِّقاق، وتحليل موقفيهما تحليلاً دقيقاً، والوقوف على مراميهما ومقاصدهما من كلامهما بمختلف الأمور.
ثانياً: البحث في حقوق كلّ من الزّوج والزّوجة الشرعيّة، ومعرفة الأحكام الشرعيّة التي لا بدّ من تطبيقها في حقّهما، مثل حفظ مهر الزّوجة وحقّها في الحضانة، وكذلك حقّ الزّوج في حضانة أولاده، وما يترتّب عليه من الحقوق حين الطّلاق.
ثالثاً: تذكير كِلا الزوجين بعواقب أعمالهما وما يترتّب عليه اقترافهما من الحقوق لكلٍّ تجاه الآخر، ومن تدمير أسرتهما وضياعها، وكذلك إطلاعهما على ما في الإصلاح من النّفع لهما.
رابعاً: أخذ الإذن من الرّجل والمرأة في القيام بالمفاوضة عنهما بمختلف الأمور، وأنّهما مُطلقا الصلاحيّة في الإصلاح والطّلاق إنِ اتّفق الحَكَمان عليه.
يقول الإمام الصادق (ع): "لا يكون تفريقٌ حتى يجتمعا (أي الحكمان) على التّفريق، فإن اجتمعا على التّفريق جاز تفريقهما".
وفي نصٍّ آخر سُئل الإمام (ع): "أرأيت إن قال أحد الحَكَمَين قد فرّقت بينهما، وقال الآخر لم أفرّق بينهما، قال (ع): لا يكون تفريقٌ حتى يجتمعا على التّفريق".."فإن اجتمعا جاز التّفريق بينهما"(6).
شروط التّفريق
لا يصحّ التّفريق بين الزّوجين إلّا بثلاثة شروط:
الأوّل: إذن الزَّوجين للحَكَمَين بالتّفريق.
الثاني: إتّفاق الحَكَمَين على التّفريق.
الثالث: توفّر الشَرائط المعتبرة في الطّلاق، وهي كون المرأة في طُهْرٍ لم يقاربها فيه زوجها(7).
جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال: "ليس للحَكَمَين أن يُفرّقا حتى يستأمرا الرّجل والمرأة ويشترطان عليهما إن شاءا جمعا وإن شاءا فرّقا؛ فإن جَمعا فجائز، وإن فرّقا فجائز"(8).
نفوذ حُكم الحَكَمَين
المفهوم من الآية «وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا» والأحاديث التي أوردناها في هذا الموضوع، نفوذ حُكم الحكَمَين على الزّوجين في غير الطّلاق، بل في الطّلاق أيضاً في صورة الإشتراط من الأوّل، فيجب على الزّوجين إمضاء ما حكم به الحَكَمَان المذكوران.
نعم، إن رفعا شقاقهما قبل حُكم الحَكَمَين أو تراضيا بعدما حكما، يسقط وجوب الإمضاء. وجاء في روايتين قول الإمام الصادق (ع): "جاز تفريقهما، وإن فرّقا فجائز" معناه نفذ ونافذ(9).
الهوامش:
(1)- الفتّال النيسابوري، روضة المتّقين: 9/134.
(2)- مفردات الراغب، مادّة "شق" 264.
(3)- الجوهري، جواهر الكلام: 3/233 عنه الشيخ محسن آصف، حدود الشريعة: 9/95.
(4)- حدود الشريعة: 3/94.
(5)- حدود الشريعة: 9/95.
(6)- روضة المتقين: 9/134.
(7)- حدود الشريعة: 3/94.
(8)- روضة المتقين: 9/135.
(9)- حدود الشريعة: 9/94.
المصدر: مجلة شعائر، العدد الثامن عشر.
اترك تعليق