مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

 الأدوار الجنسية (من كتاب المرأة هويتها الجنسية وأدوارها الاجتماعية)

الأدوار الجنسية (من كتاب المرأة هويتها الجنسية وأدوارها الاجتماعية)


١- مفهوم الدور
١-١- الدور (Role)
إنّ مفردة الدور مستلّة من معنى خاص هو المسرح، وهي متضمنّة امفاهيم ومارد متعدّدة:
١- الإشارة إلى شيء متقدّم على حامله، أي الممثّل؛ إذ إنّه موجود حتى بعزل عن الدور.
٢- الدور يمكن أن يوصف بأنّه مجموعة من السلوكيات والتصرّفات.
٣- كلّ دور لا بدّ من أن يكون منسجمًا مع السلوكيات الأخرى، بحيث يمكن القول: إنّ الدور جزء من مجموعة كبيرة.
٤- بما أنّ الدور متقدّم على الممثّل، يجب عليه أن يتدرّب عليه ويتعلّمه ليتمكّن من التمثيل (إذن، توجد علاقة مباشرة بين الدور والتعليم).
٥- لا يوجد دور يستحوذ على الممثّل بصورة تامّة؛ وعليه، فهو يستطيع تعلّم أدوار متعدّدة والقيام بها.
٦- لا تنصهر شخصية الممثّل في الدور، بل إنّه كيانا في ما وراء الدور أيضًا(١).
وكما هو ملاحظ تعتبر العناصر المذكورة من جملة مختصّات الدور في المسرح والموارد المشابهة له، ومن البديهي أنّ بعض هذه العناصر لا تجري بعينها في الأدوار الإجتماعيّة من قبيل الأدوارالجنسيّة. فعلى سبيل المثال، المسافة التي تفصل بين الدور الفنّي والتمثيلي وبين الممثل غير موجودة بين الأإنسان وأدواره الجنسيّة. ومع أنّ الإنسان لا يذوب في الأدوار الجنسيّة أيضا، لكن ثمّة ارتباطا وثيقا جدّا بين المذكور وشخصية الفرد، تنبع من الاستمرار والتواصل في أداء الأدوار الجنسيّة.
في الدّراسات الاجتماعيّة الحديثة أيضًا يُعتقد بأنّ الدور يتبدّل من معنى لنحوٍ من السلوك المحدّد سلفًا إلى قاعدة سلوكية فردية، أي من مفهوم اجتماعي الى مفهوم أساسي في علم النّفس الاجتماعيّ(٢). وهذا الأأمر يكشف عن أنّ الدور قادر على التحوّل إلى سلوك معيّن وجزء من أركان شخصية الفرد، والاتّصاف بثبات واستقرار خاصّ.
١-٢- الأدوار الجنسيّة
المراد من الجنس هنا النوع الاجتماعيّ (Gender)، وعلى الرغم من أنّ استعمال مصطلح "النوع الاجتماعيّ" مقابل "الجنس" يفيد التفريق من حيث المفهوم، وهو ما طرأ على هذين اللفظين منذ سبعينيات القرن الماضي، إلّا أنّ هذا الاصطلاح يراد منه في هذه الدراسة ما هم أعمّ من البنية الثقافية والاجتماعية. وفي الحقيقة، إنّ مرادنا من الأدوار الجنسيّة هو الوظيفة الملقاة على عاتق كلّ واحد من الجنسين، وما يُتوقّع أن يقوم به؛ مع قطع النّظر عن كون منشئه هو الطبيعة أو الثقافة أو التوقعات العمليّة. وبعدئذ، سنفصّل بين الأدوار المتنوعّة في ثنايا البحث بحسب الحاجة.
٢- المفاهيم ذات الصلة بالدور
٢-١- الوضع(٣)
يعتقد بعض علماء الاجتماع أنّ وظيفة المجتمع رهن بوجود أنماط سلوكية متبادلة متداولة بين الأفراد أو المجاميع المتشكّلة من الأفراد، ونحن نعبّر عن المواقع القطبية (الموجودة في القطبين والطرفين النهائيين) في هذه الأنماط السلوكيّة المتبادلة ﺑ"الوضع".
وعلى أيّ حال، الوضع هو موقع في نمط خاص، يُبرز مكانة كلّ إنسان بالنسبة إلى المجتمع بصورة عامّة. وعليه، فالموقع المعروف الذي يحتلّه الفرد يمثّل مكانة الأفراد(٤)، نحو محلّ العمل، والمواطنة الاجتماعيّة، ومجموعة المناسبات العقدية، والمنزلة العائلية. ثمّ إن الوضع -مع قطع النّظر عن الفرد الذي يشغله- عبارة عن مجموعة من الحقوق والتكاليف المعيّنة(٥).
وعلى هذا الأساس، يكون التمايز بين الحقوق والتكاليف على حسب الأأوضاع المتفاوتة أمرا معقولا تماما، بل إنّ التمايز المذكور أساسا يمكن أن يكون مقوّما لوجود الوضع.
ومن هنا، يمكن القول: "الدور يظهر الجانب الفاعل للوضع؛ فعندما يراعي الفرد الحقوق والتكاليف المتّصلة بالوضع، يكون قد أدّى دوره. إذن، الدور والوضع أمران متلازمان ولا ينفصلان"(٦).
وفي المحصّلة، ثمّة ارتباط مباشر بين الدور والحقوق والتكاليف المتمايزة. وقد ذهب العالم الاجتماعيّ لينتون إلى أنّ تقسيم الأوضاع (الأدوار) وانتسابها على أساس جنسي يعدّ معيارا جوهريا في جميع النُظم الاجتماعية؛ إذ إنّ المجتممعات كافّة تحمل رؤى متباينة بشأن النساء والرجال، وتحدّد لهم وظائف متغايرة(٧).
٢-٢- المنزلة
تتناول مباحث علم الاجتماع الخاصة بالدور مصطلح "الأدوار المنزليّة (Status Roles)". وتقع هذه الأدوار ضمن نظام يتوقع كلّ واحد من الأطراف فيه قيام الطرف الآخر بأداء تلك الأدوار(٨)؛ بمعنى وجود ارتباط بين هذه الأدوار والتوقعات. ويتّضح من هذه العبارة أنّ الأدوار المنزليّة ذات صلة بالقواعد والقيم المتداولة التي تدار من قبل المجتمع والمؤسسات المختلفة(٩).
بناء على ذلك، فهذه الأدوار مقرونة دائما بالتقييم المعنوي، ويمكن للإدارة الثقافيّة أو الوضع الفكري التأثير على استمرار قيمتها أو تغيّرها، وأصل هذا التغيير وكذلك عمقه وسعته موقوف على مدى قابلية التوقعات المتبادلة للتغيير. ومن الجدير بالذكر أنّ وجود مناشء طبيعية أو اعتبارية للتوقعات، وكذلك النظام العقدي والإيديولوجيات، سوف تكون مؤثرة في مجال تغيير الأدوار المنزليّة أو ثباتها ودوامها. ثمّ إنّ المنزلة التي يحدّدها المجتمع لدور ما تنتقل بنحو من الأنحاء إلى من يمتلك ذلك الدور. "الشخص هو فرد له منزلة ليس بالضرورة أن تكون قانونية بل يكفي كونها اجتماعيّة". على أن الارتباط بين المنزلة والدور إنما يكون مهمّا من حيث إنّه قادر على أن يترك أثرا على السلامة الروحيّة أو الأزمات النفسيّة؛ وعليه، فهذه المسألة لها تأثير أيضا على هوية الفرد، فقال روبرت ازرا بارك في هذا الصدد: "الانطباع الذي يخرج به الفرد عن نفسه في الوضع الطبيعي مساوق للمنزلة التي تلحظها المجموعة له"(١٠). وإلا لكان هذا الفرد مجنونا من وجهة نظر بارك!
ومن البديهي أنّ لهذا البحث تأثيرا كبيرا جدّا في موضوع بحثنا، أي الأدوار الجنسية؛ فلو قُلِّلَ من المنزلة الاجتماعية لدور ما كالتدبير المنزلي، ففضلا عن تأثيره على نظام الطبيعة والقيم المتصلة به، وإحداث تغيير في مستوى الطموحات، سيؤثر أيضا في الصورة والهويّة ألانثوية للنساء.
ومن هذا المنطلق، قال بارك بكلّ صراحة: "إنّ مفاهيمنا عن أنفسنا مردّها إلى المنزلة الاجتماعية والأدوار التي نقوم بها في المسرح الاجتماعيّ؛ ولذا فالمفهوم الذي يحمله كلّ فرد عن نفسه يقوم على أساس تقسيم العمل والانتظام بحسب المنزلة"(١١).
وبالطبع لا يمكن إنكار أنّ تقييم الأدوار يمكن أن يكون في بعض المراحل تابعا للنظرة الأنطولوجية إلى كلٍّ من الرجل والمرأة؛ وعليه، فقد يوجب الحطّ من قيمة النساء انخفاض قيمة أدوارهنّ بقطع النّظر عن الدور الذي يضطلعن به. ترى آن أوكلي، الباحثة في مجال المرأة، التي قامت بدراسات كثيرة حول الدور المنزلي للنساء، رأيا من شأنه تأييد ما ذهبنا إليه، إذ قالت: "إنّ الإحجام عن القبول بالتدبير المنزلي كعمل للمرأة هو السبب وراء تدنّي منزلتها في المجتمع، وفي هذا الرفض تحقيق لعكس الهدف المبتغى"(١٢).
ومقصودها من هذه العبارة أنّه توجد علاقة ثنائية بين انحدار منزلة النساء في المجتمع وبين امتناعهنّ عن القبول بالتدبير المنزلي. فمن جهة، هبوط منزلة المرأة في المجتمع يؤدّي إلى رفضهنّ الانصياع إلى القيام بالأدوار المحسوبة أدوارًا نسوية؛ من باب أنّهنّ يرين وجود صلة بين هذا الهبوط وتلك الأدوار. ومن جهة أخرى، تمنّع النساء عن القبول بهذه الأدوار ينجم عنه تدنّي منزلة المرأة في المجتمع. ومن الواضح أيضًا أنّه حينما تشتغل معظم النساء بالتدبير المنزلي، وفي الوقت ذاته لما ترفض بعض النساء بشكل ممنهج الموافقة على هذا الدور، قستقلّ منزلة النساء المشار إليهنّ بشكل ملحوظ. وقل بعبارة مغايرة: إنّ إحجام عدد من النسوة عن قبول التدبير المنزلي ورفضهنّ الكون كربّات بيوت، سيقلّل بشدّة من منزلة العمل الاجتماعيّ.
ومن ناحية أخرى، يبدو أنّ الصلة بين المنزلة والدور تابعة للرؤى السلطوية للمجتمع؛ فذهب بعض علماء الاجتماع إلى أنّ للمجتمع حقيقة مؤلمة، إذ يفرض الأدوار التي يحتاجها على الأفراد. والمراد بالحقيقة المؤلمة هو أنّ المجتمع يحدّد لكلّ وضع ودور مجموعة من المواقف الساكنة والسلوكيات، ويُلزم الشخص في مثل تلك الأوضاع أن يقف منها موقف المجابه. ومن هنا، لو وافق على هذه الطموحات والتوقعات، فصحيح أنّه سيفقد فرديّته لكنّه في المقابل سيحظى بتأييد المجتمع الذي يعيش فيه؛ بينما لو تصرّف خلافا لطموحات المجتمع وتوقّعاته فإنّه سيحصل على استقلال انتزاعي؛ لكنّه مقرون بغضب المجتمع ومقاومته، ويعتبر -اصطلاحًا- منحرفًا(١٣).
وعلى الرغم من أنّ هذه الرؤية وردت بشأن الأدوار الاجتماعية، إلّا أنّها تشمل الأدوار الجنسيّة لأنّها إحدى مصاديقها بلا ريب؛ وبناءً على ذلك، فإنّ كلذ تغيير في التوقعات والرؤى الاجتماعيّة حول الأدوار سيؤثّر على موقف الأفراد واختيارهم لأدوارهم. ومن أبرز نتائج هذا البحث، ضرورة الإدارة الثقافيّة في مجال الرغبات والطموحات والتوقعات العامّة.
٣- مناشئ الأدوار الجنسيّة
يتحصّل من البحوث المطروحة في علم الاجتماع وجود ثلاث نظريّات لشرح منشأ تقسيم العمل وفقًا للجنس، هي: ١- الطبيعة (الحدود والقابليات)؛ ٢- الثقافة والمجتمع؛ ٣- التصنيع.
٣-١- الطبيعة
بداية، لا بدّ لنا من التصريح بأنّ مرادنا من مفردة الطبيعة في هذا المقام هو الأعمّ من البيولوجيا والأمور النّفسيّة؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ نظريّات علماء الأحياء وعلماء التحليل النّفسي، ﻛ"فرويد"، الواردة في بيان منشأ التفاوت بين النساء والرجال وصلة ذلك بالدور، تندرج في هذا القسم أيضًا. وفي هذا الإطار، كثيرًا ما نرى بعض الأشخاص يعزون التفريق بين الأدوار من منطلق جنسي إلى الفوارق والاختلافات الطبيعية بين المرأة والرجل، كما لا زالت الاختلافات السيكولوجية أو تباين المرأة والرجل في الإنجاب تشكّل أساسًا ومنطلقًا لدى أكثر المجتمعات لتبرير تقسيم المراتب والأدوار بين الرجال والنساء(١٤).
وفي الرؤية الدينية، تسند العلاقة بين الدور والجنس إلى هذه الاختلافات إلى حدّ ما؛ فتتعزّز هذه النّظرية بقدر ثبوت تلك الاختلافات بين الرجال والنساء من الناحية العلميّة. أمّا بالنسبة إلى الحركة النّسويّة فقد دأبت على تجاهل البحوث العلميّة الناظرة إلى تعيين الفوارق وتسليط الضوء على حدودها، فعمد أنصارها إلى التقليل من أهمية العوامل البيولوجيّة والسيكولوجية للتفاوت من خلال التأكيد على المنشأين الثاني والثالث من المناشئ الآنفة. وكلّما أمكن إضعاف إسناد العلاقة بين الدور والجنس إلى المنشأ الطبيعي، ساغ الإشكال على التفريق بين الأدوار الجنسيّة؛ لأنّه في الفرض المذكور لا يتيسّر التلاعب بالعلاقة بين الدور والجنس. وفي هذا السياق، تعرّضت الصلة بين الدور والخصائص السيكولوجية إلى إنكار أشدّ.
فعلى سبيل المثال، رفض ينستون تقسيم العمل بين الجنسين في مقاله "المباني السيكولوجية، المرتبة والدور"(١٥). ولطالما عوّل هو ومن يشاطره الأفكار ذاتها على البحوث التي قام بها كلّ من مارغريت ميد، ومورغان، ومرداك؛ إذ أوضحت أنه ليس ثمّة أنموذج ثابت في تقسيم العمل الجنسيث بين النساء والرجال، فبعض الأعمال تسند في قبيلةٍ ما إلى الرجال، بينما توكل الأعمال نفسها في قبيلة أخرى إلى النساء. لكنّ هؤلاء الباحثين لم يجيبوا عن هذا التساؤل: إلى أيّ حد تستطيع استثناءات من هذا القبيل، بعدما تكرّر ورودها في بحوث علم الاجتماع، أن تمثّل إشكالا على أنموذج تقسيم العمل الجنسي؟
الطريف أنّ ينستون نفسه يقول بصراحة: "أنموذج التقسيم الجنسي ثابت على كلّ حال"(١٦)؛ بمعنى أنّ عمل النساء والرجال منفصل بعضه عن بعضه الآخر في المجتمعات في جميع الأحوال، فبعد ظهور شغل أو عمل معيّن يتكفّل كلٌّ من الرجال والنساء بجانب منه.
لكن، يجب التساؤل: إن لم يحصل تقسيم العمل على أساس المطالب والخصائص المرتبطة بالجنس، كالاختلافات الجسديّة والنّفسيّة، فهل يمكن عندئذ أن يطلق على هذا التمايز اسم "أنموذج التقسيم الجنسي" أيضا؟
إن أمكن إثبات أن التوجّه العامّ أو الغالب لتقسيم العمل، حتى على مستوى النشاطات الاجتماعية والاشغال، يسير وفقا للخصائص الجنسيّة (أي يختار كلّ واحد من الجنسين فئة معيّنة من الأفعال المتناسبة مع طبيعة جنسه)، يتسنّى حينئذ الموافقة على وجود علاقة طبيعية بين الجنس والدور، حتى لو عمدت النساء بدلا من لعب دور جنسي في الأسرة إلى أداء الدور ذاته في أبعاد أوسع وعلى صعيد المجتمع. ثمّ إنّ إعطاء الأولوية إلى المجتمع يجعل تقسيم العمل المزبور ينساق إلى المجال الاجتماعيّ، ومن الواضح أنّه لو كانت نظريذة ما بصدد الحفاظ على المنزل والأسرة والمجتمع للرجال والنساء، فهي مضطرّة إلى تأسيس مشروع يرمي إلى تقسيم العمل بين الجنسين. وكلّما حُدّدت أهداف مشتركة أكبر بين الأسرة والمجتمع، تتجلّى ضرورة تقسيم العمل أكثر من ذي قبل؛ ومن هنا، إذا ما صُمّم هذا المشروع في ضوء احتياجات المنزل وقدرات أعضائه بيولوجيا وفيريولوجيا، فسيكون مرشحا لعمر أطول وحياة أفضل. ومن البديهي أنّه يتعذّر وضع أعمال متساوية كمّا وكيفا وفي عرض واحد للرجال والنساء، كان ردّ الرجال والنساء في الاسرة مرتكزا قدر الإمكان على سدّ النقص الحاصل من غياب أحدهما؛ بمعنى أنّ أحد الطرفين يسعى إلى القيام بعمل أكبر وبذل جهد أكثر في الاسرة، بحيث يسدّ مكان صاحبه، ولا يبقيه بحال من الأحوال فارغا(١٧).
٣-٢- الثقافة والمجتمع
النّظريّات التي تعزو تمايز الأدوار على أساس جنسي إلى الثقافة والمجتمع كثيرة للغاية، وربما أمكن ادّعاء أنّ كلّ واحدة من تلك النّظريّات تتعقّب أهدافها الخاصة بها.
٣-٢-١- نظريّة الحركة النّسويّة
طُرح التفكيك بين مفهومي الجنس (Sex) والنوع الاجتماعيّ (Gender) في عصر التنظير للحركة النّسويّة(١٨)؛ أي ما بين الستّينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فالنوع الاجتماعيّ كان مفهوما جديدا أريد له أن يضع حجر الأساس لنظريّة بديلة للنظريّة البيولوجيّة للفوارق والاختلافات، وتذهب نظريّة النوع الاجتماعيّ إلى أنّ الأنوثة (Femininity) عبارة عن بنية اجتماعيّة، وهي وفقا للمعايير الثقافيّة والاجتماعيّة تعني القيام بأدوار خاصة، كالتدبير المنزلي والأمومة. بناءً على ذلك، فالمجتمع هو الذي أوجد توقّعات خاصة من الرجال والنساء، ودفه بهم إلى أداء أدوار متغايرة، وأنشأهم على هذه الشاكلة(١٩). وأصرّ هؤلاء على أنّ الدور البيولوجي للمرأة في الحمل والوضع لا يشكّل مستندا كافيا لتوجيه التمايز في الأدوار.
مع العلم بأنّ النّظريّات النّسويّة لم تتّفق على رأي واحد حول إرجاع التمايز في الأدوار إلى الثقافة أو العناصر الثقافيّة المختلفة. وبعبارة أخرى: ثمة رؤى متعدّدة بشأن منشأ الاختلافات الجنسيّة أوجبت ظهور التمايز في الأدوار؛ فعلى سبيل المثال، قدّمت نظريّات ما بعد الحداثة تقريرات متباينة في هذا الخصوص، ومن ذلك كانت جوليا كريستيفا من ضمن الأاشخاص الذين ذهبوا إلى أّنّ الاختلافات تظهر في حدود الأوامر الرمزية (أي اللغة بجميع قواعدها اللغوية والنحوية) (٢٠). وبما أنّ حدود الأوامر المذكورة رجالية، فإن لها تركيبة تعمل على انحطاط الأدوار النّسويّة. مع العلم أنّ كريستيفا في الوقت الذي قالت بالإرجاع المشار إليه، اعتبرت تجربتها في الحمل والأمومة أمرا نسويا باعتباره دورا فرديا لا تشعر به إلّا النساء، وأحجمت عن إرجاع ذلك إلى الثقافة واللغة(٢١). وبذلك، تعرّضت إلى انتقادات لاذعة من أنصار الحركة النّسويّة الآخرين، الأمر الذي يبنئ عن التيه والتحيّر في الرؤى المذكورة في ما يرتبط بمنشأ الأدوار الجنسيّة.
ثمّ إنّ مجموعة من تلك النّظريّات، وعلى الرغم من تأكيدها على المنشأ الثقافي للتمايز، لم تتمكّن من الإغضاء عن الخصوصيات الطبيعية البارزة التي أوجبت حدوث التقسيم في الأدوار، وكثيرا ما وقعت في التناقض في تعريف النّسويّة والأمر النسوي والرجالي، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى النّظريّات النّسويّة الراديكالية(٢٢)، ولا شكّ في أنّ أحد أهمّ عوامل الاختلاف هنا هو فقدان نظرة عامّة وشاملة بشأن التساوي والتفاوت(٢٣). إنّ الحركة النّسويّة في إطار الحداثة تسعى إلى إيجاد مفهوم عن المساواة تلغى بموجبه الأدوار الجنسيّة. ونظريّات ما بعد الحداثة أيضا وقعت أسيرة في حلقة التفاوت -باعتبارها جوهر نظريّات ما بعد الحداثة- ووقفت على مفترق طرق، أحد طرفيه يؤدّي إلى الاعتراف بصواب تمايز الأدوار والآخر إلى إنكاره.
٣-٢-٢- نظريّة علم الاجتماع الوظيفي
تبتني النظريّات الوظيفيّة على أهمية البنى والهيكليات. و"من وجهة نظر علم الاجتماع الوظيفي، إن اعتُبر الكلّ من حيث كونه رؤية غائيّة دليلا وجوديا للجزء، وعُدّت وظيفة الجزء بوصفه معلولا رافعة لاستمرارية التعادل ووفاق الحياة، ونظرنا إلى الظواهر الكلية كعلّة وجوبية، فحينئذ نحرز تقدّم المجتمع بشكله الكلي على الأجزاء الاجتماعيّ للنظام الاجتماعيّ"(٢٤). ومن هنا، نرى أنّ النّظريّات الوظيفيّة تركّز على التقدم الرتبي والأساس للكلّ على الأجزاء؛ وعليه فالمصالح الاجتماعيّة أيضا متقدّمة بنحو ما على المصالح الفردية.
وفضلا عن التقدّم المذكور، من الضروري أن تتّسم هذه النّظريّات بوحدة العناصر المكوّنة للنظام الاجتماعيّ المسمّاة بالوحدة الوظيفيّة، وكذلك كلّ جزء من النظام يقوم في الوقت اللازم بالوظيفة المناسبة له، وهو ما يُطلق عليه اسم التوازن الوظيفي(٢٥).
النقطة الثالثة الحائزة على أهمية فائقة في محلّها هي أنّ النّظريات المزبورة تلتزم بنظام أخلاقي معيّن قائم على التوقّعات السلوكيّة(٢٦)؛بمعنى أنّه توجد توقّعات محدّدة من الأفراد والمجاميع في هذ النّظريّات، تتناسب مع الوضع الذي هم عليه، وهذه الانتظارات خضعت بطبيعة الحال إلى التقييم أيضا. ومن البديهي أنّ عمليات التقييم مؤثّرة في تقعيد السلوك، وكلّما كان نمط التقييم أوسع زاد نطاق تأثيره بمقدار سعته.
كان تالكوت بارسونز أحد المنظّرين للوظيفية البنيوية، وظلّت نظريّاته مسيطرة في حدود اللغة الإنجليزية على النّظريّة الاجتماعيّة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى أواسط العقد السابع من القرن الماضي(٢٧). وقد أسّس نظريته على بضعة أمور، لكلّ واحد منها تأثيره وأهميته في بنية النّظريّة:
١- الاعتقاد بشَبَه نظاميّ بين المجتمع (الحياة الاجتماعيّة) والنظام الحيّ.
٢- التأكيد على الثبات والنظم(٢٨).
ويستشّف من النقطتين الآنفتين وجود خصائص ثبات للحياة الاجتماعيّة أيضًا، تشبه ما هو موجود في الأنظمة الحيّة، وثمّة نزوع في الأنظمة الحيّة إلى التوازن، أو لون من العلاقة الثابتة والمستقرّة والمتّزنة بين أجزائه المختلفة(٢٩). كما إنّ الحفاظ على المنزلة من مستلزمات هذه العلاقة الثابتة؛ بناء على ذلك، كلّ جزء مكلّف بلعب دور معيّن للحفاظ على تعادل الكلّ.
على أنّ هذه النظرة الكلية موجودة أيضا بشأن الأسرة وارتباطها بالنظام الخارجي للمجتمع؛ وعلى هذا الأساس، شدّد بارسونز على تمايز الأدوار طبقا لأنموذج "على الرجل الإنفاق وعلى المرأة تدبير المنزل". فالحفاظ على هذا النمط يعود بالنفع على الأاسرة وعلى المجتمع أيضا.
مع العلم أنّ بارسونز أكّد كثيرا على دور الأنظمة في التوقعات أيضا، أي الاتّجاهات السلوكيّة، ذاهبا إلى أنّ هذه التوقعات تتحكّم نوعا ما بعلاقات الممثّل (صاحب الدور)، بحيث تربطها ربطا وثيقا بالحاجات الوظيفيّة للمجتمع نفسه(٣٠). وبعبارة أخرى: تقوم منظومة المجتمع بتنظيم أدوار الأفراد في جميع الموارد حتى الأسرة؛ بغية الحفاظ على وظائفها المناطة بها. وذهب أيضا إلى "أنّ ترتيب وتقسيم الأدوار إلى طوائف في سياق نماذج ثابتة من التعامل (أو مؤسسات من قبيل الأسرة) يوجب إيجاد أنظمة صغيرة مترابطة ببعضها، بحيث توجد نظاما اجتماعيا مستحكما"(٣١).

٣-٣- التصنيع(٣٢)
إنّ التطوّر الصناعي والتكنولوجي ترك خلال ظهوره آثارا متناقضة على حياة النساء والرجال والأسرة(٣٣)؛ إذ كانت مسألة تقسيم الأادوار على أساس الجنس من المحاور الهامّة لتأثير التنمية الصناعية. في مستهلّ مرحلة التصنيع، أُصِّلَ تمايز الأدوار؛ لكنّ ذلك الأمر ما لبث أن اتّخذ منحى آخر بعد حدوث بعض التغييرات. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الرأسمالية وظاهرة الحداثة أيضا أذكت تلك التأثيرات المتضادّة في حياة النساء، من خلال التأكيد عل ثلاثة محاور أساسية، هي: العمل، والسياسة، والحياة المدنية(٣٤).

_________________________
(١)انظر: رالف دارندوف، انسان اجتماعي: جستاري در باب تاريخچه، معنا ومقوله نقش اجتماعي، ترجمه: غلام رضا خديوي، چاپ دوم، تهران، نشر آﮔاه، ١٣٨٣ﻫ.ش، ص٤٢-٤٣.
(٢)انظر: المصدر نفسه، ص٤.
(٣)(Status)، وينقسم الوضع إلى قسمين: الوضع المنسوب (Ascribed Status)، والوضع المكتسب (Achieved Status).
(٤)انظر: حميد عضد انلو، آشنايى با مفاهيم اساسى جامعة شناسى، تهران، نشر نى، ١٣٨٤ﻫ.ش، ص١٤٧.
(٥)انظر: لويس آلفرد كوزر وبرناردز روزنبرغ، نظريه ها بنيادي جامعه شناسى، ترجمه: فرهنغ ارشاد، تهران، چاپ سوم، نشر نى، ١٣٨٥ﻫ.ش، ص٢٩٣.
(٦)انظر: المصدر نفسه، ص٢٩٥.
(٧)انظر: المصدر نفسه.
(٨)انظر: يان كرايب، نظريه اجتماعي مدرن: از پارسونز تا هابرماس، ترجمه: عباس مخبر، تهران، چاپ سوم، انتشارات آﮔاه، ١٣٨٥ﻫ.ش، ص٥٧.
(٩)انظر: المصدر نفسه.
(١٠)انظر: لويس آلفرد كوزر وبرناردز روزنبرغ، زندﮔى وانديشه بزرﮔان جامعه شناسى، ترجمه: محسن ثلاثي، تهران، چاپ يازدهم، انتشارات علمى، ١٣٨٣ﻫ.ش، ص٤٨٥.
(١١)المصدر نفسه.
(١٢)باميلا ابوت والاس كلر، جامعه شناسى زنان، ترجمه: مُنيجة نجم عراقي، تهران، نشر نى، ١٣٨٠ﻫ.ش، ص١٧٨.
(١٣)انظر: رولف دارندوف، انسان اجتماعى: جستاري در باب تاريخچه، معنا ومقوله نقش اجتماعى، مصدر سابق، ص٤٦-٤٧.
(١٤)انظر: لويس آلفرد كوزر وبرناردز روزنبرغ، نظريه ها بنيادي جامعه شناسى، مصدر سابق، ص٢٩٥.
(١٥)انظر: المصدر نفسه، ص٢٩٦.
(١٦)انظر: المصدر نفسه.
(١٧)Terri Apter, "Working Women don't have Wives", United State of America, New York, 1994, p:25-27.
(١٨)انظر: ﻣﮔى هام وسارا ﮔمبل، فرﻫﻧﮔ نظريه هاي فمينيستى، ترجمه: فيروزه مهاجر ونوشين أحمدي وفرخ قره داغي، تهران، نشر توسعه، ١٣٨٢ﻫ.ش، ص١٨١-١٨٣.
(١٩)انظر: عباس محمدي اصل، جامعه شناسى بنيادين، تهران، انتشرات روﺷﻨﮔران ومطالغات زنان، ١٣٨٢ﻫ.ش، ص٦٨-٧٠؛ إليوت أرونسون، جنسيت وروان شناسى، ترجمه: حسين شكركن، ﭽاپ هشتم، تهران، انتشارات رشد، ١٣٨٢ﻫ.ش، ص٣٤٠-٣٤٥.
(٢٠)انظر: نويل مكافي، جوليا كريستيفا، ترجمه: مهرداد ݒارسا، تهران، نشر مركز، ١٣٨٤ﻫ.ش، ص١٥-٦١-١٥٣.
(٢١)انظر: المصدر نفسه، ص١٢٠-١٣٣.
(٢٢)انظر على سبيل المثال: باميلا ابوت وكلير والاس، جامعه شناسى زنان، مصدر سابق، ص٢٩٤.
(٢٣)انظر: جين فريدمن، فمينيسم، ترجمه: فيروزه مهاجر، تهران،انتشارات آشيان، ١٣٨١ﻫ.ش، ص١٧.
(٢٤)انظر: عباس محمدي اصل، جامعه شناسى بنيادين، مصدر سابق، ص٦٨-٧٠.
(٢٥)انظر: المصدر نفسه.
(٢٦)انظر: المصدر نفسه.
(٢٧)انظر: سان كرايب، نظريه اجتماعي مدرن: از ݒارسونز تا هابرماس، مصدر سابق، ص٥١.
(٢٨)انظر: ݒيتر هميلتون، تالكوت بارسونز، ترجمه: أحمد تديّن، تهران، نشر هرمس، ١٣٧٩ﻫ.ش، ص١٢٠.
(٢٩)انظر: المصدر نفسه، ص٥٣-٥٧.
(٣٠)انظر: المصدر نفسه، ص١٢٢.
(٣١)المصدر نفسه، ص١٢٨.
(٣٢)Industrialization.
(٣٣)Terri Apter, "Working Women don't have Wives", OPCIT, p:32-34.
(٣٤)Shiach Marag, Feminism and Cultural Studies, Oxford University Press, 1999, p 476-477.


المصدر: كتاب : المرأة هويتها الجنسية وأدوارها الاجتماعية، محمد زيبائي نجاد وآخرون، بحث لـ فريبا علاسوند، ترجمة رعد الحجاج، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، ط١، بيروت ٢٠١٣.

التعليقات (0)

اترك تعليق