مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

لن يُغلق بابي يا ولدي

لن يُغلق بابي يا ولدي

إلى حسن* في ميلاده الثالث والأربعين...
قليلة هي اللحظات التي كانت تمر علي* دون المرور الطوعي واللاإرادي على شريط الذكريات المكدسة والمرصوصة بعناية. هناك فوق الأرائك المخملية القابعة عند بهو الذاكرة، بلا تكلف أو استعداء، فقط كان علي التسلل ليلًا، و بهدوء تام، أعرش إليها مطمئنة. وكم يطيب للعاشقين المكوث في حضرتهم. كيف لا؟ وأنا العابرة إليهم على أجنحة الليل أحمل أسرارهم. أحفظ حكاياتهم. أحصي أنفاسهم. أبدًا، يشدني الحنين ويعصف بي الشوق. فغدت أحلامي جزءًا من أحلامهم. وبالعكس، مقاومون شهداء.
أشكرك يا رب أن جعلتني في بحر عطائك نقطة، وفي سهل جودك وكرمك ذرة، وفي سماء نعمائك قطرة. من مثلي؟ وأنا التي جمعت من كل روض زهرة. هي كلمات من القلب أسرها إليكم. لم تختلط علي الأمور وما ضللت الطريق. وأنا أجد نفسي أمام العطاء كله والجود كله والبذل والسخاء كله، متمثلًا بمحضركم أيها الشهداء الأبرار. بهاماتكم الشامخة. بأنوفكم الأبية ورؤوسكم المرفوعة. بعنادكم بثباتكم بإصراركم بإيمانكم بعطائكم في زمن قلت فيه المواقف وعز الرجال.
عذرًا سادتي. و يا سادة الوجود أنتم. لن أفسد عليكم مجلسكم هذا، وأنا في حضرتكم، بما فعله السفهاء، وعاثه المغرضون. لأعود إليكم وبكم قرائي الأعزاء بذاكرتي قليلًا، وما عدت أدري أينا استحضَر الآخر:
اتركي الباب مفتوحًا يا أمي ريثما أعود. لن أتأخر. وقد أتأخر. ردي الباب واتركيه مفتوحًا. قد أعود باكرًا أو ربما لا أعود. لست أدري. المهم أغلقيه أو رديه. ولكن، لا تقفليه.
هذه الكلمات. أو هذه "الديباجة"، كما كان يحلو لي أن أطرقها على مسامعه ممازحة، وقد حفظتها عن ظهر قلب، لكثرة ما سمعتها من حسن.
حفظت هذه الكلمات عن ظهر قلب، وألفها سمعي لكثرة ما كان يرددها حسن ويهمس لي بها. حتى كنت أمازحه كلما حان موعد خروجه من البيت، في وقت متأخر متوجهًا نحو الشرق، كما كان يقول، فندمج صوتينا ونردد معًا نفس الكلمات، أي "الديباجة"، وبعدها يضرب كفه بكفي، ويمضي بعد أن يمنحني علامة جيدة على حفظ الدرس.

كنت أؤمن له الخروج من الباب الخلفي للبيت، و كان الباب محاذيًا بعض الشيء لحقل كبير، يمتد على بقعة من الأرض فيها من الوعورة والتعرجات ما يسهل عليه حرية القفز والتنقل، ليصبح خارج محيط البيت، بعيدًا عن أعين السهّيرة المنتشرين على الشرفات وفي الطرقات. ولما كان الباب بطبيعته فرعيًا، كان صغير الحجم ولا يتسع مجاله ليخرج منه حسن بكامل عدته، لذا كان عليّ أن أمكث معه دقائق عدة، لاستكمال المهمة مع تأمين إخراج العتاد على مراحل. وبعد محاولات كثيرة ومتكررة، كانت في أغلبها فاشلة، ننجح في تمرير تلك العدة، فنتنفس الصعداء معًا، ونحمد الله على انتهاء العملية بسلام. يضع حسن لفحته على كتفه، يلفها على عنقه و يمضي منتصب القامة شامخًا الرأس.
الله معك. كنت أقولها في كل مرة، وأنا مطمئنة، بل وكلي يقين بأن الله سيرده عليّ سالمًا. أما أنا فقد كنت أمضي الليل بالدعاء والصلاة والتسبيح: عين على الباب تنتظر عودته، وعين تحدق في الظلام تبحث عبثًا عن صورة له، كانت معلقة في مكان ما من الغرفة. فأغمضها مقنعة عيني بأنها لمحتها، وقد توارت خلف شعاع انبعث للتو من بين أوراق شجرة الكينا المعمرة، في ليلة كان القمر فيها بدرًا.
مع هذا أقولها صادقة: لم أرغب يومًا، بل وكنت أتحاشى أن أسترسل معه في الكلام، أو أي نقاش مطول عن طبيعة عمله، وما كان يفعله أثناء فترة غيابه عن البيت. لكنه قلب الأم كان حاضرًا معه، وفي كل تنقلاته خلف الجبال وبين السفوح والوديان. تحت الشمس وفوق الصقيع. كان قلبي حاضرًا معه يستقصي كل صغيرة وكبيرة من حوله، بعفوية وفطرة يصعب علي شرحها والتعبير عنها بسهولة وبساطة. لأدرك بعدها بأن الأمور كانت تجري وتسير بترتيب وتدبير إلهيين. آثرتُ أن يبقى الأمر كذلك.
اليوم، بعد مرور ما يقارب تسعة عشر عامًا على استشهادك، أقول لك يا حسن: لم ولن أغلق الباب يا ولدي. سيبقى بابي مفتوحًا يا حسن لك، لأولادك، لإخوانك وأشقائك، لأبنائهم، لكل العابرين نحو الشمس، ليستضيئوا بنور الحق. لن نغلق الباب أبدًا ما دام فينا شريان ينبض بالحياة، وعين تحدق في الظلام تحيله نورًا يشع فوق أهداب القدس، في ليلة حتمًا سيكون فيها القمر بدرًا...




________________________________________

*شاعرة وأديبة. والدة الشهيد حسن محمود الأمين.
*الشهيد حسن محمود الأمين – مواليد الكويت 09/09/1971 –من بلدة شقرا/قضاء بنت جبيل – استشهد في 15/04/1996 أثناء التصدي لعدوان عناقيد الغضب الصهيونية.


التعليقات (0)

اترك تعليق