دور المرأة في كربلاء3: المحافظة على القيم والأخلاق
من الأدوار المهمة التي قامت بها المرأة الحسينية هو المحافظة على القيم والمثل والأخلاق التي نهض الإمام الحسين (عليه السلام) من أجل ترسيخها، والدفاع عنها.
تحتل الأخلاق موقعاً مهماً في النظرية الإسلامية، وهي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، باعتبار أن المجتمع إنما يكون قوياً ومحكماً وقادراً على الاستمرار والبقاء والثبات؛
إذا قام على أساسين رئيسيين:
الأساس الأول: (العقيدة):
التي تتمثل في نظر الإسلام بعقيدة التوحيد، وكل تفرعاتها من النبوة، وامتدادها في الإمامة، والإيمان بالدار الآخرة والحساب والجزاء، وامتداد الإيمان بالدار الآخرة، الإيمان بالعدل الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى، فالعقيدة تمثل الأساس الرئيس والمهم في ثبات أي مجتمع، فبمقدار ما تكون العقيدة قوية وصحيحة وأصيلة وواضحة، يكون المجتمع ثابتاً ومستحكماً، وبمقدار ما تكون العقيدة هزيلة وباطلة ومنحرفة وليس فيها وضوح بالنسبة إلى الناس، يكون المجتمع مهزوزاً ضعيفاً تعصف به الأهواء وتطيح به الحوادث.
فلذلك كانت قضية العقيدة قضية مهمة جداً، ونجد أن القرآن في القسم الأول من نزوله، كان يركز بشكل رئيسي في المرحلة المكية على الجانب العقائدي، من أجل بناء هذا الأساس المهم في المجتمع الإسلامي.
الأساس الثاني: (الأخلاق):
الذي يعبّر عنه بالقيم والمثل في حركة الإنسان وهو يعني فهماً خاصاً لشخصية الإنسان، وما أودع الله فيه من تطلّع نحو الكمال ويعبر عنه بالجانب (الفطري) في الإنسان، من قبيل: إدراكه لحسن العدل وكماله في مقابل الظلم، وإدراكه لحقيقة الحرية في الإدارة في مقابل الأغلال والعبودية للهوى والخوف والخرافة والأوهام، وفهم الإنسان لعوامل التكامل في حركته، مثل: الوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، والاستقامة على الدرب، في مقابل فهمه لعوامل حركته التسافلية النازلة، مثل: الخيانة، والضجر، والسأم، واليأس، والخذلان، إلى غير ذلك من القيم التي أكد عليها الإسلام في مفردات كثيرة.
فالصدق، والوفاء بالعهود والمواثيق، من القيم الإسلامية، وكذلك الأمانة والشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى والمجتمع والواجبات، من القيم المهمة التي أكد عليها الإسلام في قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»(1).
فهذه القضايا والقيم والمثل، تمثل الأساس الآخر القوي بعد العقيدة، الذي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الإسلامي.
إذن, فقضية الأخلاق لها هذا الدور المهم في المجتمع الإسلامي.
وفي عصر الإمام الحسين (ع) اهتزت القيم الأخلاقية عند الناس، بسبب التوسع في الدنيا، والتمكن من الشهوات واللذات، وكثرة الأموال، والتوسع في القدرة والسلطة، وغير ذلك من الأمور التي أدت إلى ضعف الحالة الأخلاقية.
ولذلك نجد من بداية واقعة الطف وحتى نهايتها وجود سلوكين متعاكسين:
أولهما: تعامل أعداء الإمام الحسين معه (ع)، حيث كان سلوكهم يتصف بالتدني والتسافل الشديد والسقوط الأخلاقي.
ثانيهما: تعامل الإمام الحسين (ع) مع أعدائه، الذي كان يتصف دائماً بالسمو الأخلاقي والارتفاع في المشاعر والعواطف والمواقف.
فالإمام الحسين (ع) قام بثورته من أجل المحافظة على القيم الفاضلة، وضحّى من أجل المصالح العامة، ومن أجل الناس: "..وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب (ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب". وبعد استشهاده (ع)، كان لابد لمسيرة الأخلاق أن تستمر وتتكامل.
دور المرأة في الحفاظ على القيم في كربلاء:
دور السيدة زينب (ع):
نجد أنَّ المرأة كان لها دور عظيم جداً في المحافظة على هذا الجانب وهذه القيم، ويتضح ذلك جلياً من خلال حركة المرأة الصالحة والأسوة الحسنة زينب (ع) ومواقفها، فمثلاً: عندما تقف في مجلس عبيد الله بن زياد الذي يعتبر نفسه منتصراً ومأخوذاً بزهوة الإنتصار، خصوصاً وإنه إنسان شرير وشاب نزق، وحاول التعبير عن نزقه بالشماتة بزينب والحسين (ع) وما جرى عليهم فيقول: "كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟" وهنا تعبر العقيلة زينب (ع)عن إيمانها بالله تعالى وصبرها على المصيبة وإدراكها لأهداف هذه الثورة فقالت: "ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة..."(2).
كما أن خطبتها (ع) في الكوفة تشتمل على الوعظ والتأكيد على المفاهيم الأخلاقية، التي يجب أن يتصف بها هؤلاء الناس، وذلك بالإشارة إلى خيانتهم وخذلانهم ونقض المواثيق والعهود: "..أتبكون وتنتحبون، أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون وبعدا لكم وسحقا.
فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء.."(3).
وكذلك خطبتها في مجلس يزيد بن معاوية، الذي كان مكتظاً بالوجهاء والقادة والوزراء والأمراء والسفراء - وقد جمعهم يزيد من كل مكان، من أجل أن يظهر زهو الانتصار - حيث تقف موقفا صامدا تقول: "...أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههنَّ، تحدوا بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد، وتستشرفهنَّ المناقل ويتبرزن لأهل المناهل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع، والدني والرفيع ليس معهنَّ من رجالهنَّ وليُّ، ولا من حُماتهنَّ حمي؟ عتوا منك على الله وجحودا لرسول الله ودفعا لما جاء به من عند الله ولا غرو منك ولا عجب فعلك..."(4).
مواقف نساء أخريات في كربلاء:
وهناك مواقف أخرى من نساء لسن على مستوى زينب(ع) في الفضل والعلم، ويبدو أنهنَّ من النساء العاديات، وإن كنَّ بحسب مضمونهنَّ الأخلاقي من النساء الراقيات والعظيمات والمجاهدات، كموقف (دلهم) أو (ديلم) التي كان لها دورا مهما في الجمع بين الحسين (ع) وزوجها زهير بن القين، الذي كان عثماني الاتجاه، يقول السيد ابن طاووس: "..ثم سار (ع) فحدث جماعة من بين فزاره وبجيله، قالوا: كنا مع زهير بن القين لما أقبلنا من مكة، فكنا نساير الحسين (ع) حتى لحقناه، فكان إذا أراد النزول اعتزلناه فنزلنا ناحية، فلما كان في بعض الأيام نزل في مكان لن نجد بدَّا من أن ننازله فيه، فبينا نحن نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الله الحسين(ع) حتى سلم، ثم قال: يا زهير بن القين، إنَّ أبا عبد الله الحسين (ع) بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل إنسان منا ما في يده، حتى كأنما على رؤوسنا الطير، فقالت له زوجته وهى ديلم بنت عمرو: سبحان الله، أيبعث إليه ابن رسول الله (ع) ثم لا تأتيه، فلو أتيته فسمعت من كلامه، فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحوَّل إلى الحسين (ع)"(5).
إن هذه المرأة الصالحة لا تعرف مضمون دعوة الحسين لزوجها أو مؤداها، ولكن أن ترى زوجها لا يستجيب لنداء الحسين (ع) ابن رسول الله (ص)، فهذا مما يتنافى مع الأخلاق الرفيعة، ولذا تصدَّت لحثه على قبول دعوة الحسين (ع) والاجتماع به، وكان ثمرة ذلك الاجتماع تحول زهير بن القين من موقف عثماني مضاد، إلى موقف ناصر ومؤيد، على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل الإمام الحسين (ع) وحركته.
وهناك موقف آخر تقدمت الإشارة إليه، وهو موقف (النوار) التي أنّبت وقرّعت زوجها كعب بن جابر لقتله برير شيخ القراء، هذا الإنسان الذي كان له حق التعليم عليه، وعدم وفائه له مع كل خدماته الثقافية للمجتمع، فتقول: "أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء، لقد أتيت عظيماً من الأمر، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً".
إلى غير ذلك من المواقف العظيمة التي تهدف إلى المحافظة على القيم (6).
الهوامش:
1- سورة الأحزاب، الآية:72.
2- بحار الانوار: ج45، ص116.
3- اللهوف في قتلى الطفوف: ص87.
4- الاحتجاج: ج2، ص35.
5- اللهوف في قتلى الطفوف: ص44.
6- لذا نحن نؤكد على أن هناك مسؤولية عظيمة تتحملها عوائل، ونساء، وأمهات، وأخوات الشهداء، وكل من ينتمي إلى هذه الأسر الشريفة أن يحافظوا على الجانب الأخلاقي، الذي استشهد هؤلاء الشهداء من أجله. (منه (قدّس سرّه)).
المصدر: موقع مؤسسة تراث الشهيد الحكيم.
اترك تعليق