النسويّة في إيران والبحث عن موطن جديد
النسوية: المصطلح، والمدلولات، والاتجاهات
ولدت كلمة النسوية([1]) عام 1890م ضمن معانٍ متعددة؛ فقد كانت تطلق كلمة نسويّ في تلك الحقبة ليس فقط على من يدافع عن الدور المتزايد للمرأة، بل وأيضاً على من يدافع عن النساء بوصفهنّ موجودات مستقلّة، لكنّ الدور الاجتماعي والفردي للمرأة خضع في القرن الماضي إلى بسطٍ وصيرورة، وقد أدّى ذلك إلى نوعٍ من التحوّل في تعريف النسوية، فأصبح من غير الممكن التعبير عنه بشكلٍ بسيط وبقالبٍ موحّد، ونذكر هنا بعضاً من هذه التعاريف.
تعتقد أدرين ريتش (Adrin Rich) أن النسوية ـ من جهةٍ ـ لقبٌ لا جدوى منه ويصحّ وصفه بالسخيف، لكنّها ـ من جهةٍ أخرى ـ نوعاً من الأخلاق ومنهجاً معرفيّاً، أو طريقة معقدة من التفكير والعمل تدور حول الظروف الحياتية التي نعيش فيها.
ويرى كريس ويدون (Chris Weedon)، عالم الاجتماع الانجليزي المعروف، أنّ النسوية سياسة تتّجه نحو تغيير موازين القوى في العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة، أمّا وجهة نظر بيل هوكس (Bell Hooks)، الناقد الأمريكي المعروف، فالنسوية حركة سياسية اقتصادية واجتماعية تسعى إلى رفع أيّ نوعٍ من الهيمنة القائمة على العامل الجنسي أو السياسي أو العرقي، وإعادة بناء المجتمع بنحوٍ يسير فيه النموّ الفردي نحو ترجيح مصالح الإمبريالية والتنمية الاقتصادية والميول المادية.
أمّا الكاتبة الكندية ليندا كارتي (Linda Carty)، فترى ضرورة إعادة بناء النسوية التي أطلقتها مجموعة من نساء الجنس الأبيض؛ لأن (الجنس) لا يمكن أن يكون بمفرده مقولةً واحدة تتعنون بها حركة تحرير المرأة.
إن هذه التعاريف المتعدّدة تدلّنا على أمر، وهو أنّ النسوية ليست ظاهرةً اجتماعية واحدة، بل تنقسم اليوم إلى اتجاهات مختلفة، كالليبرالية والماركسية والراديكالية، ومن المسلّم أنّ الوصول إلى فهم معمّق لهذه الاتجاهات النظرية السالفة وعوامل ظهور كلّ واحدةٍ منها يتوقّف على القيام بسعي متواصل ومفتوح، إنّ بلوغ مثل هذه المعرفة يحتاج إلى القيام بقراءة واسعة للنظريّات السالفة الذكر من جانب أصحاب الرأي والعاملين على تشكيل مؤسّسات الدفاع عن حقوق المرأة، وممّا لا شك فيه، أنّ الوصول إلى مثل هذا الهدف يحتاج إلى وقت طويل، وتوفّر إمكانات علمية متعدّدة، يدخل في ضمنها الوصول إلى مصادر جديدة، والارتباط المستمرّ بالمؤسّسات العلمية الأجنبية، والتواصل الدائم بين علماء الداخل.
وعلى أيّة حال، فالذي نراه أنّ صورة العلاقة القائمة بين الجنسين في إيران قد نسجت باستعجال وسطحية وعموميّة، وبعبارة أخرى نرى أنّ أغلب المدافعين عن حقوق المرأة في إيران ليسوا على معرفة صحيحة بظروفها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل ثمّة ضعف في تكوين صورة نسوية في هذا المجال([2])، ولم يقتصر الفشل على إلغاء التمييز بين الجنسين، بل ساعد ضعف الحركة النسوية في اتساع الخرق والهوّة.
الخصوصيات العامّة للنسوية في إيران، أزمة مشروع
نظرية التوظيف الرسمي للمرأة، قراءة نقدية
1ـ الترويج لتولّي المرأة وظائف الدولة واعتبار ذلك طريق خلاصها:
فعلى أساس هذه الفكرة يتمّ تقديم صورة تعتبر أنّ تولّي المرأة الوظائف الرسمية هو السبيل الأساس لحلّ مشكلاتها الرئيسة؛ لأن المرأة متى قامت باستلام هذه الوظائف فستصبح ذات دخل، ومن ثمّ تتمكّن من تأمين استقلالها المادي، ومثل هذا الأمر لن يقتصر دوره على الارتقاء بمكانتها الاجتماعية، بل سيكون باعثاً لها على الخروج من قبضة الرجل، وعلى أساس ذلك فإن الوظيفة الرسمية هي الطريق الوحيد الذي تتمكّن المرأة من خلاله أن تصبح قوّةً فاعلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من هنا، يستخدم أنصار هذا الاتجاه شعارات، مثل إن النساء يشكّلن نصف اليد العاملة، وأن الطريق الوحيد للتنمية في دول العالم الثالث إنّما هو توليّها كامل الأعمال.
ومن الشعارات الأخرى، التشنيع على المرأة التي تقتصر حياتها على كونها ربّة بيتٍ، واعتبارها غير فاعلة، بل يتمّ تصويرها موجوداً بعيداً عن تطوّر الحياة الاجتماعية، وأنّ دورها ينحصر في المنزل والغرق في أعماله، وأنّ روتينه يحوّلها إلى كائن أحمق، ومجرّد آلةٍ للحمل والولادة فقط؛ من هنا، فتغيير هذا الدور التقليدي ضروريٌّ عبر الوظيفة الرسمية.
ولا ترىّ أيّ من التيارات النسوية جعل عمل المرأة سبيلَ خلاصها، بل على العكس تذهب النسوية الماركسية والشيوعية إلى أنّ انتشار ظاهرة عمل المرأة في الغرب إنّما نتج عن رغبة النظام الرأسمالي في جرّ المرأة للعمل الرسمي بغية الاستفادة منها، وممّن يتبنّى هذا الاتجاه سيلفيا والبي (Sylvia Walby)، حيث تعتقد أنّ فهم دور المرأة في المجتمعات الصناعية يتوقّف على معرفة نظام تدخّل سيادة الرجل في النظام الرأسمالي، على أساس أنّ النظام الذي يؤمن بسيادة الرجل يمنع المرأة من دخول ساحة الوظيفة الرسمية، فيما يرى النظام الرأسمالي ضرورة الاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، أي أن النظام الرأسمالي وبخصوصيّته الذاتية (تراكم الثروة)، يسعى دائماً لتنمية الإنتاج وتنويعه، لذا كان توظيف المرأة في صالح التنمية الاقتصادية؛ لأنّها يدٌ عاملة من الدرجة الثانية؛ فأجرتها أقلّ من أجرة الرجل، علاوةً على أنّ المساحة التي تشغلها المرأة في ساحة العمل تقتصر -بشكلٍ عام- على الوظائف التقليدية، أي التربية والتعليم والخدمات العامة، كما أن الاستفادة منها في المصانع يقع غالباً في دائرة الوظائف غير الأساسية كالتجميع والتوضيب، أي الأعمال التي تكون أجرتها –عادةً- أقلّ من غيرها، فتلي -في الدرجة الاجتماعية- الأعمال التي يقوم بها الرجل، بل حتى مع قيامها بتولّي أعمالٍ مشابهة لما يقوم به الرجل تبقى أجرتها أقل.
أمّا الاتجاهات النسوية الأخرى، فحلّلت دور المرأة بوصفها ربّة منزل، وتوصلت إلى أنّها كانت عاملاً مساعداً في الحياة الاقتصادية العائلية، سواء في النظام الزراعي أو الصناعي؛ لأنّ مشاركتها وتقديمها المعونة في النظام الزراعي ـ وخصوصاً على مستوى الاستثمار العائلي ـ وان لم يتم تقديره بشكل رسمي، إلا أنّ ما لا شكّ فيه أنّ هذا الاستثمار سيعجز عن الاستمرار في فعاليته الإنتاجية مع الاستغناء عن المرأة، وترى هذه الاتجاهات أنّ المرأة أيضاً في دورها الحالي (ربّات المنزل الجدد)([3]) تقوم بتقديم العون الاقتصاديّ للعائلة بشكل غير مباشر؛ لأن وظائفها المنزلية، من الطبخ والنظافة وحضانة الأطفال، لو لم تتمّ فلن يتمكّن الرجل من الإنتاج الاجتماعي والرسمي، إضافةً إلى أنّ المرأة بلعبها دور ربّة المنزل تحتضن أوّل تشكيل اجتماعي، أي المجتمع الأول، وهو العائلة، وشخصية الطفل الأساسية تتكوّن عبر ذلك، إن الجوّ العاطفي للعائلة يتمّ ـ في غالب الأحيان ـ من طرف المرأة، كما أنّ مسؤولية السلامة الجسدية لأعضائها تقع على عاتقها.
أليس لمثل هذه الأدوار التي تقوم بها المرأة أثراً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ يعتقد نلسون (Nelson) أنّ عوامل فشل طرق التنمية تعود في أغلبها إلى عدم معرفة المسؤولين بطبيعة المرأة ووظائفها؛ فعندما تثار مسألة دمج المرأة في التنمية، تتمّ الغفلة عن أمر أساسي، هو كون المرأة ـ دائماً ـ عنصراً فاعلاً في مستقبل التغيير والتنمية الاجتماعية، وبالاستخفاف والتهاون بهذا الدور النسوي تكوّن التصوّر الخاطئ عن انعدام دور المرأة في مجال التنمية.
أمّا عمل المرأة في إيران فله أبعاد أخرى، فالإحصاءات الرسمية تتحدّث عن أن تسعةً بالمائة من الإيرانيّات يتولّين وظائف رسميّة، وبناءً على ذلك فان تسعين في المائة إما ربّات بيوت، أو محسوباتٍ فاقداتٍ للفعل التنموي الاقتصادي، وما يلفت النظر رغم ذلك أنّ أغلب الدراسات النسوية تتّجه نحو عمل المرأة، وهو ما يدلّل بوضوح على مدى الأهمية التي يُبديها أنصار حقوق المرأة لمسألة العمل.
ولنقف هنا قليلاً، هل يمكن القول بأن التسعين في المائة الباقية من النساء لا يملكن ـ فعلاً ـ أيّ نشاط اقتصادي؟
إنّ قسماً مهمّاً من اللواتي يوصفن بربّات البيوت هنّ من القرى والأرياف، وحيث إنّ أكثر من خمسة وتسعين في المائة من إنتاج القطاع الزراعي في إيران يتكوّن من الاستثمار العائلي، فنتيجة ذلك أنّ النساء القرويات لهنّ سهمٌ كبير في هذا الانتاج، بل تدلّ الدراسات على أنّ القرويات المرفّهات نسبياً واللواتي لا دور مباشر لهنّ في الإنتاج الزراعي يلعبن دوراً غير مباشر؛ عبر قيامهنّ بأعمال أخرى، كتهيئة الطعام للعمّال والمزارعين، أو القيام بتدبير الأمور المنزلية، أو بعض الصناعات اليدوية، أو المواد الغذائية كالمربّيات وشراب البندورة ونحوها، الأمر الذي يزيد من الدخل العائلي.
من جهةٍ أخرى، لا يتساوى نشاط ربّات البيوت في المدن واللواتي يقتصر عملهنّ على القيام بوظائف (ربّات المنزل الجدد) مع السابقات؛ فقد جرت عادة نساء الطبقة المرفّهة على الاستفادة من الخادمات، سواء من كان منهنّ بشكل دائم أو مؤقت، وهنّ من يقمن بإنجاز الوظائف المنزلية الأساسية، أمّا الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن سنّ السادسة فغالباً ما يتمّ إرسالهم إلى حضانات الأطفال، إضافةً إلى استخدام الآلات الحديثة، كالغسالات، والمكانس الكهربائيّة، والمأكولات الجاهزة، إن هذا كلّه يُثمر تقليصاً كبيراً في حجم الوظائف التي تتلف الوقت وتستلزم إرهاق المرأة.
أمّا نساء المدن، وهنّ من الطبقة المتوسّطة أو الفقيرة، فيلتزمن القيامَ بأعمال أخرى غير وظائفهنّ المنزلية، وهي أعمال تشمل الخياطة، والتزيين، والخدمة، وصناعة الحلويات و.. وهذا ما يزيد بدوره من دخل الأسرة، ولابدّ من الالتفات إلى أنّ التضخّم الاقتصادي قد أدّى إلى اتّساع العمل لدى هذه الطبقة، فوصل دخل هذه الأعمال إلى حدّ يزيد عن الدخل الرسمي الذي يتمكّن رجل العائلة من تأمينه. وبعبارةٍ أخرى، تتمكّن المرأة / ربّة المنزل، والتي توصف بالحمقاء غير الفاعلة، من لعب دور مؤثر في زيادة الدخل الأسري، لتغدو عنصراً فاعلاً ونشيطاً.
بين عمل المرأة واستقلالها المادي
إنّ دعاة عمل المرأة يدّعون أنها متى دخلت ميدانه أمكنها تأمين نفسها بمنحها الاستقلال المادي، ممّا يجعلها تتمكّن ـ تبعاً لذلك ـ من أن تغدو صاحبة قرار في مستقبل العائلة، فتخرج من مجرّد كونها ربّة بيتٍ مقيّدة اليدين.
ولتقييم مثل هذه الدعوى، لابد لنا من ملاحظة أمور:
أولاً: لا ملازمة بين عمل المرأة وبين تأمينها لاستقلالها المادي، ولتحديد مدى الارتباط الثابت بين المتغيّرين: الدخل والاستقلال المادي، لابدّ من القيام بدراسات اجتماعية معمّقة، إضافةً إلى أنّه لو أريد بالاستقلال المادي أن يصبح بإمكان المرأة العاملة التصرّف بمالها كيف شاءت وتأمين حاجاتها الشخصية، فإن هذا ما لا تؤيّده الدراسات الفعلية، فلا مفرّ للمرأة العاملة من صرف ما تحصل عليه في سبيل تأمين مصاريف شهرية ثابتة، كحضانة الأطفال، وإجارة البيت، وسائر المصارف العائلية، وبشكل عام فما تستطيع تأمينه لن تتمكّن من صرف إلا القليل منه على شؤونها الشخصية.
ثانياً: إنّ نوع العمل، ودرجته، ومقدار الدخل، ونوع عمل الزوج، وبشكل عام السلوك الحياتي العام الذي تعيشه المرأة، هو صاحب الدور الرئيس في تحديد أو زيادة دورها على المستوى العائلي، فالواضح أنّ مقارنة امرأةٍ عاملة بأستاذة جامعية سوف تؤكّد أنهما ليستا بمستوى واحد على الصعيد الأسري.
ثالثاً: تدلّنا الدراسات الموجودة ـ سواء منها ما يرتبط بالعالم الغربي أو ما يرتبط بالعالم الثالث ـ على أن المرأة لا تقلّل من عملها المنزلي رغم التزامها العملَ خارج البيت، فلا مفرّ لها ـ بعد العودة من ساعات العمل الرسمي ـ من ممارسة وظائفها التقليدية والقيام بها بمفردها، ولعلّ عدم رضا عدّةٍ من النساء بالعمل خارج المنزل يعود إلى تحمّلهنّ مسؤولية القيام بوظيفتين معاً.
بناءً على هذا كلّه، يظهر لنا أن قيام المرأة بالعمل خارج المنزل لا يكفي لتحديد دورها فيه، بل لابد من ملاحظة مجموعة من المتغيرات المهمّة، كأسلوب الحياة والقيم العائلية.
نظرية العداوة بين الجنسين، وقفة ناقدةً
2- إثارة فكرة العداوة بين الجنسين:
يقوم هذا الاتجاه على تصوير الرجل والمرأة موجودين متضادّين لا ينسجمان، وأنّ بينهما تضادّاً في المصالح؛ من هنا يتمّ الترويج للفكرة القائلة بأنّ التبعة والتقصير تقع على عاتق الرجل في وضعه المرأة تحت قبضته وأنه عبر استثماره لها داخل العائلة تمكّن من احتكار تمام المميزات الاجتماعية.
والنتيجة الواضحة لمثل هذا النوع من التفكير إيجاد الخصومة والعداوة بين الرجل والمرأة، ولو أردنا ملاحظة النظريّات النسوية فلن نجد سوى النسوية الراديكالية أو المتشدّدة تتبنّى هذا الاتجاه؛ ولذا يرى أتباع هذه النظرية أن الأمر لا يقتصر على اللاتساوي الموجود بين الجنسين، بل يتعدّاه إلى تسلّط الرجل على المرأة؛ انطلاقاً من طبيعته التسلّطية، ونماذج ذلك عديدة مثل: تكبيل قدميّ المرأة في الصين، وختان الإناث في أفريقيا، وحرق الأرامل في الهند، وصيد النسوة الساحرات في القرون الوسطى، وعليه فطريق التخلّص من ذلك إنّما هو في تشكيل تجمّعات نسائية خالية من الرجل مبنيّة على مبادئ الأخوّة والهوية النسائية.
ولا شك في أن علم الاجتماع يرفض اعتبار الرجل المقصّر في تدنّي المستوى الاجتماعي للمرأة إلى الدرجة الثانية، لذا تُرجع المدارس النسوية الأخرى غير الراديكالية -وبطريقة علمية- مسألة اللاتساوي الموجود بين الجنسين إلى العوامل الاجتماعية، كنظام القيم والنظام الجنسي، وبعبارةٍ أخرى، ترجع هذه القيم إلى مفهوم سيادة الأب الذي تربّينا جميعاً -نساءً ورجالاً- على أساسه؛ لذا لزم تغيير هذا النظام لرفع هذا الاختلاف.
لا بدّ من الالتفات إلى أن الترويج لعدائية الجنسين لبعضهما ينشأ -في الأساس- من قيم النظام الأبوي، ولو أنّ الحركات النسائية في إيران أرادت إشاعة هذا التمايز العدائي فلا شك في أنّ ذلك سوف يزيد من العداوة والانفصال بين الجنسين، واستخدام هذا الأسلوب السطحي له عواقب خطيرة على المرأة، وعلى العلاقات العائلية، أي أنّه وبدل إيجاد فرص تعاون واندماج، يتمّ العمل على خلق فواصل بين الطرفين ووضعهما في جبهتين مختلفتين.
من جهة ثانية، استفاد الرافضون للمقولات النسوية من هذه النقطة بالذات؛ لاعتبار النساء موجودات تحمل في ذاتها حسّ الانتقام، ومن ثمّ فهي بسيطة لا تتمتّع بأيّ استعداد أو إمكانات.
نظرية المرأة العالمية الواحدة، تعليق نقدي
3 – الغفلة عن تنوّع الظروف الحياتية للمرأة في إيران:
تتمثل بعض الأسس النظرية للاتجاهات النسوية الأولى في اعتبار الظروف الحياتية التي تعيشها المرأة واحدةً، ومن ثمّ تقديم طرق موحّدة للحلّ، وطبق هذا الرأي، تغدو مقولة: المرأة جنسٌ من الدرجة الثانية، مقولةً واحدة وعالمية، وأنّ هذه المرأة (الواحدة والعالمية) كانت دائماً محلّ استغلال الرجل؛ وعليه يمكننا عرض حلول متشابهة لتأمين خلاص المرأة من هيمنة الرجل.
وقد جرى نقد هذا البناء النسوي من جانب المدارس النسويّة الحديثة، حيث ترى أن لا وجود لامرأةٍ (واحدة) في جميع أنحاء العالم، بل تتفاوت النسوة حسب الطبقة، والعرق، والقوميّة، ونوع العمل، والجغرافيا، فالدور الاجتماعي للمرأة البيضاء في المجتمعات الغربيّة مثلاً يختلف عنه لدى سوداء البشرة، ويرى هؤلاء أنّ تصوّر النساء على أنهنّ يعشن ظروفاً واحدة كانت نتائجه لصالح المرأة البيضاء على أساس اعتبار حقوقها حقوقاً عالميّة، فقد عدّت ميول المرأة الغربية ذات البشرة البيضاء المعيار المناسب لتمام التجمّعات النسائية في جميع أنحاء العالم، دون ملاحظة الظروف الحياتية التي تعيشها سائر النساء.
على أنصار الدفاع عن حقوق المرأة في إيران أن يعرفوا أنّ النظر بعينٍ واحدة إلى جميع التجمّعات النسائية واعتبار المرأة ذات ظروف موحّدة أمرٌ له أهميّته من جهتين:
أولاً: إنّه نظراً للتعدّد القومي واللساني والديني في إيران فإن ذلك لا يسمح بدرس حقوق المرأة بوصفها حالةً واحدة؛ فمن المسلّم به أن دورها يختلف تبعاً لاختلاف الظروف التي تعيشها كما أسلفنا.
ثانياً: من المسلّم به أيضاً أن إيران حيث كانت من الدول النامية فلابدّ أن يكون دور المرأة فيها خاضعاً للتحوّل، والمرأة الإيرانية اليوم يختلف دورها وموقعها تبعاً للمدينة أو القرية التي تقيم فيها والعمل الذي تلتزمه، لذا لابد من ملاحظة خصوصيّات كلّ تجمّع نسائي، مما يُلزم بدراسات اجتماعية في هذا الصدد للتوصل إلى الحلول المناسبة لذلك، وما يلائم ظروف المجتمع الإيراني.
نظرية التشابه التام بين الجنسين
4- التشابه التامّ بين الرجل والمرأة:
الشعار الدائم الذي تحمله النسويّة هو التشابه التامّ في المكانة والحقوق بين الرجل والمرأة؛ لذا تسعى اتجاهاتها جميعاً إلى بذل جهدٍ عملي وعلمي للوصول إلى حقوق متشابهة بين الرجل والمرأة، ويرى أنصار النسويّة ضرورة تغيير نظام القيم ونظام التعامل المختلف بين الرجل والمرأة، واستبداله بنظام معياريّة الإنسان لا الذكورة أو الأنوثة، فصورة الرجل في النظام الجنسي تختلف عن صورة المرأة، لذا يُنظر إليها ذات سماتٍ من العاطفة والطاعة والوفاء، أمّا الرجل فهو هنا قويّ، خشن، قهّار، عاقل، ذو قدرةٍ على الابتكار.
أمّا المجتمع الجديد أو الخنثى (Androcentric)، الخاضع ـ إلى حدّ كبير ـ لتأثير الاتجاهات النسوية، فهو يرفض هذا التقسيم، ويرى عبثيّة الحديث عن اختلاف بين شخصيّتي: الرجل والمرأة، ممّا يعني ضرورة فهمهما بما يرجعهما إلى صورة الإنسان الواحد، ويقضي بتماثلهما، والنتيجة المترتّبة على مثل هذا النمط من التفكير في الغرب هو تشابه الرجل والمرأة، لكن هذه المشابهة لم تلحظ انطلاقاً من خصوصياتهما، إذ حيث كانت النزعة الذكورية هي الغالبة أدّى ذلك إلى استلزام أن تشابه المرأة الرجل، وبحسب مقولة اليزابيت بدانتر (Elizabet Badinter): mما حدث أنّ المرأة اكتسبت الرجولة دون أن تتخلّى عن هويتها التقليدية، إنّ الإنسان في غرب القرن العشرين ـ لا سيما المرأة ـ مخلوق يحمل في واقعه صفات كلا الجنسين، ففي آنٍ واحد هو ذكر وهو أنثى، وهو يقوم بتبديل دوره في الحياة تبعاً لآنات الليل والنهار؛ لأن المرأة لا تريد أن تخسر شيئاً، بل تريد أن تصل إلى آمال الذكر والأنثى، وهو أمرٌ ليس بالسهل دائماً، فالمرأة اليوم فاعلٌ ومنفعل، أمّ حنون وأنانية، قاهرة وصبورة ومتسلّطة، فقد أصبحت شخصيّتها ـ في الواقع ـ مضطربة ومشوّشةn.
لقد كان لفكرة التشابه التامّ بين الرجل والمرأة أثرها على حدوث انقلابٍ عظيم في القيم أدّى إلى نشوء ظواهر جديدة، مثل زواج مثيلي الجنس، واضمحلال العائلة، ولا نريد الدخول هنا في عمليّة تقييم أخلاقي لآثار الترويج لهذه الفكرة، إنّما نهدف البحث في أنّ إشاعة أنصار حقوق المرأة في إيران لها، هل يعود بالنفع في مجال حلّ مشاكل المرأة الإيرانية؟
لابدّ ـ ولأجل الإجابة عن هذا السؤال ـ من إلقاء نظرةٍ إلى عهود ما قبل التاريخ، فالملاحظ فيها ـ وهي العهود التي تسمّيها النسوية خطأً عهود سيادة الرجل ـ أن المرأة كانت تعيش حياتها المستقلة بشكلٍ مساوٍ للرجل؛ ففيها كانت تكمل وظيفة كل طرف عمل الآخر، رغم خضوع تقسيم العمل لجنس العامل، ومعنى ذلك أنّ ارتباطهما كان متبادلاً، فلم يكن أيّ فريق يرى الثروة منحصرةً به؛ لأن الرجل لم يكن بإمكانه الاستمرار في الحياة دون أن تمدّ له المرأةُ يد العون.
من جهةٍ أخرى، كانت قدرة المرأة على الإنجاب توازي قدرة الرجل على الصيد، بل أكبر رغم ما في الأخير من شجاعة و..؛ لذا كان ينظر إلى ذلك باحترامٍ وتقدير، لقد كان الاعتقاد السائد آنذاك أنّ المرأة وعبر قوّة الإنجاب تمثل ضماناً لاستمرار الحياة.
لكنّ الأمر اختلف لاحقاً؛ حيث أصبحت طاقة الإنجاب في المرأة عنصراً يبرّر تسلّط الرجل عليها، فغدت في صورتها المتأخرة عنصراً ضعيفاً حقيراً من الدرجة الثانية. وهذه النقطة مركزيّة في بحثنا؛ لأن نظام العصر الجديد أو النظام المتحضّر وإن عرف بنظام المساواة دون سيادة الرجل، لكن ثمن هذه المساواة سيكون التضحية بخصوصيّة المرأة أو إلغائها أو تجاهلها، ألا وهي خصوصيّة الإنجاب وإبقاء النسل، وبعبارةٍ أخرى إنّما تمكّنت المرأة الغربية من نيل المساواة عن طريق التشبّه بالرجل وعدم الاعتناء بخصوصيّاتها التي خُلقت معها.
بل يذهب بعض الباحثين إلى أن الطريقة التي اعتمدتها المرأة للتشبّه بالرجل يظهر منها أنّها كانت تريد أن تحلّ محلّه في خصوصيّات التسلط، والقهر، والخشونة، وهي السمات التي كانت سائدةً في العصر السابق، عصر سيادة الرجل، وبعبارة ثالثة إن الغرب يتحوّل وبشكل تدريجي إلى عصرٍ جديد يمكن تسميته عصر سيادة المرأة.
إنّ شعار التساوي والمساواة بين حقوق الرجل والمرأة وإن كان محور الصراع العلمي والعملي للحركات النسوية في الغرب، لكنّ النتيجة التي لا يمكن تجنّبها لنموّ هذه النسويات هي ظواهر مثيلي الجنس وازدياد نسبة الطلاق، واتجاه المرأة نحو التسلّط.
* * *
الهوامش
(*) باحثة مختصّة بالعلوم الاجتماعية وقضايا المرأة.
[1] ـــ لابد من إضافة مجموعة أخرى، نطلق عليها اسم: النسوية الإسلامية، وترى اختلافاً في الخلقة والطبيعة بين الرجل والمرأة، لكنّه لا يعني ـ إطلاقاً ـ أفضليّة أحد الجنسين على الآخر، بل هذه الاختلافات هي العامل في كونهما مكمّلين لبعضهما.
[2] ـــ لا أقصد من هذا الكلام تخطئة هذا الاتجاه، ولا أدّعي أنّني أملك معرفةً تامّة من الجهتين المذكورتين، بل ما أريده هو لفت النظر نحو بعض النقاط الجديدة القابلة للبحث.
[3] ـــ المراد من هذا المصطلح أن تعيش المرأة في ظلّ نظام اقتصادي في المدن الصناعية، وتقتصر وظيفتها على كونها ربّة منـزل دون أن يكون لها أيّ دور في النشاط الإنتاجي.
المصدر: موقع مجلة نصوص معاصرة- إعداد: د ناهيد مطيع
ترجمة: السيد علي عباس الموسوي
اترك تعليق