علة إخراج الإمام الحسين ع لعياله وآثار ذلك في الأمة: منها تصحيح مسار سنة الرسول ص في الأمة
علة إخراج الأمام الحسين (ع) لعياله وآثار ذلك في الأمة: الأثر الخامس عشر: تصحيح مسار سنة رسول الله(ص) في الأمة:
إن هذا الأثر هو من أدوم الآثار وأقواها استمرارية، بل: يكاد يكون هذا الأثر هو الثمرة الأبرز في خروج بنات رسول الله(ص) إلى كربلاء.
لكن قبل الخوض في بيان مصاديق هذا الأثر نتعرض أولا إلى بيان مسألة صغيرة لغرض تحديد الوجه في السير في بيان هذه المصاديق، وهذه المسألة هي: التفاوت في رتب الإيمان، وذلك أن القرآن الكريم لم يجعل الأنبياء ولا المرسلين على درجة واحدة ومنزلة واحدة وإن كانوا جميعا ممن اختارهم الله سبحانه للنبوة والرسالة، إذ يجعل القرآن التفاضل بينهم ضمن الحقائق القرآنية فيقول سبحانه:
«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(١).
وهذه السنة الكونية حينما جرت في الصفوة من الخلق والمنتجبين لحمل الشريعة كيف لا تكون في غيرهم من بني آدم؟! ولذا: لا بد من التفريق بين منزلة الإسلام ومنزلة الإيمان كما نص عليها القرآن الكريم حيث قال سبحانه:
«قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(٢).
بمعنى ينحصر التفاوت في الرتب الإيمانية بين اللسان والقلب، فالمسلم من نطق بالشهادتين دون أن يقر بها قلبه، والمؤمن من قرّ بها قلبه وإن لم يجهر بها أمام الناس وتلك معضلة لدى الناس لا سيما أن الإنسان محكوم بما يصدر عنه من أقوال وافعال، وفي الأغلب الأعمّ لا يلتفت أكثر الناس إلاّ إلى ما يخرج من الأفواه لا إلى ما يصدر من الأفعال، وتلك حقيقة يمكن مشاهدتها في كثير من الشواهد التأريخية والمواقف الحياتية.
ويكفي من ذلك شاهداً ما قام به معاوية من انتهاكات لحدود الله وهتك حرمته وحرمة رسول الله(ص) إلاّ أن هذا الفعل عند كثير من الناس لا يعني لهم شيئا، أو بالأحرى ينظر إلى قوله بالشهادتين بل: الأدهى من ذلك هو القيام بوضع المبررات له، والتماس هذا فيما فعل من حربه لعلي بن أبي طالب(ع) وقتله الإمام الحسن(ع) بن بنت رسول الله(ص) وصحابة النبي(ص) كحجر بن عدي ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وغيرهم.
إذن: هناك تفاوت في الرتب وهناك فرق واضح بين الإسلام والإيمان وهو ما يدعونا إلى بيان بعض المصاديق التي ظهرت في هذا الأثر، أي: تصحيح مسار سنة رسول الله(ص) وذلك أنّ الناس بعد وفاة رسول الله(ص) قد رأت من بعض الصحابة ما كان كاشفا عن هذا التفاوت بين الإسلام والإيمان حينما أقدم القوم على كشف بيت فاطمة(ع) (٣) بضعة سيد المرسلين(ص).
فكان هذا الحدث هو أول انحراف عن مسار سنة رسول الله(ص) التي تنص على أن حرب فاطمة وعلي وولديهما هي حرب لرسول الله(ص) وأن سلمهم سلمه(٤).
ثم تتابع هذا الانحراف عن سنة رسول الله(ص) ليظهر بأبشع صورة على أرض كربلاء حينما ذبح المسلمون ابن بنت نبيهم وحملوا رأسه على رمح يطاف به في البلاد الإسلامية لينتهي به المطاف في طشت أمام (الحاكم الإسلامي) وهو يقرعه بالعصا والمسلمون ينظرون إليه وكأنهم يشاهدون -وبغض النظر عن الطبيعة الإنسانية الرافضة لهذا الاسلوب المتوحش- رأس ألدّ أعدائهم فلم يكفهم قتله بل لم يشفهم سحق جسده بسنابك الخيل وتقطيعه وإنما يفعل برأسه هذا الصنيع.
ومن ثم: أصبح المجتمع الإسلامي في أبعد ما يكون عن الإسلام.
وعليه: لزم أن يكون هناك تصحيح لهذا المسار وأن يصحو المسلمون من هذه الغفلة المطبقة على عقولهم وقلوبهم فكان ذلك من خلال وجود عقيلة بني هاشم السيدة زينب(ع) التي وقفت تدق بكلماتها مع (الحاكم الإسلامي) طاغية بني أمية وفرعونهم الأكبر تلك الجدران التي أحاطت بعقول المسلمين فأصبحوا صما بكما فهم لا يعقلون إلى المستوى الذي جعلهم يعتقدون أن لا حرمة لرسول الله وأهل بيته وليس لهم منزلة عند الله تعالى.
فكيف يكون لهم المنزلة عند الله تعالى ورأس الحسين(ع) يحمل على الرمح ويطاف به البلاد وهو الأمر الذي جعل زيد بن أرقم يتعجب أشد التعجب مما يرى ويسمع من الرأس المقدس حينما طيف به في أزقة الكوفة، قائلا:
(مر به علي وهو -الرأس الشريف- على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا»(٥).
فوقف -والله- شعري وناديت: رأسك والله -يا ابن رسول الله- أعجب وأعجب) (٦).
والحادثة تكشف بوضوح عن آثار هذه المأساة في عقيدة المسلم بشكل خاص وفي عقيدة غير المسلم بشكل عام.
من هنا:
نجد أن عقيلة بني هاشم السيدة زينب(ع) قد أزاحت هذا الصدأ عن قلوب كثير من المسلمين حينما خاطبت ابن معاوية لعنه الله تعالى بقولها له:
"أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً؟! وبك عليه كرامة؟!.
وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا أنسيت قول الله تعالى:
«وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(٧)"(٨).
إذن: أصبح تصحيح المسار للسنة المحمدية مرتكزا على إرجاع الناس إلى الاعتقاد بحرمة محمد وأهل بيته وأن الذي جرى عليهم من محاصرتهم بتلك الجيوش وسوقهم كما تساق الأسارى ليس لكونهم هينين على الله تعالى وأن عدوّهم الذي فعل بهم هذا الفعل لكرامته على الله وعظيم خطره عنده، فأصبح عدوّهم شامخا بأنفه فرحانا مسرورا بما صنع.
لكن: هذه الغفلة والحيلة انكشفت حينما أظهرت العقيلة زينب(ع) الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حدوث مثل هذه المآسي في الإسلام، وذلك من خلال سنة الافتتان بالدنيا فهي تجر إليها من فتن بها فضلا عن أن الملك الذي وصل إليه هؤلاء الظالمون هو في الأصل ملك رسول الله وأهل بيته بمعنى: أن الله تعالى جعل الملك والسلطان وسياسة العباد وإصلاح البلاد في الأنبياء ولكن هؤلاء الظالمين هم الذين اعتدوا على ملك غيرهم وانتهبوا سلطان الأنبياء وحكموا العباد بالجور وأشاعوا الفسق والفجور بين الناس، إلا أنّ كل هذا لا يدوم لهم، وأن بقاءهم فيما هم عليه ليس لكونهم صالحين ومرضيين عند الله تعالى فأضفى عليهم نعمة الإمهال فلم يعاجلهم بالعقوبة وذلك لأنه لن يفوته سبحانه عقابهم.
ولذلك: تقول عليها السلام مذكرة يزيد الذي هو في حقيقة الأمر أنموذج لكل الطواغيت في الأرض؛ لأن الصراع ليس بين الإمام الحسين(ع) ويزيد بن معاوية وإنما الصراع بين النور والظلام بين الخير والشر بين الصلاح والفساد، ومن ثم فإن سنة الإمهال التي سنها الله تعالى في حكمه لعباده مردها إلى أن الله تعالى حينما مكنهم من هذا الملك فأملى لهم بالقوة والمال وعبيد الدنيا إنّما كان لهدف وغاية وهي كي يزدادوا إثما ولهم عذاب عظيم.
وبهذا: يكون إعادة مسار السنة النبوية إلى وضعها الصحيح حينما يدرك المسلمون حقيقة هؤلاء الطواغيت في كل زمان وعصر فينبذونهم ويتبرأون منهم ولا يتمسّكون إلاّ بمحمد وأهل بيته(ع).
وبهذا الأثر، نكون قد وفقنا إلى بيان جانب من الحكمة في إخراج الإمام الحسين(ع) عياله من المدينة واصطحابهم معه إلى العراق، على الرغم من كل تلك المقدمات التي كانت في حقيقة الحال هي نتائج تكشف بوضوح أدق التفاصيل لمأساة كربلاء في يوم العاشر من المحرم لأن ما يروى عن النبي(ص) وأوصيائه قطعي الوقوع، وذلك أنه لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى.
ولذا: فإن قضية الحسين وقضية عاشوراء بشكل خاص إنما هي نواة الحركة الإصلاحية للأنبياء والمرسلين(ع) التي يرتكز عليها قطب العدل والقسط وهو المهدي الموعود والحجة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
فبه يتحقق الدين الواحد الذي يظهره الله تعالى على الديانات كلها فلا يبقى إنسان على الأرض لا يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله.
«وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(٩)
_________________________
(١)سورة البقرة، الآية:٢٥٣.
(٢)سورة الحجرات، الآية:١٤.
(٣)قال أبو بكر عند وفاته: "فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب". أنظر في ذلك: تاريخ الطبري: ج٢، ص٦١٩؛ تاريخ ابن عساكر: ج٣٠، ص٤٢٠؛ كنز العمال للهندي: ج٥، ص٦٣٢.
(٤)عن أبي هريرة قال: نظر النبي -(ص)- إلى علي وفاطمة والحسن والحسين وقال: "أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم". أنظر: مستدرك الحاكم: ج٣، ص١٤٩؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج٧، ص ٥١٢؛ الصحيح لابن جبان: ج١٥، ص٤٣٥؛ المعجم الأوسط: ج٣، ص١٨٠.
(٥)سورة الكهف، الآية:٩.
(٦)الإرشاد للشيخ المفيد: ج٢، ص١١٨.
(٧)سورة آل عمران، الآية:١٧٨.
(٨)معالم المدرستين للعسكري: ج٣، ص١٤٥؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج٣، ص١٤٣.
(٩)سورة هود، الآية:٨٨.
المصدر: سبايا آل محمد(ص) (دراسة فس تاريخ سبي النساء وعلة إخراج الإمام الحسين(ع) عياله إلى كربلاء)، السيد نبيل الحسيني، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة، ط١، ١٤٣٣ﻫ-٢٠١٢م، كربلاء المقدسة، العراق.
اترك تعليق