مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

"الحاجة فاطمة... بركة المقاومة": أم الشهداء والمجاهدين

                    

ولدت الحاجة فاطمة في قرية يحمر الشقيف عام 1928 في بيت ينتمي بفطرته إلى الإسلام ويشهد حبه وولاءه لأهل البيت عليهم السلام، فنشأت، وترعرعت في أجواء إيمانية ممزوجة بحب الأرض والتعلق بها.
ولمّا بلغت الثالثة عشر من عمرها انتقلت إلى بيتها الزوجي تحمل معها صفات الأب المتسامح المحب للناس والمعروف بكرمه، وصفات الأم التي افتقدتها بكرا والتي توفيت في عز صباها وكانت تتميز بطيبتها وعاطفيتها، وكانت ثمرة زواجها المبكر عشرة أولاد؛ ثمانية ذكور وابنتان، تحملت مسؤولية تربية خمسة منهم وحدها بعد وفاة زوجها الذي عرف بقوة شخصيته ورجاحة عقله ووجاهته في القرية وسخائه فقد كان صاحب أملاك وأراض واسعة ولا يبخل على صغير أو كبير بمشورة أو نصيحة... وبقيت أم محمد تعمل في الأرض وتزرع التبغ وتبذل جهدا كبيرا ليبقى المنزل مفتوحا أمام الناس كما كان في حياة زوجها أبي محمد، وليتحول بعد ذلك إلى مركزية للمقاومة الإسلامية ومحور انطلاق عملياتها ضد الاحتلال ونقطة وصل بين القرى المحررة والمحتلة...
 
لم تكن الحاجة فاطمة تملك الخطابة ولا تتقن صياغة الكلمات والتعابير، كانت بسيطة بتعبيرها وانتمائها، بلدية القول والفعل، قريبة من القلوب؛ كل من يعرفها يتأثر بها ويحبها، لم تترك أي أثر سلبي بعلاقاتها مع الناس (من عائلتها وأهل قريتها والمجاهدين) حتى صار المقاومون يعتبرونها بركة في حياتهم وجهادهم يتفاءلون بطلتها ويستبشرون برؤيتها ويطلبون دعاءها...
  لم يكن ولاؤها لنهج المقاومة وخط حزب الله ولاءً انفعاليا(لقد كان فرح حزب الله فرحها وحزنه حزنها) لها مع المقاومة حكايات البداية والانتصار، ثمانية عشر عاما من الجهاد والتضحيات، عاشت أحزانهم وأفراحهم شهدت بأسهم، شاركتهم عذابات الطريق، لم تفارق ليلهم ولا نهارهم، كتمت سرهم ولم تكشف لأحد أمرهم. كانوا يدخلون منزلها ويخرجون منه بكتمان وسرية فصاروا يشاركونها في الإعداد والتجهيز وتوضيب السلاح والأمتعة حتى أضحت تعرف مكان الجعبة والبندقية والبذلة العسكرية وتحفظ مخابئها، كانت تتفقد كل مقاوم وتسهر على تأمين راحته وزوال تعبه بعد رجوعه من مهمة عسكرية.
كل هذا وغيره والحاجة فاطمة صامدة في قريتها نادرا ما تغادر بيتها وحقلها ففي سماء يحمر كانت ترى وجوه الشهداء، وفوق قلعة الشقيف كانت تتراءى لها صورة ولديها الشهيدين يوسف وإبراهيم، لقد كانت علاقتها بيوسف مميزة جدا وتحبه كثيرا، تعلقت به لأنه أصغر أولادها ومع ذلك كانت تعرف أنه يعمل مع المقاومة فشجعته بل صارت تجهز له سلاحه.
 وفي الليلة التي استشهد فيها جاءت إليه، وودعته وداعا مميزا وعاملته معاملة مختلفة (كانت تشعر أنها ستفقده)، ودعته وخرج لكنه عاد مجددا إليها ليودعها الوداع الأخير- قبلها فقلدته السلاح ثانية ورافقته خارج الدار ومشت معه مسافة قصيرة وقالت "الله معك" ولما دخلت بيتها قالت لابنتها: "أشعر أن يوسف لن يعود هذه المرة، سيستشهد". وفي تلك الليلة وأثناء قيام يوسف بزرع عبوة على مفترق ديرميماس فوجئ بكمين للصهاينة فدارت بينه وبينهم اشتباكات، فسمعت أم محمد أصوات رشقات رصاص غزير وكانت ما زالت ساهرة عينها لم تغمض ولم تنم تدعو لولدها ولشباب المقاومة فلما تناهى صوت الرصاص إلى سمعها قالت لابنتها ألم أقل لك، وصلوا الشباب...
  
  واستشهد يوسف الملقب بـ"أبو الزوز" عام 1986، وبقيت جثته الطاهرة مع العدو أربعة عشر يوم ولما فرج عنها واستلمته عائلته أطلقت الحاجة فاطمة زغرداتها ولم يظهر عليها ضعف أو انكسار أو تبديل وتغير في شخصيتها...
  وبعد ست سنوات تكرر المشهد نفسه هذه المرة مع ولدها إبراهيم (أبو عزوز) الذي استشهد في يوم عيد الأم، وعن تلك اللحظات يروي شقيقه الحاج قاسم عليق: "في ذلك اليوم أتيت لزيارة الوالدة وأحضرت لها باقة ورد فلما رأتها بهتت وقالت لي سأضع هذه الورود على قبر الشهيد إبراهيم، علما أنه لم يعلن عن استشهاده بعد ولم يخبرها أحد بذلك، ومضى أربعة عشر يوما وجثة إبراهيم في العراء (بقعر الوادي بين زوطر وعلمان)، وبعد البحث عنه وجدوه جالسا مستندا إلى صخرة والسلاح ما زال في يده فحملوه وأتوا به ووضعوه إلى جانب قبر أخيه يوسف، هنا كان الموقف عظيما من الأم المضحية بشهيدين، توجهت الحاجة فطمة إلى قبر ولدها يوسف ورفعت يديها إلى السماء وقالت: الله يبيض وجكن متل ما بيضتو وجي..."
   إنه الموقف الزينبي الذي تعلمته نساؤنا من سيرة عاشوراء وملحمة كربلاء، على الرغم من فقدها ولدين عزيزين لم تتراجع ولم تنزوِ بثياب الحداد بل على العكس صارت ترى سلوتها بالمجاهدين المحيطين بها والساكنين بجوارها والذين يملؤون دارها حركة ودعاء وصلاة وطيبا من جراحهم، كان الجرحى يقصدونها ويطمئنون لبلسم يديها وكانت هي تسرع في إحضار الطبيب والمسعف في أي وقت كان ومهما كان الجو والمناخ...
وبقيت الحاجة فاطمة على هذه الحال سنوات وليالي وأياما تخلص لله في توجهها وتكثر من صيامها ودعائها ومن خدمتها للمجاهدين تصنع لهم الطعام وتعجن الخبز المرقوق لهم بيديه، تغسل ثيابهم وتزيل عنها الوحل والتراب والشوك إلى أن فاجأها المرض وأوهنها الدواء والعلاج ودخول المستشفيات وإجراء العمليات (...)

لم تعلم الحاجة فاطمة أن فقدها ورحيلها أفقد الفرحة من قلوب محبيها وعارفيها خصوصا المجاهدين الذين شعروا باليتم عند موتها وتحول عيدهم إلى عزاء فقد كانت منيتها يوم عيد الأضحى عام 2002(...)
وفي وصيتها الأخيرة أوصت الحاجة اولادها وأحفادها بالتعاون والصبر والحفاظ على دينهم وآخرتهم.
وأما البيت (مركزية المقاومة) فقد أوصت بحصتها منه للإمام الحسين عليه السلام لإقامة المجالس عن روح أبي عبد الله عليه السلام ليبقى طيف الشهداء وذكرهم يسكن الدار التي كانت فيه الحاجة فاطمة بركة المقاومة...

المصدر: مأخوذ من مجلة بقية الله-عدد 129

التعليقات (0)

اترك تعليق