مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

إرتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهن الإسلامية

إرتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهن الإسلامية

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة الممتحنة، الآية: 12)


شروط بيعة النساء:
استمرارا للبحث الذي تقدم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات، تتحدث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرسول الأعظم(ص). لقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة عندما كان رسول الله(ص) على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال، وكانت نساء مكة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه، وبينت كيفية البيعة معهن، ويختص خطاب الآية برسول الله(ص) حيث يقول تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله... إلى قوله:... إن الله غفور رحيم. وبعد هذه الآية أخذ رسول الله البيعة من النساء المؤمنات. وكتب البعض حول كيفية البيعة أن رسول الله(ص) أمر بإناء فيه ماء، ووضع يده المباركة فيه، ووضع النسوة أيديهن في الجهة الأخرى من الإناء. وقيل إن رسول الله بايع النساء من فوق الملابس.

ومما يجدر ملاحظته أن الآية الكريمة ذكرت ستة شروط في بيعة النساء، يجب مراعاتها وقبولها جميعا عند البيعة وهي:
1- ترك كل شرك وعبادة للأوثان، وهذا شرط أساسي في الإسلام والإيمان.
2- اجتناب السرقة، ويحتمل أن يكون المقصود بذلك هو سرقة أموال الزوج، لأن الوضع المالي السيئ آنذاك، وقسوة الرجل على المرأة، وانخفاض مستوى الوعي كان سببا في سرقة النساء لأموال أزواجهن، واحتمال إعطاء هذه الأموال للمتعلقين بهن. وما قصة (هند) في بيعتها لرسول الله(ص) إلا شاهد على هذا المعنى، ولكن على كل حال فإن مفهوم الآية واسع.
3- ترك التلوث بالزنا، إذ المعروف تأريخيا أن الانحراف عن جادة العفة كان كثيرا في عصر الجاهلية.
4- عدم قتل الأولاد، وكان القتل يقع بطريقتين، إذ يكون بإسقاط الجنين تارة، وبصورة الوأد تارة أخرى (وهي عملية دفن البنات والأولاد أحياء).
5- اجتناب البهتان والافتراء، وقد فسر البعض ذلك بأن نساء الجاهلية كن يأخذن الأطفال المشكوكين من المعابر والطرق ويدعين أن هذا الطفل من أزواجهن (وهذا الأمر محتمل في حالة الغياب الطويل للزوج). وقد اعتبر البعض ذلك إشارة إلى عمل قبيح هو من بقايا عصر الجاهلية، حيث كانت المرأة تتزوج من رجال عدة، وعندما يولد لها طفل تنسبه إلى أي كان منهم، إذا ضمنت رغبته بالطفل. ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن مسألة الزنا قد ذكرت سابقا، ولم يكن استمرار مثل هذا الأمر في الإسلام ممكنا، لذا فإن هذا التفسير مستبعد، والتفسير الأول أنسب بالرغم من سعة مفهوم الآية الشريفة الذي يشمل كل افتراء وبهتان. كما أن التعبير ب‍ بين أيديهن وأرجلهن يمكن أن يكون إشارة إلى أطفال أبناء السبيل، حيث تكون وضعية الطفل الرضيع عند رضاعته في حضن أمه بين يديها ورجليها.
6- الطاعة لأوامر رسول الله(ص) التي تبني الشخصية المسلمة وتهذبها وتربيها على الحق والخير والهدى، وهذا الحكم واسع أيضا يشمل جميع أوامر الرسول، بالرغم من أن البعض اعتبره إشارة إلى قسم من أعمال النساء في عصر الجاهلية كالنوح بصوت عال على الموتى، وتمزيق الجيوب وخمش الخدود وما شابه، إلا أن مفهوم الطاعة لا ينحصر بذلك. ويمكن أن يطرح هنا هذا السؤال وهو: لماذا كانت البيعة مع النساء مشروطة بهذه الشروط، في حين أن بيعة الرجال لم تكن مشروطة إلا بالإيمان والجهاد؟ وللإجابة على ذلك نقول: إن الأمور الأساسية المتعلقة بالرجال في ذلك المحيط هو الإيمان والجهاد، ولأن الجهاد لم يكن مشروعا بالنسبة للنساء لذا ذكرت شروط أخرى أهمها ما أكدت عليه الآية الشريفة والتي تؤكد على صيانة المرأة من الانحراف في ذلك المجتمع.

ارتباط بيعة النساء ببناء شخصيتهن الإسلامية:
لقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح -في نهاية الآية (18)- بحثا مفصلا حول البيعة وشروطها وخصوصياتها في الإسلام، لذا لا ضرورة لتكرار ذلك(1).
ومما يجدر التذكير به هنا أن مسألة بيعة النساء للرسول(ص) كانت بشروط بناءة ومربية كما نصت عليها الآية أعلاه. إن هذه النقطة على خلاف ما يقوله الجهلة والمغرضون في أن الإسلام حرم المرأة من الاحترام والقيمة والمكانة التي تستحقها، فإن هذه الآية أكدت على الاهتمام بالمرأة في أهم المسائل ومن ضمنها موضوع البيعة سواء كانت في الحديبية في العام السادس للهجرة أو في فتح مكة، وبذلك دخلن العهد الإلهي مع الرجال وتقبلن شروطا إضافية تعبر عن الهوية الإنسانية للمرأة الملتزمة تنقذها من شرور الجاهلية، سواء القديمة منها أو الجديدة، حيث تتعامل معها كمتاع بخس رخيص، ووسيلة لإشباع شهوة الرجال ليس إلا.

الطاعة بالمعروف:
إن من جملة النقاط الرائعة المستفادة من الآية أعلاه هو تقييد طاعة الرسول بالمعروف، مع أن الرسول(ص) معصوم، ولا يأمر بالمنكر أبدا، وهذا التعبير الرائع يدلل على أمر في غاية السمو، وهو أن الأوامر التي تصدر من القادة الإسلاميين -مع كونهم يمثلون القدوة والنموذج- لن تكون قابلة للتنفيذ ومحترمة إلا إذا كانت منسجمة مع التعاليم القرآنية وأصول الشريعة وعندئذ تكون مصداقا (لا يعصينك في معروف). وكم هي الفاصلة بعيدة بين الأشخاص الذين يعتبرون أوامر القادة واجبة الطاعة، مهما كانت ومن أي شخص صدرت، مما لا ينسجم مع العقل ولا مع حكم الشرع والقرآن، وبين التأكيد على إطاعة المعصوم وعدم المعصية في معروف؟! وقال أمير المؤمنين(ع) في رسالته المشهورة التي أرسلها لأهل مصر حول ولاية مالك الأشتر، ومع كل تلك الصفات المتميزة فيه: "فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله"(2).


الهوامش:
1-  يراجع في هذا الصدد التفسير الأمثل الآية (18) سورة الفتح.
2- نهج البلاغة، رسالة رقم (38) وهي رسالة قصيرة كتبها الإمام(ع) لأهل مصر هي غير ما كتبه الإمام (ع) من العهد المعروف لمالك الأشتر.



المصدر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج18


 

التعليقات (0)

اترك تعليق