مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

السيدة الشهيدة..

السيدة الشهيدة..

تمر في كل عام ذكرى القادة الشهداء، فتتلون الأيام وتزهو بألوان الانتصارات التي عمدت بالدم، وتتحدث البيوت والشوارع والقرى عن قادة مروا من هنا، وترك مرورهم أثرا لا يزال ضجيجه وليد ساعته، فالشيخ راغب والسيد عباس والحاج عماد خبز الحياة اليومية، لا تغيب قصصهم عن أحاديث الناس في كل يوم، فكيف لمبصر أن ينسى للحظة أن لديه عين يبصر بها، ونحن المبصرون كيف لنا أن ننسى للحظة أن ما نراه من نصر وعزة للمقاومة هو من صنع تلك الأنامل والعقول المباركة لهؤلاء القادة. ألف تحية للقادة الشهداء وألف شكر.
ويحتم علينا الواجب لدى ذكرهم وذكر السيد عباس الموسوي بالأخص أن لا ننسى المرأة المجاهدة التي كانت تقف خلف السيد عباس تعينه وتؤازره، ضمن نطاقها النسائي الخاص، وهي زوجته الكريمة السيدة أم ياسر ، تلك المرأة التي صنعت لنفسها مكانة في قلوب الناس ليس بالسهل نسيانها، كما حفرت لنفسها  في تاريخ المقاومة سطوراً مشعة لا يمكن تجاهلها.
هي السيدة سهام محمد الموسوي المولودة في بلدة النبي شيت البقاعية، في ظل أسرة مؤمنة محافظة، والمتزوجة من السيد عباس الموسوي أمين عام حزب الله الراحل. بدأت رحلتها الجهادية منذ اللحظة الأولى للزواج المبارك، فالسيدة أم ياسر وافقت على الزواج من عالم دين على الرغم من معرفتها إن حياة العلماء ليست بالسهلة، بل هي مسؤولية كبيرة، فكانت السيدة أهلا وكفؤا لهذه المسؤولية التي اختارها الله لها، فاختارت لنفسها أثاثا متواضعاً جداً وابتاعت الحاجيات الضرورية وكونت منزلاً من ارتب وأجمل ما يكون.
رافقت السيد عباس في رحلته إلى النجف الأشرف وهناك التحقتْ بالحوزة العلمية لتبدأ بدراسة العلوم الإسلامية، وكانت تلميذة مجتهدة ومثابرة. فنظمت وقتها بين دروسها واهتمامها بمنزلها وعائلتها دون تقصير.
وفي بعلبك عملت في مجال التبليغ وأنشأت برفقة السيد عباس حوزة للأخوات في المنطقة، فكانت تدرس وتستقطب النساء ليتعلمن الدين ويتفقهن به وبأحكامه.
لازمت " أم ياسر" زوجها السيد عباس الموسوي، وتنقلت معه من مكانٍ إلى آخر على الرغم من خطورة الوضع الأمني والسياسي وتعرضهم الدائم للخطر.وكانت ترافق السيد إلى المواقع الجهادية وتتسلق الجبال دون خوف أو تراجع، وفي إحدى المرات لاطفها السيد قائلاً: " إذا كان حظك كبيراً يا أم ياسر تكون القذائف الإسرائيلية من نصيبك"، فما كان منها إلا أن تبسمت وأومأت بالرضا والقبول بقضاء الله وقدره. وكانت دائماً تحدث نفسها وتتمنى أن تكون شهيدة بجوار السيد عباس.
سعت السيدة أم ياسر إلى خدمة المجاهدين بكل طاقتها، فكانت تعد لهم الطعام، وتغسل ثيابهم العسكرية، وتستقبل ضيوف السيد بكل سرور ولا تتأفف من خدمتهم، وإذا ما هم السيد بشكرها تسارعه بالقول: " لا تشكرني على ذلك فهذه فرصتي الوحيدة، لقد نذرنا أنفسنا لخدمة هذا العمل، وهؤلاء ضيوف مؤمنون والعمل أمامهم في سبيل الله، فلا ملل ولا تعب من ذلك".
وقد واكبت "أم ياسر" السيد عباس إبان تسلمه للأمانة العامة، وآزرته، ووضعت نفسها في خدمة المستضعفين الذين رفع السيد لأجلهم شعار: "سنخدمكم بأشفار عيوننا".
أحبت زوجها السيد عباس بشكل كبير، وكانت إذا ما رأته عائداً إلى المنزل تغير لونها وابتهجت لقدومه، وفي إحدى المرات تعبت وتورمت قدماها من العمل في المنزل وخارجه، ولم تعد تستطيع الوقوف لشدة تعبها فحاولت صديقتها أن تقنعها بالتخفيف من مسؤولياتها وبأخذ قسط من الراحة، ولكنها ما إن سمعت صوت السيد في المنزل حتى قامت من مكانها ومشت ناحيته قائلةً لصديقتها المستغربة: "جاء السيّد .. ذهب الوجع"!.
لذا فإن السيّد كان يناديها بـ" الخيرات الحِسَان"، ويقول لها دوماً: "الزوجة الجميلة جوهرة، ولكن الزوجة الصالحة كنز".
دأبت السيدة أم ياسر على تربية أولادها تربية حسنة وإعدادهم من مختلف النواحي الإيمانية العقائدية والعسكرية الجهادية، فكانت ترسلهم مع والدهم إلى المحاور حتى يكونوا مجاهدين حسينيين عندما يكبرون، وعودتهم على الاتكال على أنفسهم، وترتيب أغراضهم وكي ملابسهم، وكانت تقول دائماً: "نحن لن نبقى معهم.. عليهم أن يتعودوا على ذلك"، وكأنها كانت تشعر بقصر رحلتها في هذه الدنيا.
كما ربتهم على التواضع وحسن الخلق، وعدم الاهتمام لأمور الدنيا، فكانت تبعدهم عن حياة الإسراف والبذخ، وتطلب إليهم عدم التبذير أو شراء ما لا يحتاجونه، أو ارتداء ملابس فاخرة، بل تدعوهم للتواضع بكل شيء، والاتكال على الله والتسليم لأمره في كل المواقف.
وفي إحدى المرات استيقظ ابنها باكراً ولاحظت عليه الارتباك والهم، فسألته عما أهمه فصارحها بأنه "لا يوجد لدينا طعام في المنزل فماذا ستفعلين وماذا ستطعمين إخوتي"، فما كان منها إلا أن ابتسمت له وقالت: "اليوم هو يوم الجمعة ونحن في ضيافة الإمام الحجة (عج)، لا تقلق"، وما كانت إلا دقائق قليلة وإذا بضيف قد أتى من بعيد، وقد أحضر معه أقفاصا من الفاكهة والخضار، من غلة الموسم وقد أحضرها للسيد عباس ليتبارك موسمه. فنظرت إلى ابنها وابتسمت وقالت: "أرأيت نحن في ضيافة الإمام الحجة (عج)".
لقد أقامت علاقة خاصة مع الله عز وجل وأهل البيت عليهم السلام، فكانت لا تقوم بأي عمل إلا ويكون رضا الله قبله وبعده وأثناءه. هي السيدة الوقورة المؤمنة التي لا تترك واجباً لا بل مستحباً إلا سعت إليه، وبالرغم من الجهد والتعب خلال النهار، كانت إذا ما ادلهم الليل تراها راكعة خاشعة لله عز وجل، لا تفوت صلاة الليل، وفي إحدى المرات كانت تجالس النسوة وتطرأن للحديث عن جمال الوجه ونضارة البشرة، وأخذت كل واحدة منهن تدلي بدلوها من نصائح وإرشادات، فتبسمت أم ياسر كالعادة قائلة: "إن أفضل علاج للوجه هو قيام الليل".
وفي 16 شباط 1992 كان الموعد والوصال مع المحبوب برفقة الحبيب، استشهدت السيدة "أم ياسر الموسوي"، مع زوجها السيد عباس وابنيهما حسين، كما تمنت دائماً، أثناء عودتهما من الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستشهاد الشيخ راغب حرب، وسلمت روحها لبارئها بكل اطمئنان وتسليم..
 
 
المصدر: إرث الشهادة.

التعليقات (0)

اترك تعليق