أخي الشهيد.. ذاكرتي أنت والشهداء
نقاط على الحروف
14 آب 2006. أذكر هذا التاريخ جيداَ. يتجسد أمامي على شكل الفرح. حاولت كثيراً أن أحصي عدد الابتسامات في وجوه أقاربي ذلك اليوم لكنني لم أستطع. مشهد واحد لا يغيب عن ذاكرتي، بكى جدي كثيراً على عدد ابتسامته، لم يكن يصدّق أننا انتصرنا وكسرنا صورة العدو الذي لا يُقهر.
لم يعش جدي جيل الانتصارات. عمر الرجل الثمانيني من عمر الهزائم والاتفاقات مع إسرائيل والحروب الأهلية والصراعات. عمره من عمر الاحتلال والتهجير والاستسلام. عام 2000 وقف جدي على حدود فلسطين، من أعلى تلة في مارون الرأس وبكى أيضاً. كان حلماً أن يرى ما رآه.
أذكر أن والدتي كانت تجمع كل أشكال الفراق التي تراكمت بحجم المسافة التي تفصلها عن والدي وأخي محمد. أرادت أن تصل إليهما قبل أن تحجب الشمس ضوءها فتضيع على أمي ملامحهما. قادت أمي سيارتها فوق الدمار ووسط مشهد الجموع المتسابقة للوصول إلى منازلها. كنا بينهم، وأنا أراقب وجوه الناس، أحاول أن أحفظ صوت ضحكاتهم للتاريخ.
النصر يصنعه الشهداء
اليوم لم يبق في أذني سوى ضحكة محمد. كل ما جمعته في طريق العودة اختصرته ضحكة أخي الشهيد وهو يرفع راية النصر في كل شوارع قريتنا. كان سعيداً جداً، كمن يُحيك بداية نصره الأكبر يوم سيرتفع بشهادته.
كان وجه محمد عام 2006 يرسم معالم شبابه. لم تكن لحيته قد رسمت كل طريقها على أطراف وجهه الهادئ، لكن طريق جهاده كان واضحاً بكل تفاصيله. محمد كان مقاوماً في حرب تموز، سهر على حماية أبناء وطنه ولم تنم عيناه الجميلتان.
كل شيء هنا يعيدنا إلى محمد. الحرب والنصر والجهاد والتضحية والشهادة. ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب فيها الكثير عن محمد. تغيّر علينا قليلاً بعد الحرب. شعرت به صار رجلاً. تجاوز مرحلة الشباب قبل أن تكتمل لحيته.
اليوم وصلني شعور عوائل شهداء حرب تموز. عام 2006 رأيت صورهم تتناقلها وسائل الإعلام وتتحدث عن بطولاتهم. لم أكن أعلم ماذا يترك الشهيد في أهله إلا منذ أشهر قليلة. احتجت إلى تسعة أعوام لأجيب عن سؤالي: كيف يعيش عوائل الشهداء بعد ارتقاء أبنائهم؟ بعزّة.
اليوم أسأل: كيف حالنا بعد غياب محمد تسعة أعوام عن حياتنا؟ لا أملك الإجابة الآن، لكنني سأكتفي بالنظر إلى وجوه أمهات شهداء حرب تموز وقد حفرت ابتسامات الشرف معالم وجوههن، لأُطمئن نفسي أن عدد السنين لن يغير شيئاً سوى حجم الكرامة التي سترتفع أكثر، وشكل الشوق الذي سيتمدّد إلى حدود القلب.
سأكتفي اليوم بالنظر إلى وجه جدي الذي وقف أمام نعش حفيده منذ شهرين، وراح يوزّع الفرح على قلوب القادمين، يرفع عن ذاكرته ثقل العار المتراكم على مدى العقود الماضية ويستأنس بشعور الفخر الذي تكوّن من دماء محمد. في الواقع كان أكثر من استئناس، كان كطير تعلم التحليق حديثاً واكتشف معنى حقيقة الحياة. جد الشهيد بات اليوم شاهداً على معنى الكرامة، رسمها حفيده في جيل جديد لا يعرف إلا النصر أو الشهادة.
يا محمد، علمتنا بشهادتك أن يصبح كل المكان والزمان أنتم . لأنكم أنتم صنعتم لنا الأمكنة والأزمنة، ولولا دمائكم لما كتبنا عن كل هذه الانتصارات. شكراً لكم على الخامس والعشرين من أيار، شكراً لكم على الرابع عشر من آب، شكراً لكم على كل التواريخ المشرفة التي تسجلونها اليوم على حدود هذا الوطن وأوسع.
المصدر: جريدة العهد.
14 آب 2006. أذكر هذا التاريخ جيداَ. يتجسد أمامي على شكل الفرح. حاولت كثيراً أن أحصي عدد الابتسامات في وجوه أقاربي ذلك اليوم لكنني لم أستطع. مشهد واحد لا يغيب عن ذاكرتي، بكى جدي كثيراً على عدد ابتسامته، لم يكن يصدّق أننا انتصرنا وكسرنا صورة العدو الذي لا يُقهر.
لم يعش جدي جيل الانتصارات. عمر الرجل الثمانيني من عمر الهزائم والاتفاقات مع إسرائيل والحروب الأهلية والصراعات. عمره من عمر الاحتلال والتهجير والاستسلام. عام 2000 وقف جدي على حدود فلسطين، من أعلى تلة في مارون الرأس وبكى أيضاً. كان حلماً أن يرى ما رآه.
أذكر أن والدتي كانت تجمع كل أشكال الفراق التي تراكمت بحجم المسافة التي تفصلها عن والدي وأخي محمد. أرادت أن تصل إليهما قبل أن تحجب الشمس ضوءها فتضيع على أمي ملامحهما. قادت أمي سيارتها فوق الدمار ووسط مشهد الجموع المتسابقة للوصول إلى منازلها. كنا بينهم، وأنا أراقب وجوه الناس، أحاول أن أحفظ صوت ضحكاتهم للتاريخ.
النصر يصنعه الشهداء
اليوم لم يبق في أذني سوى ضحكة محمد. كل ما جمعته في طريق العودة اختصرته ضحكة أخي الشهيد وهو يرفع راية النصر في كل شوارع قريتنا. كان سعيداً جداً، كمن يُحيك بداية نصره الأكبر يوم سيرتفع بشهادته.
كان وجه محمد عام 2006 يرسم معالم شبابه. لم تكن لحيته قد رسمت كل طريقها على أطراف وجهه الهادئ، لكن طريق جهاده كان واضحاً بكل تفاصيله. محمد كان مقاوماً في حرب تموز، سهر على حماية أبناء وطنه ولم تنم عيناه الجميلتان.
كل شيء هنا يعيدنا إلى محمد. الحرب والنصر والجهاد والتضحية والشهادة. ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب فيها الكثير عن محمد. تغيّر علينا قليلاً بعد الحرب. شعرت به صار رجلاً. تجاوز مرحلة الشباب قبل أن تكتمل لحيته.
اليوم وصلني شعور عوائل شهداء حرب تموز. عام 2006 رأيت صورهم تتناقلها وسائل الإعلام وتتحدث عن بطولاتهم. لم أكن أعلم ماذا يترك الشهيد في أهله إلا منذ أشهر قليلة. احتجت إلى تسعة أعوام لأجيب عن سؤالي: كيف يعيش عوائل الشهداء بعد ارتقاء أبنائهم؟ بعزّة.
اليوم أسأل: كيف حالنا بعد غياب محمد تسعة أعوام عن حياتنا؟ لا أملك الإجابة الآن، لكنني سأكتفي بالنظر إلى وجوه أمهات شهداء حرب تموز وقد حفرت ابتسامات الشرف معالم وجوههن، لأُطمئن نفسي أن عدد السنين لن يغير شيئاً سوى حجم الكرامة التي سترتفع أكثر، وشكل الشوق الذي سيتمدّد إلى حدود القلب.
سأكتفي اليوم بالنظر إلى وجه جدي الذي وقف أمام نعش حفيده منذ شهرين، وراح يوزّع الفرح على قلوب القادمين، يرفع عن ذاكرته ثقل العار المتراكم على مدى العقود الماضية ويستأنس بشعور الفخر الذي تكوّن من دماء محمد. في الواقع كان أكثر من استئناس، كان كطير تعلم التحليق حديثاً واكتشف معنى حقيقة الحياة. جد الشهيد بات اليوم شاهداً على معنى الكرامة، رسمها حفيده في جيل جديد لا يعرف إلا النصر أو الشهادة.
يا محمد، علمتنا بشهادتك أن يصبح كل المكان والزمان أنتم . لأنكم أنتم صنعتم لنا الأمكنة والأزمنة، ولولا دمائكم لما كتبنا عن كل هذه الانتصارات. شكراً لكم على الخامس والعشرين من أيار، شكراً لكم على الرابع عشر من آب، شكراً لكم على كل التواريخ المشرفة التي تسجلونها اليوم على حدود هذا الوطن وأوسع.
14 آب 2006: ذاكرتي أنت والشهداء.
زهراء جوني
زهراء جوني
المصدر: جريدة العهد.
اترك تعليق