مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المبايعتان في العقبة الكبرى

المبايعتان في العقبة الكبرى: نسيبة بنت كعب المازنية وأسماء بنت عمرو الأنصارية


 انتشر الإسلام وعمّ نوره المدينة المنورة في زمن قصير على يد الدّاعية الحصيف مصعب بن عمير العبدرّي رضي الله عنه، وغدت المدينة دار الإسلام المهيئة لتلقّي أعظم حدث في تاريخ الرّسالات، وتاريخ النبوات.
 وها هي ذي المدينة تصبح وتمسي وتضحي وتظهر على ذكر حميدٍ لرسول الله (ص)، فليس في بيوتها بيت إلا فيه مسلمون ومسلمات يحبون الإسلام ونبي الإسلام.
 ولما حان موسم الحج انطلق المسلمون ومعهم مصعب بن عمير قاصدين مكّة، وكان هؤلاء المسلمون ثلاثةً وسبعين رجلاً معهم امرأتان من نسائهم وهما: نسيبة بنت كعب المازنية المشهورة بكنية أم عمارة، وأسماء بنت عمرو الأنصارية المشهورة بكنية أم منيع.
 وصل الوفد الميمون مكة، وواعدوا النبي (ص) العقبة.
 قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: "ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، وامرأتان من نسائنا؛ نسيبة بنت كعب، أم عمارة، وأسماء بنت عمرو، أم منيع، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (ص) حتى جاءنا..." (1).
 ثم إن النبي (ص) تكلم مع الأنصار وأخذ  عليهم العهد فبايعوه ومعهم أمّ عمارة وأم منيع، وكانت البيعة الكبرى المعروفة، وما أجمل أن نقرأ هذه التغريدة؛ ثم نتعرف سيرة أم عمارة وأم منيع بإذن الله:
كعب  بن  مالك  قال            يروي البيعة الأخرى الكبيره
في  جنح  ليل  مظلم            في    ليلةٍ    كانت   خطيرة
فيها   التقينا    بالنبي           وكانت      اللقيا      سريره
سبعين  كنّا مع  ثلاث           خير       أبناء      الجزيره
غير اثنتين من النساء            فكانتا     ضمن      المسيره
إحداهما كانت  نسيبة            ثم      أسماء        الأخيره
أولاً: أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها:
 تأتي السيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية في مقدمة شهيرات نساء الأنصار رضي الله عنهن، وقد لمع نجمها يوم بيعة العقبة الكبرى مع الأنصار.
 وكانت هذه البيعة العظمى فتحاً مبيناً ونصراً بليغاً، وذلك بما أخذ فيها النبي (ص) من مواثيق وعهود على طلائع الأنصار الأخيار الذين علموا قيمة البيعة وعرفوها معرفة الخبير البصير.
 وقد تحدثت أم عمارة عن هذه البيعة الميمونة فقالت:"شهدت عقد النبي (ص)، والبيعة له ليلة العقبة، وبايعت تلك الليلة مع القوم" (2).
 ولكن كيف بايعت أم عمارة ليلتئذ؟! حسناً ها هي ذي أم عمارة تقول: "كانت الرجال تصفق على يدي رسول الله (ص)، والعباس عمه آخذ بيده، فلما بقيت أنا وأم منيع، نادى زوجي غزية بن عمرو: يا رسول الله، هاتان امرأتان حضرتا معنا يبايعنك. فقال (ص): "قد بايعتهما على ما بيعتكم عليه، إني لا أصافح النساء" (3).
 إن الحديث عن السيدة نسيبة ممتع آسر، إذ إنّ سيرتها تصقل نفوس النساء في كل جيل، وفي كل مكان وزمان، خصوصاً في هذا الزمان الذي كادت تخلو منه القدوة.
 فالسيدة أم عمارة كانت من الأوائل في كل مكرمة، فهي من السابقات إلى الإسلام وعز الطاعة، ومن الأمهات الفضليات والمربيات العظيمات، فهي أم لفارسين من أبطال المدرسة المحمدية، فابنها حبيب كان مثلاً كريماً في الصبر أمام إفك مسيلمة الكذاب واستشهد وهو ثابت محتسب؛ وأم عمارة من العابدات الذاكرات الناسكات ومن راويات الحديث النبوي الشريف. غير أن ميدان الجهاد هو المجال الذي تألقت هذه السيدة العظيمة، [...] ولذلك قالوا: "هي أول مقاتلة في الإسلام".
 قال الذهبي..: "أم عمارة الفاضلة المجاهدة، شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحُداً، والحديبية، ويوم حنين، ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل. وشهدت أحُداً مع زوجها غزية بن عمرو، ومع ولديها (4): حبيب (5)، وعبد الله (6)، خرجت تسقي ومعها قربة، وقاتلت، وأبلت بلاء حسناً، وجرحت اثني عشر جرحاً" (7).
 ولما تبدل وجه المعركة في أحد، تبدل موقف أم عمارة، فانتضت سيفاً، وتناولت ترساً، وأخذت تطاعن الخيل والفوارس طعناتٍ حيرت المشركين، وأذهلت فرسانهم عن حربهم.
 وفي تلك الساعة الحرجة تصف أم عمارة بلاءها وثباتها وثبات زوجها وابنيها بين يدي النبي (ص) فتقول : رأيتني، وانكشف الناس عن رسول الله (ص)، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة؛ وأنا وابناي وزوجي بين يديه ندب عنه، والناس يمرون به منهزمين، وآراني ولا ترس معي، فأرى رجلاً موالياً ومعه ترس، فقال: " ألق ترسك إلى من يقاتل". فألقاه، فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله (ص)، وأنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، ولو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله. ويقبل رجل على فرس، فيضربني، وترّست له، فلم يصنع شيئاً، وولى، فأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي (ص) يصيح: "يا بن أم عمارة، أمك! أمك"؛ فعاونني عليه، حتى أوردته شعوب" (8).
 وقد جرحت أم عمارة في كتفها، كما جرح ابنها عبد الله أيضاً غير أن الأمر هين ما دام رسول الله (ص) سالماً، فكل مصيبة بعده جلل، لهذا قدّر النبي (ص) هذه المجاهدة ودعا لها ولأهلها دعاء ميموناً.
 فعن عبد الله بن زيد ابن أم عمارة قال: "شهدت أحُداً مع رسول الله (ص)، فلما تفرق الناس عنه دنوت أنا وامي نذبّ عنه، فقال: "ابن أم عمارة"؟!
قلت: نعم.
قال: "ارم".
فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس حتى وقع هو صاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة، حتى نضدت عليه منها وقراً (9)، والنبي (ص) ينظر يبتسم، ونظر جرح أمي على عاتقها فقال: "أمك أمك، اعصب جرحها، رحمكم الله أهل البيت، ومقام ربيبك (10) خيرٌ من مقام فلان فلان، رحمكم الله أهل البيت" (11).
 وفي المعركة جرح أحد المشركين ابنها عبد الله بيده اليسرى، فرآه النبي (ص) فقال له: "اعصب جرحك"، فرأته أمه، فأسرعت وربطت جرحه، ثم قالت له: "يا بني، انهض فضارب القوم".
 وهنا قال لها النبي (ص): "ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة"؟ وأقبل المشرك الذي ضرب ابنها، فانقضت عليه وضربته ضربة برك منها، ثم أجهزت عليه مع ابنها حتى مات، فقال لها النبي (ص): "استقدت يا أم عمارة".
 وكانت علائم السرور ترتسم على وجه النبي (ص) وتصف أم عمارة سروره (ص) وابتسامته اللطيفة فتقول: "رأيت رسول الله (ص) يبتسم حتى رأيت نواجذه".
 وفي هذه اللحظات يقبل النبي (ص) على أم عمارة ثم يقول لها: "الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك" (12).
 [.....]
 وهناك شهادة نجاةٍ حظيت بها أم عمارة من رسول الله (ص) الذي ما ينطق عن الهوى، فقد دعا لها ولأهليها بالبركة والرحمة فقال: "بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله أهل البيت".
 واغتنمت أم عمارة هذه النفحة المحمدية، وتوجهت إلى رسول الله (ص) رجاء أن يدعو لها برفقته في الجنة فقالت: "يا رسول الله، ادع الله أن نرافقك في الجنة".
 فقال (ص): "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة" قالت أم عمارة: " ما أبالي ما أصابني من الدنيا" (13).
 وظلت غزوة أحد بجميع أحداثها مجال فخر واعتزاز للمجاهدة أم عمارة؛ فقد كانت حصيلتها من هذه الغزوة جراحات كثيرة، تزيد عن عشر منها جرح أجوف كبير على عاتقها، ضربها به ابن قميئة.
 وتذكر المصادر أن أم عمارة قد غشي عليها من شدة تلك الضربة ومن عظم الجراح، ولما أفاقت من ذلك، لم تذكر أحداً ولم تسأل عن أحد سوى رسول الله (ص) فقالت: "أين رسول الله، وما صنع المشركون معه"؟ فقالوا لها: " إنه بخير يا أم عمارة والحمد لله". وأثنى عليها رسول الله (ص) يوم أحد فقال: "لمقام نسبية بنت كعب  اليوم خير من مقام فلان وفلان" (14).
 ظلت أم عمارة تداوي جرحها سنة كاملة (15) بعد أحد، وكان النبي (ص) يتفقد أخبارها وأحوالها؛ فقد كان يرسل أخاها عبد الله بن كعب أحد البكائين (16) ليسأل عنها، حتى التأمت جراحها وشفيت (17).
 وظلت أم عمارة تتابع رحلة الجهاد فشهدت غزوة بني قريظة، وأعطى النبي (ص) النساء اللواتي شهدن هذه الغزوة من الغنيمة، ولم يسهم لهنّ.
 وشهدت أم عمارة بيعة الرضوان المباركة، وتروي جانباً من هذه البيعة فتقول: "مر بنا رسول الله (ص) يوماً في منزلنا، فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان قد قتل، فجلس في رحلنا ثم قال: "إن الله أمرني بالبيعة" فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا... فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح وهو معنا قليل؛ إنما خرجنا عمّاراً، فأنا أنظر إلى غزية بن عمرو -يعني زوجها- وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمود كنا نستظلّ به، فأخذته في يدي ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحد رجوت قتله، فكان رسول الله (ص) يومئذ يبايع الناس، [...]، فبايعهم على أن لا يفروا" (18).
 ولما حلق النبي (ص) رأسه، تسابق الصحابة الكرام يومها للتبرّك في الإحتفاظ بشعره الشريف، كانت أم عمارة -رضي الله عنها- ممن حظيت بشيء من الشعر النبوي، تقول أم عمارة -رضي الله عنها-: "وجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصّون فيه -يقتسمونه- وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقات من شعر" (19).
 وبعد ذلك شهدت أم عمارة غزوة خيبر، وأخذت من الغنائم خرزاً أحمر (20)، ثم شهدت عمرة القضية، وتروي أم عمارة خبر حضورها العمرة فتقول: "شهدت عمرة القضية مع رسول الله (ص)، وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي (ص) حين انتهى إلى البيت وهو على راحلته، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته، وقد صفّ له المسلمون حين دنى من الركن حتى انتهى إليه" (21).
 وفي يوم حنين أبدعت أم عمارة في الميدان، وكان لها صولة وجولة، حيث طعنت أحد المشركين عدة طعنات بخنجر كان معها، وضربت عنق مشرك آخر، وقد شاركها في هذه الغزوة المباركة ابناها حبيب وعبد الله، ولنترك زمام الحديث لأم عمارة رضي الله عنها فتقول: "لما كان يومئذ والناس منهزمون في كل وجه، وأنا وأربع نسوة، في يدي سيف لي صارم، وأم سليم (22) معها خنجر قد حزمته على وسطها، وأم سليط (23)، وأم حارث (24)، وأصيح بالأنصار: أي عادة هذه! ما لكم وللفرار؟ وأنظر إلى رجل من هوازن على جمل أورق، معه لواء، يضع جمله في المسلمين، فأعترض له، فأضرب عرقوب الجمل، وكان جملاً مشرفاً - عالياً، فوقع الجمل، ووقع الرجل وأشدّ على الرجل، فلم أزل أضربه حتى أثبتُّه (25) وأخذت سيفاً له، وتركت الجمل يخرخر، يتصفق (26) ظهراً لبطن، ورسول الله (ص) قائم مصلت السيف بيده، قد طرح غمده ينادي: "يا أصحاب سورة البقرة"، وكرّ المسلمون فجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبيد الله، يا خيل الله! وكان رسول الله (ص) قد سمى خليه خيل الله، وجعل شعار المهاجرين بني عبد الرحمن، وجعل شعار الأوس بني عبيد الله. فكرّت الأنصار، ووقفت هوازن مقدار حلب ناقة، ثم كانت الهزيمة، فوالله ما رأيت هزيمة كانت مثلها ذهبوا في كل وجه، ورجع ابناي إليّ بأسارى مكتفين، فأقوم إليهم من الغيظ، فأضرب عنق كل واحد منهم، وجعل الناس يأتون بالأسارى، فرأيت في بني مازن ابن النجار ثلاثين أسيراً، وكان المسلمون قد بلغ أقصى هزيمتهم مكة، ثم كروا بعد وتراجعوا، فأسهم لهم النبي (ص) جميعاً" (27).
 وفي عهد الراشدي حضرت أم عمارة رضي الله عنها معركة اليمامة وقاتلت يومئذٍ قتالاً شديداً وقطعت يدها، لكنها سرت بمقتل عدو الله وعدو رسوله مسيلمة الكذاب الذي طغى وادعى النبوة.
 ولا بأس في أن نستمع إلى أم عمارة تذكر جانباً من جوانب قتالها في معركة اليمامة عندما خرجت مع خالد بن الوليد لقتال المرتدين فتقول: "لما انتهينا إلى الحديقة (28) بعد قتال شديد وجهد عظيم، واقتحمنا الحديقة فضربناهم ساعة، وجعلت أقصد عدو الله مسيلمة لأن أراه، فشددت عليه، وعرض لي رجل منهم فقطع يدي، فو الله ما عرجت عليها حتى انتهيت إلى الخبيث وهو صريع، وأجد ابني عبد الله قد قتله، ويمسح سيفه بثيابه.
فقلت: أقتلته؟
قال: نعم يا أماه.
فسجدت لله شكراً، وقطع دابر الكافرين، [...].
 وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: "جرحت أم عمارة يومئذ أحد عشر جرحاً بين ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وقطعت يدها" (29).
 عادت المجاهدة المبايعة إلى المدينة المنورة وقد سبقها عضو منها إلى الجنة بإذن الله، عادت وهي تنعم بالإيمان الذي وقر في صدرها؛ واستقر في أعماقها؛ وبايعت عليه ربها.
 [....]
 وما أجمل ما وصفها به أبو نعيم الأصفهاني في "الحلية" في مفتتح ترجمته لها حيث قال: "أم عمارة المبايعة بالعقبة، المحاربة عن الرجال والشيبة، كانت ذات جد واجتهاد، وصوم ونسك واعتماد" (30).
 نعم فهذه المبايعة على الإسلام، لها مواقف آسرة في المغازي النبوية، وقد أفضت في الحديث عن قتالها المشركين بعض الإفاضة، لكي يعلم الجمع أن المرأة المبايعة لم تدق للرجل المبايع فضيلة يستأثرها وحده. وما كان شيء من ذلك لجفوة في خُلقها، ولا نَبوة في طبعها.
 وما كانت شجاعة أم عمارة أثراً من الغلظة، وحباً في خوض المعارك، ولكنها قوة فاضت بها وفرة الصبر، وصقلتها قوة اليقين، وإذا كانت المرأة المسلمة أثبت من الرجل إيماناً، وأصبر منه على ريب الزمان - أحياناً- ، فما لها لا تكون في ساعة المحنة أكثر بسالة وأشد بأساً؟ وأصبر على اللأواء؟ وأشجع الناس عند البلاء؟
 لقد جمعت السيدة أم عمارة كل هاتيك المكارم في جميع المواقف، وكانت ملأى اليدين، فايضة النفس، تعمل على مرضاة الله، ورسوله في كل أمورها.
 هذه شذرات جميلة ووقفات طيبة عن أم عمارة الصحابية المبايعة الكريمة، والحديث عنها لا تملّ منه النفوس.
 ولكننا سنعيش في السطور التالية مع صاحبتها أم منيع الأنصارية لنعرف شيئاً من أخبارها نضيفه إلى رصيدنا من سير الصحابيات نتحف به مجالسنا ونمتع به مجالسنا.
        ثانياً: أم منيع الأنصارية رضي الله عنها:
 كانت ثانية اثنتين في بيعة العقبة الكبرى، يوم أن بايع الأنصار رسول الله (ص) على حرب الأحمر والأسود وعلى النصرة.
 لم تكن هذه المرأة من مشاهير النساء لولا تلك البيعة المباركة، التي جعلت التاريخ يحفل بها، ويسجل أسماء المبايعين بأحرف من نور.
 هذه المرأة هي أسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع الأنصارية، التي ضربت مثلاً رفيعاً بين نساء المسلمين في تحمل آلام الحمل يوم أن عزمت على البيعة في العقبة.
 ذكر البلاذري أن أم منيع  رضي الله عنها قد خرجت في موسم الحج بصحبة زوجها نحو مكة، وكانت أيامها حاملاً بابنها شباب بن خديج، ولكنّ حبها للبيعة النبوية كان أكبر من آلام حملها التي تعانيها، ولما كانت ليلة العقبة ولدت ابنها شباب (31) بن خديج، فانتظم في عداد الصحابة.
 وفي العقبة تمت بيعة السيدة أم منيع رضي الله عنها للنبي (ص)، وبايعهما على ما بايع عليه الرجال وكان يقول للنساء إذا أخذ عليهن العهد: "قد بايعتكن" (32) كلاماً فقط.
 ورجعت أم منيع إلى المدينة المنورة مع زوجها الصحابي خديج بن سلامة (33). وقد سجلتها أحداث السيرة النبوية بين أوائل النساء في البيعة المباركة.
 وفّت أم منيع بيعتها وتابعت رحلة الوفاء والعطاء مع النبي (ص)، فقد ذكر الوقادي في "المغازي" بأن النبي (ص) لما خرج إلى الحديبية (34) كانت معه (35) في عدد من نساء الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
 وفي غزوة خيبر (36) خرج مع النبي (ص) عشرون امرأة من نساء الصحابة، وكانت أم منيع رضي الله عنها في صفوف المجاهدين والمجاهدات، فقد ذكر الرواة أن عدداً من نساء الصحابة كنّ في هذه الغزوة منهن: السيدة صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي (ص)، وأم سليم بنت ملحان، وأم عطية الأنصارية، وأخريات، وقد أعطاهن النبي (ص) من غنائم خيبر؛ وقد أخذت أم منيع الأنصارية - رضي الله عنها - من تلك الغنائم (37).
 وتظل السيدة أم منيع من نساء الصحابة اللواتي تابعن حياة العطاء والجهاد في ظلال المرحلة النبوية المباركة في المدينة المنورة، وتابعن رحلة الوفاء للبيعة (38).
 ويسكت التاريخ النسوي الذي نقل إلينا أخبار أم منيع - رضي الله عنها - فلا يخبرنا بأعمالها بعد غزوة خيبر بمعية النبي (ص). غير أنها قد ظلت وفية صادقة في بيعتها إلى أن لقيت ربها وهي تشهد شهادة الإيمان.


1. انظر: السيرة النبوية بشرح أبي ذر الخشني (2/95) بتصرف.
2. طبقات ابن سعد (8/412).
3. الإصابة (3/258) بتصرف يسير جداً.
4. "ولديها" : أي ولديها من زوجها الأول زيد بن عاصم بن عمرو، وهما: عبد الله وحبيب. أما ولدها من زوجها غزية بن عمرو فهما: تميم وخولة. (طبقات ابن سعد 8/412).
5. حبيب بن زيد بن عاصم ابن أم عمارة، كان في إيمانه مثلاً كريماً، أرسله النبي (ص) إلى مسيلمة الكذاب لعنه الله، فأخذه مسيلمة ليقتله، وعرضه لامتحان إيمانه وصدق يقينه، فكان إذا سأله: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال حبيب: نعم. وإذا قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال حبيب بن زيد: أنا أصم لا أسمع. وكرر ذلم مسيلمة مع حبيب، وهو ثابت اليقين راسخ الإيمان، فلما يئس منه مسيلمة قتله قتلة شنيعة، حيث قطعه عضواً عضواً وحبيب ثابت قرير العين رضيَ القلب هانئ النفس وهو راضٍ بهذا الاستشهاد في سبيل الله الذي انفرد به.ورثاه مالك بن عمرو الثقفي بقصيدة جميلة منها قوله:       وقال له الكذاب تشهد أنني     رسولٌ فنادى إنني لست أسمع          (الإصابة 3/329).
6. عبد الله بن زيد ابن أم عمارة، هو الذي حكى وضوء الرسول (ص)، شهد غزوة أحد، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب بسيفه. وقتل عبد الله بن زيد يوم الحرة.
7. سير أعلام النبلاء (2/278) بتصرف يسير جداً.
8. انظر: طبقات ابن سعد (8/414)، ومعنى "شعوب": من أسماء المنية، وتريد السيدة أم عمارة أنها قتلته وأذاقته الموت. ومن الجدير بالذكر أن لكل فارس من فرسان المدرسة المحمدية موقف كريم عرف به، وأثر عنه، وكان مهبط الشرف في حياته، ومعقد الفخر من سيرته، وليس هناك موقف أجمل للنفس والقلب والعين ، وآثر في التاريخ النسوي البطولي من موقف السيدة الفاضلة نسيبة بنت كعب التي بايعت على الجهاد في هذه المواقف.
9. "وقراً": حملاً كبيراً.
10. "ربيبك": يعني زوج أمه غزية بن عمرو.
11. طبقات ابن سعد (8/414 و415).
12. انظر: طبقات ابن سعد (8/414)، وأعلام النساء (5/173) مع الحمع       والتصرف. وروى عمارة بن غزية - ابنها - أن أمة قد قتلت يوم أحد فارساً من       فرسان المشركين. (الإصابة 4/457).
    13. انظر: طبقات ابن سعد (8/415)، والسيرة النبوية لأحمد زيني دحلان      (2/48) مع الجمع والتصرف.
14. سير أعلام النبلاء(2/278 و279).
15. سير أعلام النبلاء(2/279) ونادى منادي رسول الله إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها، ما استطاعت من نزف الدم رضي الله عنها. طبقات ابن سعد (8/413).
16. "من البكاؤون؟": البكاؤون هم سبعة من الصحابة الكرام وأسماؤهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وعبد الرحمن بن كعب أبو ليلى، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن المغفل المزني، وهرمي بن عبد الله، وعرباض بن سارية رضي الله عنهم، جاؤوا إلى النبي (ص) في غزوة تبوك، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من الإبل أو غيرها ليجاهدوا في سبيل الله، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، فسمّوا البكائين، وفيهم نزل قول الله تعالى: [ولا على الذين إذا ما آتوك لتحملهم قلت لا أجد ما مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون] (التوبة: 92) ألم يكن عليهم إثم لو لم يخرجوا معك لعدم وجود القدرة على الخروج لديهم. (تفسير الخازن 3/136)، والدرر (ص 287).
وقال ابن الجوزي في "زاد المسير"ما مفاده:" البكاؤون: اختلف في عددهم وفي أسمائهم، فروي عن ابن عباس أنهم ستة هم: عبد الله بن مغفل، وصخر بن سليمان، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة. وقد ذكر محمد بن سعد مكان ضخر بن سليمان: سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن غنمة: عمرو بن غنمة. وقيل: منهم: معقل بن يسار.
وروى أبو إسحاق عن أشياخ له أن البكائين سبعة من الأنصار: سالم بن عمير، وعلية بن زيد، وأبو ليلى عبد الالرحمن بن كعب، وعمرو بن الحمام بن الجموح، وعبد الله بن مغفل، وبعض الناس يقول: بل عبد الله بن عمرو المزني، وعرباض بن سارية، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن، وهم سبعة، وقد ذكرهم محمد بن سعد فقال: النعمان بن عمرو بن مقرن، وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرن، وسنان بن مقرن، وعقيل بن مقرن، وعبد الرحمن بن مقرن. وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه.
وفي الذين طلبوا من رسول الله (ص) أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال: أحدها: إنه الدواب، قاله ابن عباس. والثاني: الزاد، قاله أنس بن مالك. والثالث: النعال، قاله الحسن" (زاد المسير في علم التفسير ص 600 و601) طبعة المكتب الإسلامي ودار لبن حزم.
17. طبقات ابن سعد (8/413).
18. انظر: المغازي للواقدي (2/522).
19. المغازي (2/615).
20. المغازي (2/688).
21. المغازي (2/688).
22. أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية النجارية، أم خادم النبي (ص)، من أفاضل نساء الصحابة، شهدت غزوة أحد وحنين مع النبي (ص)، وتلقب بالرميصاء أو الغيصماء، لها قصة إسلام مشهورة عندما أراد أبو طلحة الأنصاري أن يتزوجها، فعرضت عليه الإسلام، فاستجاب، وكان مهرها الإسلام. ولها أخبار كثيرة في كتب السيرة النبوية والتراجم والطبقات، وروت عن النبي (ص) أربعة عشر حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على حديث، وانفرد البخاري بحديث، مسلم بحديثين، وأخبارها كثيرة رضي الله عنها. (سير أعلام النبلاء 2/304-311)، و(المجتبى لابن الجوزي ص 104 و105).
23. أم سليط: امرأة من المبايعات، حضرت مع رسول الله (ص) يوم أحد. قال عمر بن الخطاب..: "كانت تزفر لها القرب يوم أحد" ومعنى تزفر: تحمل. وهذا الحديث أخرجه البخاري برقم (2881 و4071). (الاستيعاب ترجمة رقم 3531).
24. أم الحارث الأنصارية: شهدت حنيناً مع رسول الله (ص)، ولم تنهزم يومئذ فيمن انهزم. روى عنها عمارة بن غزية، وهي جدته. (الاستيعاب ترجمة رقم 3509).
25. "أثبته": أي تركته جرحاً لا يقدر على القيام.
26. "يتصفق": ينقلب.
27. المغازي: (3/902 و903) بشيء من التصرف.
28. مكان كان يتحصن به مسيلمة واسمه: حديقة الموت.
29. الروضة الفيحاء في تواريخ النساء لياسين العمري (ص230).
30.حلية الأولياء (2/64)، ومن الجدير بالذكر أن أم عمارة توفيت سنة (13 ه) رضي الله عنها وجعلنا من رفقائها في الجنة.
31. "شباب" أو شُباث بن خديج بن سلامة الأنصاري، ولد ليلة العقبة، وكان أبوه أحد السبعين، وأمه أم منيع بنت عمرو بن عدي الأنصارية. (الاستيعاب ترجمة رقم 1194).
32. صحيح مسلم (6/29).
33. "خديج بن سلامة بن أوس البلوي"، حليف لبني حرام من الأنصار، شهد العقبة الثانية، ولم يشهد بدراً ولا أحداً، وشهد ما بعد ذلك، قال الطبري وقال: يكنى أبا راشيد. (الاستيعاب ترجمة رقم 692).
34. "الحُدَيبية": بضم الحاء، وفتح الدال، وتخفيف الياء، كذا قاله الشافعي - رحمه الله - وأهل اللغة وبعض أهل الحديث. وهي قرية ليست بالكبيرة سمّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة، وهي على نحو مرحلة من مكة، وكان الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة - وهي شجرة سمرة - بيعة الرضوان ألفاً وأربع مئة، وقال لهم النبي (ص) يومها "أنتم خير أهل الأرض" (تهذيب الأسماء واللغات 3/77) باختصار.
35. انظرك المغازي للواقدي (2/574).
36. "خيبر": بلدةٌ معروفة على نحو أربع مراحل من المدينة المنورة إلى جهة الشام ذات نخيل ومزارع، فتحها الرسول (ص) في أوائل سنة سبع من الهجرة، أقام رسول الله (ص) على حصارهم بضع عشرة ليلة. (تهذيب الأسماء واللغات 3/97).
ومن الجدير بالذكر أن بلدة خيبر كانت وقتذاك كالمستعمرة اليهودية، وهي تتضمن قلاعاً كثيرة وحصينة، وقاعدة حربية لليهود الذين كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، فأراح الله المسلمين منهم ومن شرورهم وآثامهم وغدرهم.
37. انظر: طبقات ابن سعد (8/408)، والسيرة الحلبية (2/770) مع الجمع والتصرف.
38. نستطيع أن نستخلص من سيرة السيدة أم منيع رضي الله عنها أنها امرأة متميزة حصيفة عاقلة حكيمة، عاشت لمجتمعها الأسري الأصغر، ولمجتمع قومها الأكبر في آن واحد، ووقفت إلى جانب زوجها تجاذبه شرف البيعة، وجد العمل، وشؤون الحياة، فكتبت مع الخالدات.
المصدر: بيعة النساء في القرآن والسيرة، د. أحمد خليل جمعة، دار اليمامة، ط1، 2005 م - 1426 ه، دمشق - بيروت (بتصرف).
      

التعليقات (0)

اترك تعليق