مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

فلسفة العلاقة الزوجية

فلسفة العلاقة الزوجية: العلاقة الزوجية من المنظور الإسلامي لها أهمية وقدسية كبيرة


الزواج في اللغة: هو الإقتران والازدواج، فيقال زوج بالشيء وزوجه إليه، أي قرنه به، والمزاوجة والاقتران بمعنى واحد.
والزواج اصطلاحاً: هو العلاقة التي تجمع فيها رجل (يدعى زوج) بامرأة (تدعى زوجة) من أجل بناء أسرة. الزواج علاقة متعارف عليها ولها أساس في الدين والقانون والمجتمع. وهي الإطار المشروع للعلاقة الجنسية وإنجاب الأطفال للحفاظ على الجنس البشري. ويمتد تاريخ الزواج إلى عهد آدم وحواء حيث شكلا أول لبنة زواج شرعي في تاريخ البشرية.
الزواج سنة من سنن الله في هذا الكون. فالله وحده هو الواحد الأحد.. وجميع مخلوقاته تحتاج إلى زوج ليكون هناك إنتاج واستمرارية لهذا المخلوق، فلا شيء يستطيع أن يؤدي مهمته وحده، بل خلقه الله محتاجاً إلى الإتصال والإتحاد بغيره من نفس نوعه ولكن من جنس آخر ليقترن به ويحدث الإنتاج والإستمرارية.
قال تعالى: «ومن كلِّ شيءٍ خلقْنَا زوجينِ لعلَّكُم تذكَّرُونَ» (سورة الذاريات، آية (49))، أي ومن كل شيء خلقنا صنفين ونوعين مختلفين ذكراً وأنثى. «ومن كلِّ شيءٍ خلقْنَا زوجينِ لعلَّكُم تذكَّرُونَ»، أي تتذكروا عظمة الله فتؤمنوا وتعلموا أن خالق الأزواج هو واحد أحد (تفسير الصابوني).
فلا بدّ أن يتصل الموجب مع السالب في عالم الكهرباء، لينتج التيار وآثاره من الضوء والحرارة والحركة وغيرها.. وفي عالم الذرة يتصل الألكترون بالبريتون.. وفي عالم النبات تتصل حبوب التذكير بحبوب التأنيث لينتج الزرع والشجر ويخرج الحب والثمر.. وفي عالم الحيوان يتصل الذكر بالأنثى ليحدث التناسل.. وعند الإنسان يتزوج الرجل بالمرأة ويجعل الله بينهما المودة والرحمة، ومن توحدهما تنتج الذرية..
إن العلاقة الزوجية هي أقوى وأصعب وأغرب علاقة، فبقدر ما يمكن أن تكون حميمية ويغلب عليها المودة والرحمة بقدر ما يمكن أن يصبح فيها كل من الزوجين عدواً للآخر، وتحدث المشاحنات والمعارك بينهما. إنها علاقة فيها الكثير من التداخل والتصادم بين رغبات وأحاسيس ومشاكل وتاريخ كل من الزوجين، وكأن كل واحد منهما يعبر في علاقته بالآخر عن صراعه مع وجوده وقلقه داخل هذا الكون.
لذلك أرى أن موضوع الحياة الزوجية من أكثر الموضوعات أهمية، موضوع يحتاج إلى تأمل وتحليل لفهم طبيعته وأبعاده، إنها لعبة الحياة.. ولنفهم هذه اللعبة ونفهم قوانينها والأسس التي يجب أن تقوم عليها لتكون ناجحة ومرضية للطرفين، الرجل والمرأة أولاً، وثانياً بناءة للأبناء وللأسرة ككل، سأوضح فلسفة العلاقة الزوجية من المنظور الإسلامي ومن منظور التحليل النفسي الاجتماعي.

1- العلاقة الزوجية من المنظور الإسلامي:
 العلاقة الزوجية من المنظور الإسلامي لها أهمية وقدسية كبيرة. وقد شرّعها الله ووضع لها القوانين للمحافظة على وجود الإنسان في الكون، ولسعادة هذا الإنسان في الدنيا وفلاحه في الآخرة.
فالزواج هو شرعة كونية وكل شيء في الكون قائم على الإزدواج، لذلك منذ خلق الله الإنسان الأول (آدم) وأسكنه جنته، لم يدعه وحده فيها بل خلق له من نوعه زوجاً آخر.
قال تعالى: «وقلنَا يا آدمُ اسكُنْ أنتَ وزوجُكَ الجنّةَ» (سورة البقرة، آية (35)).
فالزواج يتآلف مع السنة الكونية، ومن ناحية أخرى هو السبب الوحيد لبقاء هذا النوع.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان (من رجال ونساء) ليعمر الأرض ويكون خليفته عليها. قال تعالى: «وإذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خَليفةً...» سورة البقرة، آية (30). ولا يكون ذلك إلا عن طريق زواج المرأة بالرجل ليحدث التناسل وتعمر الأرض.
فمن أهداف الزواج في الإسلام إيجاد الأسرة والتي هي الخلية الأولى لقيام المجتمع، وأيضاً من أجل توسيع الرابطة وتوثيقها بين الناس بعضهم بعضاً. فالزواج هو ليس علاقة شخص بشخص فقط بل هو علاقة أسرة بأسرة، أسرة الزوج وأسرة الزوجة. الزواج رباط اجتماعي، حيث هناك رابطتان طبيعيتان: رابطة النسب أي رابط الدم (أخ، أخت، عم، ابن عم، خال..) ورابطة المصاهرة وتأتي عن طريق الزواج، أقارب الزوجة يصبحون أصهاراً للزوج، فأبوها جد أولاده وأمها جدتهم وأختها خالتهم وأخوها خالهم وأولادهم سيكونون ذوي قربى وذوي رحم. وكذلك بالنسبة لأقارب الزوج يصبحون أصهاراً للزوجة.. إنه رباط شرعي ومقصود. وهكذا تتسع دائرة المودة والترابط وتتوثق وتتسع الرابطة بين الناس بعضهم ببعض.
لذلك حث الإسلام على الزواج ورغّب فيه، يقول النبي (ص):"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عريض".
لقد شرع الله سبحانه وتعالى الزواج ليكون كل من الزوجين سكناً للآخر، وجعل بينهما مودة ورحمة. ووضع القوانين والأسس التي يجب أن تقوم عليها تلك العلاقة للحفاظ على المودة والحقوق، ولتؤدي تلك العلاقة الأهداف التي وضعت من أجلها، وهي عمارة الأرض بالتناسل، وإيجاد الأسرة التي هي خلية المجتمع، وتوسيع دائرة الروابط والمودة بين الناس.
ومن أجل توضيح العلاقة الزوجية من المنظور الإسلامي، سأعرض لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة مع تفسيراتها:
يقول الله سبحانه وتعالى: «يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا ربَّكُمُ الذي خلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجَها وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساءً واتَّقوا اللهَ الذي تساءَلُون به والأرحامَ إنَّ اللهَ كانَ عليكُم رقيباً» (سورة النساء، الآية رقم (1)).
تفسيرها: وحدة الإنسانية هي "النفس". أصل واحد وأسرة واحدة، ووحدة المجتمع هي الأسرة.
خطاب موجه للناس لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة، خلق منها زوجها. إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق عميقة وكبيرة وثقيلة.
ولو ألقى الناس أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغيرات كبيرة في حياتهم. هذه الحقيقة لو أدركها الناس لكانت كفيلة باستبعاد الصراع العنصري، والصراع بين الجنسين، فلا فرق بين الرجل والمرأة فهما نفس واحدة.
لا فارق في الأصل والفطرة وإنما الفارق في الإستعداد والوظيفة. إنهما ليسا فردين متماثلين إنما زوجان متكاملان. ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالاً كثيراً ونساء، التي تقوم عليها نظام المجتمع الإنساني، بعد قيامه على أساس العقيدة. تفسير "السيد قطب".
يقول الله تعالى: «ومِنْ آياتِه أنْ خلقَ لكُم منْ أنفسِكُم أزواجاً لتسكُنُوا إليهَا وجعلَ بينَكُم مودةً ورحمةً إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرُونَ» (سورة الروم، آية (21)).
أي من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لكم من صنفكم وجنسكم نساء آدميات مثلكم. ولم يجعلهن من صنف آخر. وذلك من تمام رحمته ببني آدم. «لتسكنوا إليها» أي لتميلوا إليهن وتألفوهن. «... وجعلَ بينكُم مودةً ورحمةً...» أي جعل بين الأزواج والزوجات محبة وشفقة. قال ابن عباس: المودة: حب الرجل امرأته. الرحمة: شفقته عليها أن يصيبها بسوء. «إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرونَ». أي فيما ذكر لعبراً عظيمة لقوم يتفكرون في قدرة الله وعظمته فيدركون حكمته العلية. (تفسير الصابوني).
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين، وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والإتجاهات بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجاً وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر. وجعلت في تلك الصلة سكناً للنفس. وراحة للقلب والجسم والإستقرار للحياة والمعيشة وأنساً للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء. يلبي كل جنس للآخر حاجاته الفطرية والعقلية والجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار. ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي ملحوظ في تلبية رغائب كل منهما للآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد. (تفسير السيد قطب).
يقول الله سبحانه وتعالى: «هنَّ لباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لهنَّ» (سورة البقرة (آية 187)).
قال ابن عباس: يعني هنذ سكن لكم وأنتم سكن لهن. وقال الربيع: هن لحاف لكم وانتم لحاف لهن. وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهم يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه. (تفسير الصابوني).
«هن لباس لكم وأنتم لباس لهن». وفي هذه العبارة معاني الستر والوقاية والزينة والدفء يحققها كل منهما لصاحبه.
قال الله تعالى: «وكيفَ تأخذونَهُ وقد أفضَى بعضُكُم إلى بعضٍ وأخذنَ منكُم ميثاقاً غليظاً» (سورة النساء (آية 21)).
أي كيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها  وأفضت إليك. قال ابن عباس: يعني بذلك الجماع. «وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً». المراد بذلك العقد، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. (تفسير الصابوني).
ميثاق غليظ، هو رباط وثيق تم بعد تعب وبحث وتعرف وخطبة ومهر وزفاف وإعلان. ليس من اليسير على شريعة حكيمة أن تتهاون في نقضه وحل عقدته وفصم عراه. فالطلاق أبغض الحلال عند الله.
إضافة إلى الكثير من الآيات القرآنية التي أوضحت مفهوم الزواج وأهميته وقوانينه، هناك أيضاً الكثير من الأحاديث الشريفة التي سارت في نفس سياق الآيات القرآنية وزادتها وضوحاً. على سبيل المثال:
يقول الرسول (ص): "يا معاشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج".
يحثّ هنا الرسول (ص) الشباب على الزواج، عندما تصبح لديهم القدرة المادية والمعنوية على ذلك. فبالزواج يكتمل النضج ويصلح الشخص، لأن كلاً من الزوجين سكن للآخر يدعمه ويحميه..
ويقول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: "تناكحوا تناسلوا".
أي إضافة إلى تشجيع الشباب على الزواج من أجل الحماية والدعم والستر والصون، أيضاً الهدف من الزواج عمارة الأرض لذلك شجع الرسول عليه السلام على الإنجاب..
يتضح من الآيات والأحاديث الشريفة السابقة كيف أن الله خلق الرجل والمرأة من نفس واحدة. فالمرأة والرجل من صنف واحد إلا أنهما من جنسين مختلفين، وبالزواج يصبح كل منهما سكناً للآخر ودفئاً وستراً له ليشعر أيضاً كل منهما بالأمان والسكينة من أجل عمارة الأرض على أسس من التكافل والترابط بين الناس، وفي نفس الوقت التفكير في قدرة الله وعظمته. فالأصل في العلاقة هي المودة والرحمة، وبين الله القوانين والأسس التي إن اتبعها الزوجان لانتفت عن علاقتهما المشاحنات والصراعات.

2- العلاقة الزوجية من منظور التحليل النفسي:
لو أردت أن أحلل العلاقة الزوجية من منظور نفسي اجتماعي، سأجد نفسي أعود للوراء وللأصل وللبداية، سواء على مستوى الدورة الطبيعية الحياتية للرجل والمرأة باعتبار كل منهما جزء من الكون وبالتالي هما يخضعان للقوانين الروحية الكونية. أو على مستوى تاريخ الشخص (رجل وامرأة) خبراته في الطفولة مع والديه ومشاكله ونقاط ضعفه ومن ثم توقعاته وطريقة تفكيره. أو على مستوى تاريخ المجتمع الإنساني لنفهم كيف صار تحديد أدوار كل من الزوجين داخل العلاقة.
وسأعمل على توضيح ذلك في ما يلي:
رغم أن الإنسان كائن منفرد ومستقل ومنفصل، فهو يعيش لوحده ويموت لوحده وأفكاره التي تدور في رأسه ملكه لوحده.. إلا أن وجوده مرهون بوجود الآخر، فأنا غير موجود إن لم يكن هناك آخر يعترف بوجودي وتربطني به علاقة مودة وتعلق.
ومن هنا المعادلة الصعبة، كيف يتحقق التوازن بيني وبين نفسي، فمن جهة أنا شخص منفرد ووحيد، ومن جهة أخرى إن لم يكن هناك آخر فأنا غير موجود. فشخصيتي تتكون نتيجة لتعلقي بأشخاص تربطني بهم علاقة حميمية، أولهم الأم والأب ثم الإخوة والزوج.. فأنا شخص منفصل ومتصل موجود وغير موجود.
التوازن هو الحكمة، إنها عملية مستمرة من أجل التوصل إلى السكينة والأمان. فالسكينة والأمان هما الهدف الذي يسعى إليه الإنسان ليتخلص من خوفه وقلقه نظراً لوجوده المنفرد في هذا الوجود. لهذا فالإنسان لديه شعور داخلي دفين بالخوف من الرفض والنبذ، أي أن يرفضه الآخر.
أحد أهم القوانين الكونية أو النظام الإلهي قانون القطبية، أي تعرف الأشياء بأضدادها. لذلك الشعور بالسكينة هي لحظات ليست مستمرة، بل تتأرجح ما بين صعود وهبوط وما بين قرب وبعد. وتتجسد تلك الإزدواجية في علاقة الرجل بالمرأة، وهي دورة طبيعية وجزء من التكوين النفسي للرجل والمرأة.
والقوانين الكونية هي قوانين النجاح الروحي وهي التي تخلصنا كأفراد وكإنسانية من أزمة الوجود.. أزمة الخوف من الرفض والنبذ. إنها قوانين صادقة وتساير نغمات الكون وذبذباته ونظامه. من بين تلك القوانين: الحب، اليقين، السبب والمسبب، القوة، التفكير، الذبذبة، القطبية.. والقوانين تجيب عن الأسئلة التالية: كيف تسير الأمور؟ وماذا أفعل لتصبح حياتي نجاحاً بالمعنى الأخلاقي وتقودني للإنجاز؟ وماذا أفعل كي لا يؤذي نجاحي الآخر؟ وماذا يجب عليّ فعله لكي يسهم سلوكي في زيادة تطور الإنسانية وليس في فنائها؟ وماذا يجب على الزوجين فعله لتكون علاقتهما منسجمة مع قوانين الروح ومحققة الهدف منها، المودة والرحمة؟ لذلك الوعي بقوانين النجاح الروحي وتطبيقها يؤدي إلى سلوك أخلاقي يراعي كرامة الآخر. (كما بين ذلك المؤلف "فيليكس إيشباخر" في كتابه "الفراسة وقوة الحدس").
إن الوعي والإنسجام مع تلك القوانين يمكّن الشخص والآخر من العيش برضا وسعادة، بينما النجاحات التي تتحقق بواسطة طاقة سلبية مدمرة، مثل: ( الأنانية والحسد وحب السيطرة واللامبالاة..) ترتد على صاحبها وسوف تضيع عاجلاً أم آجلاً لأن كل ما أقوم به يرتد عليّ ثانية باعتباري المسبب.
من بين أهم تلك القوانين "قانون القطبية" ينص هذا القانون: على أن كل ما نراه له قطبان، فليس هناك من شيء إلا وله قطب مضاد. والقطبية تسبب التوتر، والتوتر تصدر عنه الحركة، وما الحركة في الكون سوى حركة توترية بين قطبين: ليل- نهار، حار- بارد، نجاح- فشل، حزن- فرح، أمل- يأس... ومن لا يعرف الألم والحزن لن يعرف الحب. فالأشياء تعرف بضدها.
وتتجسد تلك الإزدواجية في علاقة الرجل بالمرأة، فلكل منهما دورة طبيعية ما بين قرب وبعد بالنسبة للرجل، وما بين صعود وهبوط بالنسبة للمرأة. ومن لم يراع هذه الدورات في علاقته بالآخر لن يجني سوى القليل. إدراك هذا القانون في العلاقة وتطبيقه يساعد على وضع الشيء المناسب في الوقت المناسب، ويساعد على فهم كل منهما للآخر. ومن لم يراع هذه الدورة، مثلاً: يقترب للآخر في الوقت غير المناسب في الوقت الذي يجب أن يبتعد عنه، فسوف يكون تصرفه ضد الدورة الطبيعية للآخر ويبدد الكثير من الطاقة، بسبب الشجار والجدل، داخل العلاقة. بينما مراعاة تلك الدورة وفهمها يساعد على ضمان النجاح الشخصي والإجتماعي.
يبدأ انجذاب الرجل للمرأة مع مرحلة البلوغ، وكل منهما يحتاج إلى الآخر جسمياً ونفسياً وروحياً واجتماعياً بحثاً عن السكينة والأمان. ثم بعد سنوات ومع القدرة على الزواج يبحث كل من الجنسين عن شريكه، ليكون هذا الزواج وتبدأ لعبة الحياة الزوجية..
عندما يحب رجل امرأة، أو تحب امرأة رجلاً.. يتوقع كل منهما بعفوية أن إيقاع الحب والرضا سيدوم كل لحظة يومياً.. إيقاع الحياة فيه تناقضات: نهار - ليل، صيف - شتاء، يأس - أمل، حزن - فرح..
كما سبقت وبينت، وكذلك الرجال والنساء لديهم إيقاعاتهم ودوراتهم الخاصة في قدرتهم على حب أنفسهم وحب الآخرين. فالرجال يقتربون ثم يبتعدون بينما النساء يصعدن ثم يهبطن. (كما وضح ذلك "جون جراي" خبير العلاقات عموماً والزوجية خصوصاً في كتابه "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة").
الرجل يبتعد ويدخل إلى "كهفه" عندما يكون متضايقاً أو منزعجاً ويعاني من ضغوط، وبعد أن يقترب من زوجته ويقضي معها فترة حميمية يحتاج أيضاً إلى أن ينسحب لأنه يخشى أن تفقده المودة الزائدة ذاته.
فالرجل يتقلب ما بين حاجته للحب وحاجته للإستقلال والإبتعاد. وعندما يبدأ بالإنسحاب تلقائياً تشعر المرأة بالخوف، الخوف من رفضه وتتخيل الأسوأ - إنه لا يحبني إنه سيتخلى عني - ويتفجر خوفها الدفين، الخوف من الرفض والنبذ.
في هذه الفترة إن حاولت المرأة - بسبب خوفها واعتقادها أنها ارتكبت خطأً في حقه - الجري خلف الرجل بمساعدته أو استهجان تصرفه أو القلق عليه أو سؤاله عن مشاعره، انزعج واضطرب وكان لتصرفها تأثيراً عكسياً على علاقتهما، لأنه يرغب في أن يكون بمفرده. استياؤها أو انزعاجها منه يحرك لديه الخوف من الرفض والفشل، إنه يحتاج إلى أن يكون مقبولاً لديها في جميع حالاته.
قد تكون الدورة الطبيعية للرجل (قرب أو بعد) معاقة منذ طفولته، ربما يخاف من الإنسحاب لإنه رأى استياء أمه نظراً لابتعاد أبيه العاطفي. أو يخاف من الإنسحاب نظراً لشعوره بأنه غير جدير بالحب، وانسحابه يسبب له الشعور بالذنب، وهذا بحد ذاته يسبب مشاكل للرجل ويفقد رغبته وطاقته وعطفه ويصبح سلبياً في العلاقة.
المرأة تصعد وتهبط. في صعودها يزداد تقديرها لذاتها ويزداد شعورها بالرضا والقدرة على الحب والعطاء. وعندما تنخفض تشعر بفراغ داخلي ويتقلب مزاجها وتبدو مستاءة ومنزعجة، وهنا تحتاج إلى تفهم الزوج ودعمه، وتحتاج بصورة خاصة إلى أن تتكلم عن مشكلاتها وأن تُسمع وتُفهم، وتكون عادةً مشحونة بأمور متعلقة بعلاقاتها ومشاكلها التي لم تحل في الطفولة.
عندما تصعد المرأة تصبح إيجابية، ويعتقد الرجل واهماً أنه بسبب دعمه لها صعدت، لكنها ستعود بعد فترة للهبوط وينزعج الرجل .. ومعظم الخلافات الزوجية تحصل بسبب عدم فهم كل من الزوجين لدورة الآخر الطبيعية، والتي هي خاضعة للقوانين الكونية الروحية.
أما بالنسبة إلى تحليل العلاقة الزوجية على مستوى تاريخ الشخص (رجل وامرأة) خبراته في الطفولة مع والديه ومشاكله ونقاط ضعفه ومن ثم توقعاته وطريقة تفكيره..
يمكن القول أن الثنائي الزوجي قد خلق ليساعدنا على اجتياز مصاعب الوجود، خلق ليساعدنا على تحمل الوضع البشري لكي يكون هناك إنساناً نؤنبه، إنساناً مسئولاً عن عذابنا. لو كنا وحيدين لا يمكننا سوى أن نصرخ متوجهين إلى الخالق..
نحن نتزوج لنكون سعداء، ليكون هناك سكينة وأمان، مودة ورحمة، على الأزواج أن يكونوا سعداء لا تعساء وهنا تبدأ المقاومة.. عليك أن تسعدني لماذا ترفض؟. إذا عشت وحدي سأصبح السجين والسجان ليس لدي سوى نفسي أهاجمها. لكن لو كنا معاً أنت سجاني وأنا سجين جيد. إضافة إلى ذلك إذا تألمت هاجمتك أكثر، اذهب لأكون سعيدة، لكن ما إن تذهب أشعر بالقلق، أني وحيدة، وسأعود إليك وأطلب منك أن تسامحني عد إليّ، وأقول لنفسي ما هذا الحمق؟ لماذا أطلب منه العودة؟ وستعود ونبدأ بالتمزق من جديد. الألم والحزن الذي يسببه كل منهما للآخر يمكن أن يفسر على أنه وسيلة ليستمر ويبقى كل منهما في معتقداته ونظرته للعالم، وليقاوم التغيير. (فكرة "موني القائم" خبير في العلاج الأسري).
صراع الزوجين هو وسيلة للابتعاد عن تناقض داخلي، أحبك - ولا أحبك، أريدك - ولا أريدك، ساعدني - ولا أطلب منك شيئاً، تعال بجانبي - ابتعد عني.. طلبان متناقضان، الأول ظاهر والثاني يفهم من اللهجة. الأول مرتبط بما يريده أو تريده، أحبك، تعالى بجانبي، ساعدني.. والثاني مرتبط بالعالم الخاص لكل منهما، بخبراته في طفولته ومراهقته مع والديه وبمشاكله وبنقاط ضعفه وبتوقعاته.. العالم الخاص يبنى انطلاقاً من خبرات سابقة ويرى كل واحد منهما حاضره من خلالها. إنه يرغب أن يكون محبوباً لكنه يخشى الرفض الذي عانى من إحساسه به في علاقته بوالديه ونظامه العائلي، لذلك يطلب الحب على المستوى الكلامي ويرفضه على المستوى الوجداني أو يتمنى عدم حصوله.
مثال: هدى وسعيد زوجان. هدى هي البنت الرابعة بين إخوتها، وضعيتها وطريقة تعامل والديها معها جعلتها تشعر بأنها مهملة وغير مرغوب فيها. وسعيد هو الأوسط بين خمسة إخوة من ذكور وإناث، أبوه كان سلطوياً وأمه كثيرة الإنتقاد والتعليق، هذا جعله شديد الحساسية للنقد. قدم سعيد لهدى باقة من الورد كلفتة طيبة منه، شكرته وبعد نقاش قالت له: لماذا لم تحضر لي باقة من الزنبق وأنت تعرف أنني أفضله على الورد... سعيد رمى بالورد وخرج من البيت غضباناً...
هدى لا تستطيع أن تقبل زهوراً من سعيد بلطف وامتنان، لأن عالمها الخاص يقول لها: أنت لا تستحقين هذا الاهتمام من زوجك، ولسان حالها يقول: لو أظهرت اهتمامك بي سأخاف لأنني لا أستطيع أن أصدق أن ذلك يمكن أن يكون.. بينما عالمها الظاهر يقول له: أريدك أن تهتم بي.. ولو قبلت الورد دون تعليق فإنها ستكون قد خالفت عالمها الخاص. وسعيد حساس للتعليق والنقد عالمه الظاهر يرفض ذلك ويقول: أريد منك أن تقدريني وتحترميني، بينما عالمه الخاص يقول له: لم أستطيع أن أرضي من هم مهمون بالنسبة لي (أمي و أبي) كي أكون مقدراً ومقبولاً لديهم، لذلك رمى بباقة الورد لا شعورياً ليحصل على رد فعل انتقادي..
وهكذا حلقة مفرغة من الخطاب المزدوج بين الزوجين، أحدهما ظاهر مرتبط بالتمني والرغبة الحالية والآخر خاص مرتبط بالخبرات والبرامج العقلية السابقة في الطفولة والمراهقة.
يلتقي الزوج والزوجة وفي ذهن كل منهما مجموعة من التوقعات والخبرات والقيم التي تمثل نظامهما العائلي المنتميين إليه. تاريخ كل من الزوج والزوجة يدخل في العلاقة بكل قوة في جميع المواقف الحياتية واليومية التي تجمعهما، لذلك وكما سبق وذكرت لدى كل منهما عالم خاص وعالم ظاهر، الخاص يرتبط بتربيتهما ونظامهما العائلي وتاريخهما منذ الميلاد (بل وقبل ذلك) ويشكل حوالي 90% من مجموع ما يحمله الشخص من قيم وأفكار (أو برامج عقلية) لا شعورية. بينما 10% الأخرى شعورية، ترتيط بالموقف الحالي أو رد الفعل الحالي، وهو ما أفهمه وما أدركه في الموقف. معنى ذلك أن ما يحصل بين الزوجين من اختلافات أو اتفاقات (أفعالهم وردود أفعالهم الحالية) يعود في أغلبه إلى الموروث الذي يحمله كل منهما في ذهنه. لذلك العلاقة الزوجية لا يمكن أن ننظر لها على أنها علاقة رجل بامرأة فقط، بل هي علاقة نظام عائلي بنظام عائلي آخر الذي يمثله كل من الزوجين.
أما بالنسبة إلى تحليل العلاقة الزوجية على مستوى تاريخ المجتمع الإنساني، وكيف تحددت أدوار كل من الزوجين داخل العلاقة..
تاريخ الإنسان وبقاؤه اعتمد على حماية الرجال للنساء حتى ولو على حساب حياتهم. وتم تأهيل الرجل ليكونوا مقاتلين ومدافعين، يدافعون عن الوطن وعن الأسرة وعن المرأة.. ولذلك كانت من أهم القيم التي يتباهى بها المجتمع هي سيادة الأقوى من الرجال ورباطة جأشهم وقدرتهم على حماية الآخرين. لهذا السبب لم نسمع عن أسطورة تحكي للأطفال عن الأميرة التي وقعت في غرام رجل رفض الإشتراك في الحرب أو مبارزة لأي سبب كان.  
وتمر المرأة بظروف الحمل والولادة، فتحتاج إلى من يحميها هي وصغارها، لذلك طبيعة ظروفها جعلت دورها الأساسي هو رعاية أسرتها والاخرين والاهتمام بهم. بينما الرجل تولى دور الحامي للآخرين وغالباً يؤكد هذا الدور عن طريق إظهار القوة والتعامل مع أمور مثل مسئولية توفير المأكل والمشرب وبناء السكن وإبعاد الأخطار والصد لأي تهديد.
كان ذلك في الماضي من أجل الحفاظ على الحياة بشكل أساسي، واستمر ذلك إلى يومنا هذا بشكل لا شعوري وشعوري. وعن طريق الوراثة الثقافية، حيث القيم والمفاهيم والتوقعات تنتقل من جيل إلى جيل عبر الأزمنة، وكل منا إنسان تاريخي، يحمل التاريخ في ذهنه..
هذه الوضعية الثقافية أدت إلى بروز الكثير من الفروق بين الرجال والنساء في القيم والمفاهيم والتوقعات المرتبطة بعقلية كل من الجنسين واتجاهات كل منهما نحو الآخر. أذكر منها:
أ- يرى الرجال أن التعبير عن ضعفهم ومخاوفهم يؤديان إلى عدم احترام النساء لهم. لأنه من أسباب احترام المرأة للرجل هو قدرته على حمايتها، والذي يحمي لا بد أن يكون قوياً لا يلجأ للشكوى، ولا يكشف عن ضعفه، فهو الحامي. وتاريخياً عندما كانت المرأة تشتكي كان الرجل يسارع إلى حمايتها وحماية أولادها، بينما كانت الشكوى تعتبر عيباً في شخصيته.
والرجال لا يعترفون بنقاط ضعفهم، لذلك في الكثير من الأحيان لا يكون لديهم رؤية واضحة لاحتياجاتهم وبالتالي يجدون صعوبة في التعبير عنها أو صعوبة في الإعتراف بوجودها. وإذا عرفت المرأة احتياجاته ومخاوفه سيمنحها ذلك قوة كبيرة في العلاقة شرط أن لا تستخدم تلك المعلومة ضده.
ب- يحتاج الرجل إلى التقبل والدعم من الأشخاص المحيطين به وخاصة الزوجة، نظراً لإيمانه بأن البقاء للقوى.. عندما يعود إلى البيت فإنه يحتاج إلى أن يشعر بأن زوجته فخورة بعمله وبأبوته لأطفاله وبشخصيته المقبولة لديها.
ج- يرغب الرجل أن يلعب دور البطل والفارس في حياة المرأة. وهو يريد أن ينجح في خدمة وحماية المرأة التي يحب. ويحب أن يشعر بأنها تحتاجه ولا يمكنها الإستغناء عنه، لأنه يعتقد أن ذلك يضعه في موقع القوة و الأمان والتحكم..
لذلك من أهم الأوليات في علاقة الرجل بالمرأة أن يشعر بأنه في موضع ثقتها به، تثق بكفاءته وآرائه وقدرته على حمايتها.
د- يخشى الرجل المرأة القوية الناجحة، لأن ذلك يجعله يتساءل مع نفسه ما دوري في حياتها، وما الذي يمكنني أن أقدمه لها. وإذا لم يجد جواباً شعر بالخوف من علاقته بها. إنه يحب القوية لكن عندما تطغى قوتها على سبب وجوده في حياتها سيفضل الابتعاد عنها والاقتراب من أخرى تحتاج إلى حمايته.
ه- يرفض الرجل محاولات المرأة الرامية إلى تغييره بالتعليقات وكثرة الإنتقادات لسلوكاته أو لأفكاره، ذلك يجرح كبرياءه نظراً لأنه يرى في نفسه البطل أو الفارس الذي لا بد أن يكون في حياتها، وقد يصبح رد فعله عنيفاً تبعاً لذلك.
و- الرجل يحب المنافسة ويرغب في الأشياء الصعبة المنال، لذلك كلما كانت المرأة في حياته أمراً مسلماً به وفي متناول يديه وتجري خلفه، كلما فقد اهتمامه بها، فعقلية "رجل الكهف البدائي" تحب التعب والكد للحصول على الشيء، والحصول على بريق العلاقة.
المعادلة الصعبة، كيف تعرف المرأة أن تساعد الرجل على الحفاظ على حاجته للشعور بالقوة والتحكم، وفي نفس الوقت لا ينتصر عليها أو أن يكون ذلك على حساب شخصيتها. أن تكون المرأة قوية لكنها بحاجة لحمايته، تقدر الرجل وتثق به وأيضاً تثق بنفسها وتقدرها.
باختصار، تناولت ثلاث مستويات من التحليل للعلاقة الزوجية من المنظور النفسي الاجتماعي. هي:
مستوى الفرد المرتبط بوجوده كشخص ضمن هذا الكون، الدورة الطبيعية المرتبطة بقانون القطبية بالنسبة للرجل قرب أو بعد، وبالنسبة للمرأة صعود وهبوط. ثم مستوى تاريخ كل من الرجل والمرأة داخل الأسرة المنتمي لها كل منهما، خبراتهما ومشاكلهما وتوقعاتهما ونقاط ضعفهما.. وأخيراً مستوى تاريخ المجتمع الإنساني لنفهم كيف تحددت أدوار كل من الرجل والمرأة داخل الأسرة وتأثير ذلك على علاقة كل منهما بالآخر.

المصدر: لعبة الحياة الزوجية، د. فاطمة الكتاني، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2011م، بيروت - لبنان.           

          


التعليقات (0)

اترك تعليق