أم كلثوم بنت أبي جعفر عثمان بن سعيد العمري
أم كلثوم بنت أبي جعفر عثمان بن سعيد العمري
توفيت بعد سنة ٣٢٦هـ.
بين حدي الجحود والغلو ابتلي أهل البيت عليهم السلام بأتباع، لم يَعرفوا أو جحدتها أنفسهم بعد المعرفة..
ولا نزال نرى آثار ذلك الجحود التاريخي في (عدم انحياز) أكثرية الأمة لأهل البيت، ووقوفها على الحياد (السلبي) تجاه منهجهم وطريقتهم، فقههم وفكرهم، بالرغم من أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم للأمة أن تتمسك بهم، وأن تسير خلفهم.
فأنت تطالع كتب الفقه فلا ترى فيها ذكرا لهم، وكتب الصحاح (تتورع!!) عن النقل عنهم، وفي السياسة العامة لا ترى أثرا لهم.. وهكذا. فكأن هذا الإبعاد التاريخي الذي حصل، والانتهاك التام لحقوق أهل البيت من قبل أهل السياسة والدنيا لم يكن كافيا، حتى يكمله (ولا كمال فيه) هؤلاء. فكان بلاء أهل البيت عليه السلام مع هؤلاء الجاحدين لهم (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)؟
وكان البلاء الآخر لهم عليهم السلام فئات الغلاة، بينما بقيت شيعتهم (النمرقة الوسطى). فئات الغلاة الذين اختلطت فيهم الدوافع في مزيج غريب، يختلف بحسب اختلاف الأفراد والأدوار، والأزمان أحيانا. لكن يجمعهم أنهم يرون في المعصومين أنهم (فوق البشر). بينما الحق أنهم كانوا (خير البشر).
ومع أن ظاهر هؤلاء هو أنهم يدافعون عن ذوات الأئمة ويدعون لهم، ويردون إليهم حقهم أمام منكريه، إلا أن هؤلاء أكثر ضررا من أولئك على (منهج) أهل البيت. هلم معي لنتابع (كيف) يجند الغلاة أتباعهم؟
إن نقص معرفة عوام الغلاة بالمعصومين يجعل هؤلاء غير قادرين على الجمع بين المنازل التي أحلهم الله إياها، والنعم التي أولاهموها، وجريان الكرامات على أيديهم، و... وبين كونهم بشرا يتعاملون مع الواقع الخارجي بكل ظروفه من محن، وآلام ومتاعب. وفي ذلك أجرهم العظيم. هذا النقص في المعرفة يأتي قسم آخر ممن يعرفون ولكن (حليت الدنيا في أعينهم)، ويستغلونه فيجندون البسطاء حولهم باعتبارهم هم المدافعون وهم العارفون، والأبواب للأئمة، بل يصعدون إلى ما هو أعلى من ذلك أن روح الأئمة قد حلّت فيهم، وأصبحت جزءا منهم! وبالتالي فإن على الأتباع أن يقدسوا من حلّت فيه روح الإمام!! وأن يطيعوا أوامره وأن لا يعصوا له أمرا(1)!
فأنت تنظر عزيزي القارئ أن هؤلاء قد بدأوا مما ظاهره الدفاع عن حق الأئمة، وانتهوا إلى مصالح أنفسهم الشخصية وتقديس ذواتهم هم دون الأئمة.
وهم في ذلك يسلكون طرقا خاصة، فهم يؤكدون على أن هذا الأمر لا يفهمه سائر الناس وإنما -أنت وحدك الذي تسمعهم- هو الفاهم والعارف، وأما الباقي فهم لا يفقهون شيئا.. العلماء الكبار هؤلاء رجال فقه!! ولا يفهمون في المنازل الروحية، والعرفان، والخلوات.. الخ. والذي تسمعه أنت أو تعرفه منهم هذا أمر عظيم لا يصح أن يطّلع عليه الآخرون!! وإنما جاء الاختصاص بك، لمنزلتك العالية وتوفيقك الإلهي! وبهذا يكسبون الشخص لأنهم يشبعون فيه تقدير ذاته، و(ينبهونه) إلى عظم نفسه!!
قد يرتقي الحال إلى مرتبة يعرّف فيها أشخاص الغلو بأن هذه المنزلة التي وصلها لعظم معرفته، ما لم يصله سواه من عامة الناس، يفترض فيه أن تكون عبادته مختلفة عن عبادة غيره، وهنا يأتي دور التأويل، فيكفي من الإيمان معرفة الإمام مثلا، ويكفي من الصلاة تحقيق أهدافها، ويكفي من الصوم كذا.. الخ. فتسقط التكاليف الشرعية والأحكام من قاموس حياته بالتدريج، يُكتفى مثلا بالدعاء والأوراد والأحراز.. وينتهي هذا الإنسان إلى (فاسق) بحسب التصنيف الشرعي لمن ترك العبادات والواجبات عامدا.. وهو يظن نفسه في أعلى الدرجات!! سالكا إلى الله.
ولو حصل أن تمت مواجهتهم من قبل العلماء، بل حتى من قبل الأئمة كما حدث تاريخيا، فإنهم يؤولون الأمور على غير ظاهرها، ويحملون الكلمات ما لا تحتمل، كما صنع الشلمغاني عندما خرج لعنه من قبل الإمام الحجة عجل الله فرجه، فقد أول لعنه -وهي كلمة لا يوجد أوضح منها- بما ينفعه عند أتباعه.
ثم إنهم يختارون ضحاياهم، فهم يبحثون عن غير أهل العلم، من ذوي المستوى البسيط الذي يمكن التمويه عليه وعن غير المتصلين بالمنابع العلمية الصافية، وعن النساء اللاتي هن -إجمالا وبحسب الطبع العاطفي- أميل إلى التصديق والقبول لاسيما إذا كان شيئا عليه هالة من القدسية.
لكنهم لو واجهوا من يعرفهم، ويكشفهم فإنهم لا يستطيعون، وهذا ما حصل مع أم كلثوم. تُرى من هي هذه المرأة؟
أم كلثوم بنت أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري.. عاشت في جو علمي موالٍ لأهل البيت عليهم السلام، بل في جو العلماء والسفراء والوكلاء ولم تكن بعيدة عن ما يجري فيه من المعرفة والفهم الديني العميق ولذا نجد أن حفيدها هبة الله بن أحمد الكاتب قد روى عنها كثيرا، وهو بدوره كان مكثرا في الكتابة التصنيف وكان والدها وجدها(2) سفيرين للإمام الحجة عجل الله فرجه في فترة الغيبة الصغرى، وزوجها أحمد بن إبراهيم بن نوبخت(3) خصيصا بوالدها السفير الثاني ومقربا منه في أموره، ثم اختص بالسفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي حتى كانت رسائل الحسين بن روح إلى الشيعة والتي فيها توجيهات الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه تخرج بخط زوجها أحمد بن إبراهيم النوبختي.
وهي نفسها كانت محل ثقة السفير الثالث، وكان يعتمد عليها فيما يظهر من الرواية التي سنذكرها فيما بعد- في توجيه النساء وتعليمهن، وكان لها هي منزلة رفيعة لعلمها. لكنها عندما لاحظت تيار الغلو والانحراف أخبرت السفير الثالث باعتبار أنه (ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
فقد روى شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله عليه في كتابه الغَيبة، عند حديثه عن المذمومين من الوكلاء أن منهم أبا جعفر ابن أبي العزاقر المعروف بالشلمغاني:
- أخبرني الحسين بن إبراهيم عن أحمد بن نوح عن أبي نصر هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه قال: حدثتني الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه قالت: كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيها عند بني بسطام. وذاك أن الشيخ أبا القاسم رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاها.
فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام ويسنده عن الشيخ أبي القاسم فيقبلونه منه ويأخذونه عنه حتى انكشف ذلك لابي القاسم رضي الله عنه فأنكره وأعظمه ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا وأقاموا على توليه. وذاك أنه كان يقول لهم: إنني أذعت السر وقد أخذ علي الكتمان فعوقبت بالابعاد بعد الاختصاص لان الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن فيؤكد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته.
فبلغ ذلك أبا القاسم رضي الله عنه فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه فلما وصل إليهم أظهروه عليه فبكى بكاء عظيما ثم قال: إن لهذا لقول باطنا عظيما وهو أن اللعنة الابعاد فمعنى قوله: لعنه الله أي باعده الله عن العذاب والنار والآن قد عرفت منزلتي ومرغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر.
قالت الكبيرة رضي الله عنها: وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أن أم أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت علي رجلي تقبلها. فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلا يا ستي فإن هذا أمر عظيم وانكببت على يدها فبكت ثم قالت: كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة فقلت لها وكيف ذاك يا ستي. فقالت لي: إن الشيخ أبا جعفر محمد بن علي خرج إلينا بالسر.
قالت:
فقلت لها: وما السر قالت: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعته عوقبت قالت: وأعطيتها موثقا أني لا أكشفه لاحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ رضي الله عنه يعني أبا القاسم الحسين بن روح.
قالت: إن الشيخ أبا جعفر قال لنا: إن روح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انتقلت إلى أبيك يعني أبا جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنه وروح أمير المؤمنين عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح وأن روح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك فكيف لا أعظمك يا ستنا.
فقلت لها: مهلا لا تفعلي فإن هذا كذب يا ستنا فقالت لي: هو سر عظيم وقد أخذ علينا أننا لا نكشف هذا لاحد فالله الله في لا يحل بي العذاب ويا ستي فلولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.
قالت الكبيرة أم كلثوم رضي الله عنها: فلما انصرفت من عندها دخلت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح رضي الله عنه فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي فقال لي: يا بنية إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعدما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك ولا رسولا إن انفذته إليك ولا تلقيها بعد قولها فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقا إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام وتركت المضي إليهم ولم أقبل لهم عذرا ولا لقيت أمهم بعدها وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبق أحد إلا وتقدم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله أو كلمه فضلا عن موالاته.
ثم ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع.
* * *
ولم يكن ينقص الشلمغاني علمٌ ولا معرفة، وإنما كانت المشكلة في التهذيب النفسي وفي مقاومة مغريات الدنيا من جاه ومال، ولذا كانت حاجة من هم في معرَض الابتلاء الدنيوي أكثر من غيرهم، كانت الحاجة إلى التهذيب النفسي والتذكر الأخروي أكثر من غيرهم، ولعل هذا ما كان يصنعه الحسين بن روح النوبختي رضوان الله عليه كما تنقل ذلك لنا أم كلثوم بنت العمري - كما نقل ذلك عنها حفيدها هبة الله الكاتب:
حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد الدلال القمي قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنه يوما لأسلم عليه فوجدته وبين يديه ساجة ونقاش ينقش عليها ويكتب آيا من القرآن وأسماء الأئمة عليهم السلام على حواشيها.
فقلت له: يا سيدي ما هذه الساجة فقال لي: هذه لقبري تكون فيه أوضع عليها أو قال: أسند إليها وقد عرفت منه وأنا في كل يوم أنزل فيه فأقرأ جزءا من القرآن (فيه) فاصعد وأظنه قال: فأخذ بيدي وأرانيه فإذا كان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا صرت إلى الله عز وجل ودفنت فيه وهذه الساجة معي.
فلما خرجت من عنده أثبت ما ذكره ولم أزل مترقبا به ذلك فما تأخر الأمر حتى اعتل أبو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله من السنة التي ذكرها ودفن فيه.
مضى الشلمغاني..
وتوفي الحسين بن روح
وماتت أم كلثوم..
بقي العذاب والذكر السيء للأول..
وصار الثاني إلى أئمة الهدى، وحشرت بنت العمري مع أبيها وجدها، يشيعهم ذكر جميل ولسان صدق في الآخرين. وفي ذلك عبرة للمعتبر.
الهوامش:
1- للتفصيل يراجع كتاب الحياة الشخصية لأئمة أهل البيت عليهم السلام للمؤلف.
2- في الرواية أن أبا محمد الحسن العسكري عليه السلام قال لأحد أصحابه (العمري -أي عثمان بن سعيد جدها- وابنه ثقتان فما أديا إليك فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان). راجع قسم الرجال حول الإمام الحجة.
3- ذكر ابن النديم في ذيل ترجمة بعض المتكلمين من الإمامية أن بني نوبخت معروفون بولاية علي وولده. وذكر في أعيان الشيعة أسماء اثنين وعشرين متكلما من متكلميهم على مذهب الإمامية، ومن بينهم عبد الله بن إبراهيم أخ زوج المترجمة، وذكر أيضا أحد أحفادها.
المصدر: كتاب نساء حول أهل البيت(ع)، فوزي آل سيف، ج2..
اترك تعليق