مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أهمية تربية الأولاد على الأدب الإسلامي الرفيع

أهمية تربية الأولاد على الأدب الإسلامي الرفيع

أهمية تربية الأولاد على الأدب الإسلامي الرفيع
 
الأدب سحر التربية وإنجازها الأكبر؛ ففي ظلّ الأدب الرفيع ينال الإنسان جميع المكارم ويبلغ أعلى المراتب. فجميع أنواع التربية تدعو إلى ترسيخ قيمة الأدب في التعامل مع الآخرين، لكن للأدب الإسلامي ميزة خاصّة وبفضلها يرتقي كثيرًا ويعلو على أي نوع من الأدب في العالم، وهذه الميزة هي في سرّه العظيم، وهذا السر هو الله.
لا ينحصر التأدّب بالجانب السلبي الذي يتمثّل بعدم تجاوز الحدّ، بل يقترن أيضًا بجانبٍ إيجابيّ مهم وهو تعظيم الحد:
فأمّا الحدّ الأول، الذي لا ينبغي تجاوزه فهو حدّ الذات، وفي الحديث: "هلك امرؤ لم يعرف قدره".[1]
وأمّا الحدّ الثاني، الذي ينبغي تعظيمه فهو المرتبط بالآخر، وإنّما نعظّمه لأنّنا نراه تجليًا لحقّ الله تعالى. وكل ما يرتبط بحقّ الله عز وجل لا يمكن القيام بعهدته وتوفيته. 
الأدب الإسلامي يأمرنا أن ننظر إلى أنفسنا، ونعرف حدودها لنحدّد حقوقها. فإذا وجدنا لها حقًّا يمكننا أن نطالب به. فهل ينبغي أن أطالب الآخرين بالتحية والسلام أو التعظيم والإكرام أو الخدمة والغفران؟ فإن كان لي حقّ في ذلك جاز لي المطالبة والمعاتبة، وربما التأديب والمؤاخذة.
والأدب الإسلامي يأمرنا أن نتعرّف إلى حقوق الآخر ـسواء كان ولدًا أو أبًا أو أمًّا أو صديقًا أو جارًا أو حتى حيوانًا أو شيئًاـ وذلك من خلال معرفة حدوده. وكل حدّ في هذا الوجود ينبع من موقعية هذا المخلوق ومقامه عند الله وبالنسبة لله. فأي حد يعبّر عن الحجم الحقيقي والقيمة الواقعية. والميزان الذي توزن به الكائنات كلّها هو الله، {والوزن يومئذ الحق}.[2]
وعلى أساس ذلك فنحن نعظّم أي شخص بحسب انتمائه لله تعالى؛ والأصل في الأدب هو رعاية مقدار ومكانة الشيء. ولأنّ مقام الربّ الرحيم فوق كلّ تصوّر، فلا نبلغ من تعظيمه الوفاء بحقّه مهما جهدنا، فإنّنا نعظمه إلى درجة الذوبان والفناء في العبودية.
ولمّا كان الأدب عبارة عن تقدير وتكريم وتعظيم، ولأنّ عظمة الله مطلقة لا حدّ لها، ولأنّ مقامه أعلى من كلّ مقام، فالأدب الأعلى هو الذي يتجلّى في علاقتنا بالله وتصرّفنا في محضره. ولأنّ العالم كلّه محضر الله تعالى، فالأدب يفرض علينا أن نحترم كل سكّان هذا المحضر ومظاهره. فنحن ننظر إلى كلّ كائنٍ وموجود انطلاقًا من نسبته إلى الله، كونه فعل الله ومخلوق بيده ومظهر لعظمته، وسوف يكون تركيزنا على نسبة حضور الله فيه. فكل المخلوقات تستحق التعظيم والتقدير، إلا من رفض جهة هذه النسبة وأعرض عن هذا الانتماء وكفر به وحاربه، فهو لا يستحق منّا أي احترام.
فإذا نظرنا إلى أنفسنا وشاهدنا حقيقتها التي هي الظلومية والجهولية والضعف والأمر بالسوء والميل إلى المعاصي: 
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[3]
و{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[4]
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ[5]
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}،[6]
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا[7]
يصعب أن نرى لها حقًّا على الله تعالى، ولا حتى على أي أحد، حتى لو كان أقرب الناس إليها. ويعجز وجودنا ولساننا عن المطالبة بأي حقّ لغلبة تلك الجهة الفارغة علينا. وما يطالب به أهل الله لأنفسهم لا يكون إلا من باب إعانة الآخر على نفسه وتأديبه ليبقى ملاحظًا نعمة الله عليه وحضور الله عنده. فلنفرض أنّ الإمام عليًّا (عليه السلام) طالب بحقّه في موقفٍ ما، فذلك إنّما يكون من موقع الولاية والقيادة، لأنّ اجتراء الناس على القائد والإمام العادل يحرمهم من كل خير ويسلب البركات من حياتهم، يقول أمير المؤمنين(ع): "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ‏ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا، وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُم".[8]
أمّا إذا صار الموقف شخصيًّا، وعلم الإمام أنّ الذي يسبّه أو يتعرّض له فإنّما يفعل ذلك لموقفٍ شخصيّ، فإنّه يقول: "إنّما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفوٌ عن ذنب".[9]
فقلوب العارفين فارغة من كلّ طلب، لأنّهم لا يرون لأنفسهم استحقاقًا قبال أي أحد، بعد أن شاهدوا حقيقة فقرهم وتقصيرهم وعجزهم ولا شيئيتهم. ولهذا فهم لا يتألّمون إن لم يحصلوا من الناس على احترام أو تقدير أو خدمة أو ثناء، لأنّ توقّعاتهم نزلت إلى درجة الصفر.
وفي المقابل، يتملك هؤلاء طوال الوقت شعورٌ بالتقصير والعجز عن أداء حقّ الآخرين؛ لأنّهم يرونهم في ظلّ شعاع عظمة الله تعالى؛ وكل ما كان لله فلا يمكن إدراك حقّه. وهذا هو الأدب الرفيع في التعامل مع الآخرين.
إنّ الحديث الذي يقول: "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا[10] هو نموذج للأدب الإسلامي الذي يدعونا إلى هذا المستوى من تعظيم الذين يكون لهم علينا فضل؛ لأنّ الفضل لا يُقاس من ناحية المقدار والكم، بل من جهة صدوره ومنبعه. ولأنّ كل فضل وخير هو من الله تعالى، فنحن نعظّم من أجرى الله على يديه الخير، فكيف إذا كان الزوج أو الزوجة أو الأب أو الأم أو الصديق أو العالم أو المعلّم!
وإنّ قول الإمام (عليه السلام): "من علّمني حرفًا كنت له عبدًا"، يشير إلى حجم الدَّين الذي يتعلّق برقبة الإنسان تجاه من يعلّمه ولو حرفًا واحدًا، فما بالك بمن يكون له دور هدايتنا إلى الله والجنة. وقد كان الإمام الخميني حين يذكر أستاذه ومعلّمه ومرشده الشيخ الشاه آبادي، يُتبع اسمه بقوله روحي فداه، ولطالما قال إنّ استاذي له حقّ الحياة عليّ.
رغم أنّ واقعنا كمسلمين لا يشي بهذه الروحية أبدًا، لكن تعاليم ديننا وسيرة عظمائنا تحكي عن أروع مظاهر الأدب والتعظيم لكلّ ما تغلب عليه نسبة الانتماء إلى الله تعالى، ولكل من يظهر فضل الله على يديه، ولكل من يكون سببًا لتقرّبنا إلى الله. وفي ظلّ الأدب الرفيع يتحقّق أجمل اتّصال بالله تعالى، لأنّ المتأدّب بآداب العالَم شخصٌ عظُم الله في قلبه وارتبط به برابطة الحبّ والحضور. وفي ظلّ هذه الرابطة والتوجّه إلى الله واستشعار حضوره تعالى في الأشياء وفي كل مخلوق، يتّصل الإنسان بمنبع الفضائل ومصدر الكمالات كلّها.
المتأدّب لا يعامل أي أحد بحسب مظهره أو شكله أو عرقه أو لونه أو طوله أو بلده أو قبيلته أو جنسه، وإنّما يعلم في قرارة نفسه أنّ أولياء الله تعالى يمكن أن يكونوا في هذه الدنيا على أي شكل وهيئة؛ فقد اقتضت حكمة الله في الاختبار والابتلاء أن يخفي أولياءه في أقل خلقه، كما جاء في الحديث المعروف: "إِنَّ اللَّهَ أَخْفَى أَرْبَعَةً فِي أَرْبَعَة... وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ فَرُبَّمَا يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ".[11]
وهكذا يصبح المتأدّب بآداب الإسلام شديد الاحتياط في تعامله مع الآخرين، فيمنعه ذلك من الإساءة إليهم، ولو بنظرة أو حرف. وكلّما أدرك في شخصٍ ما مظهرية فضل الله، ازداد احتياطه واهتمامه وتأدّبه تجاهه، فيزداد شعوره بحضور الله. وفي هذا فوزٌ عظيم.
لكي نربّي أولادنا على الأدب الإسلاميّ، يجب أولًا أن نعاملهم بمنتهى الاحترام، كما أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله): "َوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَارْحَمُوا صِغَارَكُم‏"‏.[12] واحترام أولادنا يتجلّى في اهتمامنا بتربيتهم وتأمين حاجاتهم وتحسين تسميتهم وأسمائهم والتجاوز عن الكثير من عثراتهم، من دون إغفال مقام الأبوّة والأمومة، حيث ينبغي ترسيخ احترامه وتعظيمه أيضًا.
وقد يبدو مثل هذا العمل متناقضًا بذاته، فكيف نجمع بين الحب والعطف الشديد وبين ضرورة ترسيخ هيبة الأب والأم في قلوب الأبناء. كيف يمكن للأم أن تجمع بين الحنان الفائض، الذي يدفعها إلى تدليل الأبناء وتغنيجهم؛ وفي الوقت نفسه، عليها أن تعلّمهم كيف يحفظون الأدب الرفيع معها وتمنعهم من تعدّي حدودهم؟ أجل، إنّه عملٌ صعب، خصوصًا بالنسبة لمن يستغرق في الإحسان فينسى نفسه ويتدلّل؛ فكيف إذا كان طفلًا غير عاقل، وقد امتزجت علاقته بأمّه منذ اللحظة الأولى لولادته بالتفضل والحنان والعطف والمودة والحب والإحسان. لذلك، يكون الموقف الحازم الصادر من الأم ثقيلًا جدًّا على الطفل، ويصعب عليه استيعابه؛ فتراه في بعض الحالات يدخل في صدمة نفسية حادّة أو يجهش بالبكاء أو يدخل في نوبة من الغضب الشديد والعدائية.
ولذلك يُفضّل لمن كان حاله كذلك مع أولاده أن يجتنب القسوة والحزم الزائد، ويسعى للتأديب والتربية من خلال الحب والحنان والعطف، إلا إذا كان مضطرًّا لذلك، كما في حالة وفاة الأب أو قلة حضوره في المنزل.
إنّ تعليم الأبناء أصول الأدب يبدأ من معاملتنا لهم، لكي يتعرّفوا إلى هذا الخُلُق الرفيع من خلال المعايشة والتجربة؛ فالأطفال يتصرّفون كما يعيشون ويُعاملون. ومن المستحيل أن يتصرّف الأولاد بغير أدب مع من يعاملهم بأدب؛ وإن فعلوا ذلك فيكون عثرة وزلّة يجب أن تُغفر، أو دلال وغنج يجب أن يُقدّر. 
إنّ سوء الأدب الذي يُشاهد كثيرًا في علاقة التلامذة بالمعلّمين ـخصوصًا وراء ظهورهمـ يرجع بالدرجة الأولى إلى شعور التلامذة الدائم بالمهانة داخل المدرسة، وبسبب معاملة النظّار والمعلّمين لهم بطريقة تخرج عن الأدب، حيث يتم التعرّض لهم بأنواع القسوة والقمع والإهانة وتقليل الشأن.
ففي المدرسة، تجري أكبر عمليات الإهانة والدوس على هذا الخُلُق العظيم، لأنّ أكثر أعراف المدرسة مبنية على ضرورة حفظ القانون والانضباط وفرض الالتزام بالدراسة و... وهكذا يتم التقليل من شأن الطالب لمجرّد أنّه قصّر بحقّ هذا القانون أو لم يلتزم بالدراسة المفروضة. ومن الطبيعي أن تكون ردّة فعل الطالب المهان: معاملة كل من يراه مشاركًا في إهانته بالمثل (حتى لو كان مقعد الدراسة الخشبي الصلب)؛ وبذلك تفقد الرابطة بين المعلّم والتلميذ أهم ما يقيمها ويقومها، وهو المحبة والتعظيم والتقدير؛ فيتنزّل مستوى الاستفادة إلى أدنى درجاته، بل يكاد ينعدم أحيانًا. 
كثيرًا ما نشاهد الأبناء يدوسون على كل جميل للأم أو فضل للأب في لحظة سخط. لكن الأسوأ هو حين يغيب عن بال الأبناء حقيقة دوافع الآباء والأمهات حين يتصرّفون معهم بنوعٍ من الشدّة والحزم، فيتحوّلون بنظرهم إلى أشخاص متسلّطين، يحبّون أن يفرضوا إرادتهم عليهم ويجبروهم على أمور لا يحبونها. وحين يغيب عن بال الأبناء دوافع الآباء يصعب أن يدركوا نصيحتهم أو يفهموا توصيتهم، فيُحرموا من الرشد والهداية في أحلك الأوقات.
والذي يمنع من ذلك كلّه هو أن تترسّخ قيمة الأدب الرفيع في حياتنا.




ــــــــــــــــــــ
[1]. نهج البلاغة، ص 497.
[2]. سورة الأعراف، الآية 8.
[3]. سورة الأحزاب، الآية 72.
[4]. سورة العاديات، الآيات 5 - 7.
[5]. سورة الشورى، الآية 48.
[6]. سورة يوسف، الآية 53.
[7]. سورة النساء، الآية 28.
[8]. نهج البلاغة، ص 79.
[9].نهج البلاغة، ص 550.
[10]. الكافي، ج5، ص 508.
[11]. وسائل الشيعة، ج1، ص 116 - 117.
[12]. وسائل الشيعة، ج10، ص 313.

السيد عباس نور الدين

التعليقات (0)

اترك تعليق