مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ملحمة وداع

ملحمة وداع.. حوار افتراضي بين الشهيد الصدر وزوجه الكريمة أم جعفر

ملحمة وداع

حوار افتراضي بين الشهيد الصدر وزوجه الكريمة أم جعفر حين الوداع:

-الحب علّتي أنا معلول بالحب. 
أما ترى قلبي منسدحاً قد أضرَّ به الوجد وأنتَ رخي البال.
ترفقي بي فأمري ليس بيدي.. حاكت الأقدار سعدنا وشقانا.
أتنتزع نفسك وتغتصبها اغتصاباً.
هو التاريخ يعيد نفسه.
أللوجع تاريخ؟
بلى للوجع تاريخ.. بل هو التاريخ.
ماذا تريد بعد أن مال السرج وقل المُعين.. وجفَّ المَعين.
أما تسمعين الصوت من جانب الوادي.. إنه مجلجل بداخلي..
يدكني.. يجذبني للخلاص.
أولستَ الضمين.. لا تمت ضياعاً.. أتخوف بحضرتك.
إني اصطلي.. تسفعني نيران الجهالات بلوافح سمومها.
هنا تحدّر الدمع على الخدّين معلناً الأسى جاهراً بالمعاناة.
أتطيَّر.. أتشاءم.. هذا العربيد الطغومي‏(1) لا يفرق بين أخضر ويبس.
بل يفرق.. مثله لا يلفته إلا الأخضر المورق. أما من أغسق ليلهم‏(2) فلا شأن له بهم.
أنت تعرف هذا الشيطان يا ملاكي.
لا أحد يعرفه مثلي.. فكلما ارتقيت تكشَّف الأسفل وكلما علوت تبيَّن الأذل..
ذهب ضياؤهم فاستوقدوها ناراً.. هم الخاسئون، ستضرب عليهم ذلة ومسكنة من الله وغضب.. وسيجثم خوف وجوع ونقصٌ في الضمير.. سيتربع الموت وهم يشعرون.
إنه الشيطان أخافه عليك.. هذه خطواته تقترب.
رحم الله قلباً تحملين.. ما مِن متشيطن إلا وله رسول.
يا راحم عبرتي خذ بيدي.. لا أتوه. رباه رضني حتى أنال صلواتك واهتدي، هذه ضراعتي.
عليك بالكظم وإنْ شُجيت. سيكون طفّاً.. فصلٌ تأخر أربعة عشر قرناً عن المأساة..
ذخره الله لأهل هذا الزمان حتى يشهدوه.
أهو الظلم والعدل.. يلتقيان.
بلى حتى غديا من سنن الأرض وأخلاق الإنسان.
أما تسمع طرقاً؟
أزفت ا لآزفة.. تجملت المقابر لأعراسٍ وشيكة.
خذني معك.
لكِ العيال.. الرحيل وشيك.
لا تعجل علي، سأطرق باب الذكريات.. كأني أرى نفسي عُدتُ للطف متلفعة بالقرن العشرين.
احترق الزمان ما عادت له قيمة، الآتي والماضي سيان.
الخدر والخمر(3).. إنها ملحمة الإنسان.. يا ملهمتي.
«سيد» أهو قدر الهواشم.
لعله قدري: تهشيم الطاغوت.
أو ينتهي بعدك.
سيبقى ما بقي الجديدان.. إنها قصة لا تعرف النهاية.
نفسي لا تطاوعني أسلمك للجلاد..
فأنت من عليٍّ إرثي.. لا أتخلى عنك ولو ذبحوني.
سيذبحونك صبراً على مدى سنين، أيا ابنة الخير.. تريثي،
سيطول منك النشيج.. تندبين قتلاك وتُودِعين من أحببت التراب.
لا طاقة لي بحياة كهذه.. أما تراني كالسعفة قد سُلّ خوصها.
طهُرك «فاطمُ»، جرّ(4) ذلك وكأن البلاء هو الذي اختار. لقد أبصرتِ‏ِ معالم الطريق من حين صباك.. فلم تنفري ولم تنكُصي. إنها مسحة الرسول.. يا رسول حب أفعم قلبي..
البوح هنا عبادة
أتغادرني للأبدية لتنعم، وتسلمني لقدري.. إني أعاتب.
رفيقة الدرب.. أغرودة شبابي..يا من تشببتُ بها طوال أيامي..
ما من مفر، للفراق أسير، إنه المصير.
مهلاً.. أضمِّنُك روحي وأعب من روحك واستزيد، فاليوم بوح وغداً نواح.
عديني أيا أُمَّةً في امرأة.. لا توجمي..
يا وجيهة الروح فأنت جناحاي لن تُخذلي.
ساد المكان صمت ملائكة عارجة تتنفل.
لِمَ الصمت فما زلت.. لم أزُل.
أتعزّى بصمتي قبل الغربال يا سليل الرسول.
الرسول؟ إن قُدِّر لكِ صلاة عنده فأبلغيه وجيعتي.
قولي له إنه الخنا والختل من جديد.
أواه يا بن فاطمة.. لا تعجل بالرحيل.. حدثني عن صاحبك أهو الحجاج أم يزيد.
يا مسلاي في مسراي: صاحبي مسخ رعديد، خلق في يوم بلا 
لون، خارج عن دائرة الزمان، لكأنما الشيطان هو الضجيع.
أواه يا ابن علي.. أنا أتشبث، يا عمري المهدور أوَلم تؤمن بأنك مقتول.
بلى وقد اطمئن قلبي أنه قاتلي.. فقتلي يروق للئام، ولي من الله الكرامة.
ما لنا والزنيم.. شُتامة قومه وحالوقة(5) السوء، ذاك الأحْوَب‏(6).
قدرٌ مقدور.. عادتي وعادة آبائي، أن استرجِف الأرض في خروجي لتِحكم السُّنن.
هو الحِلس‏(7) والميثاق.. ألا أُقارّ على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم((8)).
وأنت أنت‏
وأنتِ أنتِ قد اختار الله واصطفى وكفى.. اختارني شهيداً واختارك شاهدة على رذالات الانسان.
رباه مدد.. إني أتوه.. دلني دربي.. رحماك.
هداكِ الرب الطريق.. منذ النشأة.. يا مدللتي.
ما كنتُ أحسب أنّ هذا خب‏ءُ الأيام.. ما أسرعَ لقائي بالويلات.
ترى أهذي النهاية.
صبراً ابنة الكرام.. إنها بداية البداية.. ولسوف تحكين حكاية. 
لنجعل لها عنوان.. أميرة الأحزان.
«أم جعفر».. يا أخت موسى.. يا دفقة حب من كوثر أكثر.
أتؤبِن‏
بل أتغنى.. يا أميرتي‏
تتغنّى بعذاباتي‏
بل افتتاناً بجَلدِكِ.. ببسالتِكِ.. كأنّ سيفَ حيدرة وبأسه، قد
انصب في أوردتك.. كأنك هو..
في البنت سِرٌ من أبيها.. إنها تراتيل من بيت محمّد.
توّجيني.. أيتها الصدرية.. توِّجي صدري بنياشين مجدك..
لي من الحب مقتلي.. ولك ما بقي.. الثكل والقهر والسّلب والخذلان.
ثم يمَّمَ وجهه شطر المخاليق ملهماً بشجاعة لا شوب فيها وكأنه يرتجز: 
الحب فيَّ خلّةٌ وليس من خلل ولا إخلال.
الحب عندي دِين وتديّن ودَيْنٌ لِديّان.
الحب صَلاة وصِلات ووصول.
هذا هو الحب في شريعتي وتشريعي.. حباني به المعبود لترويج عبودية.. الحب توحيد واتحاد وعروج.
هكذا أرى الحب وأشيعه.. ليس له مواسم عندي..
الحب موسوم بالحب.. الحب للحب.
نزحت إلى الوطن‏(9).. أوحشني الاغتراب.. تركت المتاع.. رحلت، أورثتكم الالتياع.. وحفنة من الأوجاع تزداد مع العمر.. أما الآتي فهو الضياع. تخليتم عني كمن تخلت عن وليدها قبل التمام،
تركتموني قبل الالتئام، كأنكم فالق حطب بليل.
ولسوف تساقون كالهيم غاب عنها رعاتها، تَرِدون ولن ترووا وتكونوا أذل من السُّقبان‏(10) بين الحلائب.
ما خلقت لكي أموت.. تخرم أذني واعية الحسين.. أكاد أتنسم‏
عليل روحه وأشتمُّ أمجاده.. وفي صدري يدوي اسمه وقدسه وبين حناياي تعيش ظلامته.. تشعشع نورانيته باطني فأصفو واستريح.
ما خُلق الموت لي.. أنا لا أعرف إلاّ الحياة عند ربي وارزق عنده رزقاً جنياً.. هكذا المعبود ألهمني..
الموت لأهل الموت.. للميتين.. لا سلطان له عليَّ.. في الحياة حياتي..
إن كان مات الحسين فاني أموت.. أنا متعلق بشآبيبه أينما حل وأينما ارتحل.. حيثما وُجد الحسين فأنا موجود.. كائن في وجوده.. وأنهل من بحر جوده.
تعشقته حتى تعشقني وتعطشت لذكره حتى ذكرني ومنحني حسينيته وحسنه وإحسانه.
هذا أنا الصدر لا ابتغي إلا أن أكون صدراً.. وإن رضرضت وإن كُسِّرت وإن أولمت.. هو ذا نهجي وذا طريقي ودربي، لا يطفأ ضيائي ولا يخفت بريقي بل يتوهج توهج المواقد ويشتعل اشتعال الجمرات.
أنا رسول الحسين إليكم.. ذخرني لزمانكم حتى أبوح بمكنون ذاته لأهل هذا العالم.. أنا جذبة من نفسه الشهيدة.. أنا المجذوب بإرادة..
أنا حسينكم.. النجف مكاني وما بعد الخذل فالزمان كله زماني..
لا تحدني أرض ولا يهدني ثقل.. فقد تواصلت مع المطلق.




_______________________________
  1. الدنئ
  2. أظلم ليلهم.
  3. أي خدرنا وخمرهم‏
  4. كما نقم طغاة في زمن مضى من الصالحين عندما قالوا: (إنهم أناس يتطهّرون).
  5. المشؤوم على قومه كأنه يحلقهم
  6. الآثم
  7. العهد والميثاق
  8. مضمون كلمة لأمير المؤمنين.
  9. الآخرة
  10. ولد الناقة ساعة يولد.


المصدر: من كتاب وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر، أمل البقشي.

التعليقات (0)

اترك تعليق