مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

العلاج الأول للمشاكل الزوجية... لماذا ينبغي أن نرجع إلى قيم الدين الحنيف؟

العلاج الأول للمشاكل الزوجية... لماذا ينبغي أن نرجع إلى قيم الدين الحنيف؟

العلاج الأول للمشاكل الزوجية... لماذا ينبغي أن نرجع إلى قيم الدين الحنيف؟


غالبًا ما يتوقّع الناس من أهل الإيمان والتديّن أن يكونوا قدوة في كلّ شيء، وخصوصًا في زواجهم وتربيتهم لأبنائهم. لكن الوقائع والمعطيات الميدانية قد تعطي غير هذا الانطباع. فنسبة الطلاق وعدم الرضا الزوجيّ تسجّل معدّلات مرتفعة في أوساط من يُفترض أن يمتلكوا الكثير من القواسم المشتركة والموازين التي يمكنهم الرجوع إليها والانطلاق منها لبناء أسرة متينة وحلّ مشاكلها.
يقول البعض: "إننا بشر، والبشر يخطئون، حتى لو كنّا متديّنين ومؤمنين بشيء أسمى وأعظم من كل هذه الحياة الزائلة الفانية التي لا تستحق أن نتشاجر من أجلها". ولكن أعتقد أنّ مقولة البشرية هذه هي أشبه بالخدعة التي تخترعها النفس، أو كلمة الحقّ التي يُراد بها الباطل. فلا شك بأنّ هناك فوارق حقيقيّة بين البشر المتدينين والبشر غير المتدينين، إلا إذا انعدم معنى التديّن تمامًا.
 ففي ظلّ الدين تختلف أنظمة حياتنا المرتبطة بأنشطتنا الأساسية، سواء على الصعيد الدنيويّ أو المعنويّ؛ ومن المفترض أن يضفي الدين على حياتنا سموّ الاهتمامات وارتقاء التوجّهات بشكل ملحوظ، فنتجنّب العديد من الأمور والممارسات المضرّة والمؤذية للجسد والروح. 
كما إنّ للمتدينين فرصًا عديدة على مستوى تغذية أرواحهم وتقويتها بالمعارف السامية والمعاني الروحية العميقة؛ هذا، بالإضافة إلى توفير العديد من محافل الذكر العابقة بالمعنويات والقضايا التي ترفعنا على هذا العالم الأرضي المحدود.
 ومن هنا، فالمتوقّع أن ينخفض معدّل المشاكل النفسية والأمراض العصبية وحتى الجسمانية، عند كل من تتوفّر له هذه الفرص والإمكانات الطيبة والوفيرة. وفي ظلّ هذا التميز والراحة النفسية النسبية، ينبغي أن تكون علاقات المتديّنين فيما بينهم على وجه الخصوص قائمة على القيم النبيلة والاعتبارات الجميلة.
لكن، إذا نظرنا إلى التحدّيات التي يخوضها المتديّنون في عالم اليوم، والواجبات الكبيرة الملقاة على عاتقهم على صعيد الجهاد والعمل الاجتماعي والسياسيّ التغييري، والضغوط التي تفرض عليهم جرّاء هذه المواجهة الحضارية، والموانع التي توضع على الطريق التقدّمي الذي يفترض أن يسلكوه، فإنّنا سنجد حياتهم مُحاطة بعشرات الأزمات والصعوبات. هذا بالطبع، بمعزل عن الإمكانات العجيبة التي يوفّرها الله لهم أثناء سعيهم هذا، والتي يُفترض أن يستعملوها لإبطال مفاعيل تلك الأزمات الهدّامة.
من الخطأ أن نقارن حياة العامل الثوريّ، الذي يواجه التحدّيات الكبرى أو يتحمّل أعباء وضغوطات تمارسها دول عظمى وقوى مستبدّة بحقّه لمجرّد أنّه التزم بالدين ونهجه الثوريّ، مع ذاك الذي يتماهى مع الأنظمة الحياتية السائدة والمدعومة، بل القائمة على تلك القوى المهيمنة على معظم مقدرات الحياة وثرواتها.
الفتاة التي تريد أن تعمل في مؤسّسة عامّة أو تدرس في جامعة غربية (وإن كانت في وطنها)، تتحمّل من الضغوط والصعوبات ما تنوء به الجبال؛ كل ذلك لأنّها التزمت بضوابط خاصّة ترسم حدودًا واضحة بين الجنسين وترفض أن تكون سلعة أو أداة متعة. 
والرجل المتديّن، الذي ينظر إلى العلاقات المختلفة انطلاقًا ممّا هو ظاهر من أحكام الشرع ومباحاته واستحباباته، سيجد في نفسه دوافع إضافية نحو نوع من الروابط والتصرّفات، التي لا تتناسب مع النظام الدنيويّ الخاصّ بالحياة الأسرية؛ والذي ترفضه نفوس أهل الدنيا والغافلين عن نظام الإسلام.
ففي ظلّ عدم استتباب النظام الحياتيّ الدينيّ، على صعيد الاقتصاد والسياسة، سيكون المتديّنون وسط مخاضٍ عسير، وعليهم أن يثبتوا في مواجهة أعاصير شديدة، عسى أن يصلوا يومًا إلى إقامة نظامٍ ينسجم مع الأحكام والتوجّهات التي آمنوا بها. وإلا فإنّ معاناتهم ستزداد؛ وتزداد معها مشاكلهم ومصائبهم التي سيدفعون فيها الأثمان الباهظة من أعصابهم وحياتهم وأبدانهم.
والسؤال الأساسي هنا هو كيف نحمي الحياة الزوجية في ظلّ هذه العواصف العاتية؟ وكيف نقلّل من تأثيرات تلك الضغوط الهائلة؟ وهل يمكننا أن نبني لأسرتنا سورًا منيعًا يحفظها من التأثيرات السلبية لذلك المخاض الذي اخترنا خوضه؟
إنّ الضغوط التي يحملها المتديّنون معهم من خارج المنزل وإلى داخله هي أشبه بتلك الضغوط التي تمر فيها أي أسرة، حين يواجه ربّها ومعيلها مخاطر فقدان عمله ومصدر رزقه واحتمال السقوط في مهاوي البطالة. فكلّ واحد منّا قد شاهد على الأرجح مثل هذه الحالة الصعبة الضاغطة، وشعر بما يمكن أن تتركه من آثار مزلزلة للعلاقة الزوجية؛ لكن مع فارقٍ واحد وهو أنّ الضغوط المُلقاة على عاتق المتديّنين رجالًا ونساءً بسبب تديّنهم هذا تفوق ذلك أضعافًا مضاعفة. فكيف إذا أضفنا عوامل أخرى لا تقلّ تأثيرًا، وهي العوامل التي تنشأ بصورة طبيعية من حالة الصراع الكبير الذي يخوضونه بينهم وبين أنفسهم، على صعيد مجاهدة النفس وضبط الشهوات والالتزام بحدود التقوى والبعد عن المعاصي والارتقاء في مدارج الكمال (وكل هذا يندرج ضمن عنوان الجهاد الأكبر الذي دعانا نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله لخوضه كمعتركٍ أساسيّ في هذه الحياة).
ففي ظلّ هذا الصراع الذي لا مفرّ منه بالنسبة لأي إنسان يسعى نحو الآخرة ويريد أن يتحرّر من الدنيا ويفك نفسه من أسرها، هناك سقطات ومعاناة وضغوط كبيرة، لا يمكن إيداعها خارج المنزل حين العودة إلى المنزل ومعاشرة الشريك، لأنّها تبقى مع الإنسان وتلازمه، بل قد تلاحقه إلى سريره ومخدعه. ولا شك بأنّ الإمكانات المعنوية والفكرية والنفسية وحتى الجسمانية التي يوفّرها الدين للملتزمين الواقعيين بأحكامه وتعاليمه، ينبغي أن تتغلّب على جميع العوامل السلبية والآثار الضاغطة التي تنشأ من جرّاء الصراع مع الداخل والخارج. وما علينا إلا أن نفتح قلوبنا وأرواحنا وكل حياتنا على الفيوضات الرحيمية، التي تتنزّل بفضل ذلك الالتزام الصادق. وقد وعد الله تعالى المتّقين الملتزمين بصلوات ورحمات وغفران ورضوان وتثبيت وثبات ونصرة وتأييد وبشائر لا حدّ لها. كل هذا نطالعه عند تجوالنا بين آيات القرآن المجيد، ونطّلع عليه في حيوات كل أولئك الذين مثّلوا القدوة الرائعة، وضربوا المثل الأعلى في سيرتهم لأهل الإيمان والتقوى.
بيد أن العنصر الجوهريّ في القضية كلّها يكمن في مسألة أساسيّة، وهي التي تؤدّي الغفلة عنها إلى تغلّب العناصر السلبية في النهاية؛ هذا بالرغم من صدق سعينا ودرجة تضحياتنا.. إنّها قضية الالتزام الأخلاقيّ الذي لا غنى عنه لنجاح الالتزام الدينيّ؛ خصوصًا في مجال العلاقات الزوجية. فالالتزام الأخلاقيّ هنا هو ضرورة وهو ذلك السور المنيع الذي يحفظ الالتزام بنظام الحقوق والواجبات ويهيّئ له الأرضية المتينة لبقائه واستمراريته. ومع غياب هذا الالتزام الأخلاقيّ، يسهل الاعتداء والتجاوز وغمط الحقوق؛ والأخطر من الكل: الغفلة عن هذا النظام الشرعيّ نفسه. ولأنّ الحياة الزوجية الإسلامية لا تشبه أي حياة زوجية أخرى ـ ليس فقط لما ذكرنا فيما يرتبط بالتحديات والصراعين، بل لطبيعة أهدافها وتطلعاتها ومسؤولياتها والتزاماتها ـ فإنّ مستلزماتها الأخلاقية ستكون أوسع وأعمق وأكثر تشعّبًا.
لنجاح حياة زوجية إسلامية في ظلّ كل هذه الظروف والمسؤوليات نحتاج إلى نظامٍ أخلاقيّ رفيع وقادر على التغلغل إلى أعماق نفوسنا. وبالرغم من أنّ كلامي هذا قد يبدو تعقيدًا للقضية أو تصعيبًا للحياة، لكنّ الواقع والحقيقة وطبيعة الحياة البشرية ليست شيئًا اصطنعته أنا بحيث أكون ممّن يضعه أو يرفعه.. إنّها الحياة أيّها العزيز، وعليك أن تأخذها بمنتهى الجدية. والذي يهوّن الخطب ها هنا هو أنّنا قد آمنّا منذ البداية بالحياة الآخرة وعزمنا على سلوك طريقها، وعلمنا أنّ السير على هذا الطريق يقتضي عبور ذات الشوكة والكدح والصبر. والتديّن الصحيح يجعلنا بصورة تلقائيّة مهتمّين بالاطّلاع على معارف الدين والتعمّق في علومه والتوغّل فيه وفي الحياة وتشعّباتها؛ فتجد المؤمن الواقعيّ غائدًا رائحًا في طلب الكمالات والمعالي ومترفّعًا عن النقائص والسفاسف. هذا بالإضافة إلى أنّ للالتزام الدقيق بنظامٍ أخلاقيّ شامل حلاوة خاصّة، لا تزداد مع الأيام والالتزام إلّا روعة وسلاسة. 
إنّ غفلتنا وإهمالنا لهذا النظام الأخلاقيّ المعنويّ الروحيّ القيميّ الإسلاميّ ونحن نبني بيت الزوجية، سيكون بمثابة من يبني بيته على رمالٍ متحرّكة أو بحر ماء. ولهذا، يمكن القول بأنّ معظم المشاكل الزوجية التي تقع ضمن دائرة المتديّنين إنّما تنبع من ضعف الالتزام الأخلاقيّ وهشاشة الاهتمام الروحيّ. وإن قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكًا} [طه، 124]؛ ينطبق على المسلمين وغيرهم وعلى المؤمنين ومن سواهم. والمصيبة الكبرى هنا هي أنّ الكثير من الذين يعانون من هذه المشاكل الزوجية الخانقة، لا يشعرون بذلك؛ بل هم مصرّون على إلقاء اللائمة على مسائل بعيدة عن هذه القضية الأساسية.
فإن لم ندرك أنّ نجاح الزواج يعتمد على الالتزام بنظام الحقوق والواجبات، وأنّ هذا الالتزام يتطلّب بناء الحياة والعلاقات على قواعد أخلاقية وروحية دقيقة، فإنّ الأمل بإحداث تغييرٍ جوهريّ في طبيعة حياة المتديّنين الزوجية بعيد جدًّا.

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق