الحياة الأسرية للمسلم الواقعيّ... سواء كان أبًا، ابنًا أو أمًّا، فهو مجاهد حقيقي
الحياة الأسرية للمسلم الواقعيّ... سواء كان أبًا، ابنًا أو أمًّا، فهو مجاهد حقيقي
يندفع معظم الناس نحو تكوين أسرة، خصوصًا إذا كانت تجربتهم الأسرية كأبناء ناجحةً ومفعمة بالمودّة. وهذا الاندفاع الطبيعيّ، بالإضافة إلى انسجامه مع الغريزة البشرية الأولية، فإنّه خيار عقلائيّ بامتياز، كونه أفضل طريقة لتأمين الحاجات الأساسية.. لكن الأهم من كل ذلك هو ما ينجم عن تكوين الأسرة من نتائج اجتماعية عظيمة التأثير في الدنيا والآخرة.
كل أسرة يتم تأسيسها في أيّ مجتمعٍ كان، ستكون لحمتها الداخلية ومتانتها وتماسكها عنصرًا مهمًّا في لحمة المجتمع وتثبيت أركانه ورقيّه وتقدّمه. والمجتمع هو الكيان الأداة التي يمكن من خلالها تحقيق أهداف الدين الكبرى، وضمان استمرار رسالته وبقائها على مدى الأجيال. وما لم يظهر الدين في الحياة الاجتماعية، فإنّ المنتمين إليه سيلاقون الكثير من المشاكل والصعاب، ويصبح من الصعب بمكان أن يتقبّله الناس ويُقبلوا عليه على صعيد المجتمعات الأخرى.
لهذا، فإنّ الأسرة الإسلامية النموذجية التي تكون مصداقًا عينيًّا لتعاليم الإسلام وقيمه الإنسانية هي إحدى أفضل وسائل تبليغ الدين وترسيخ قيمه. وحين ينظر الناس إلى متدين ولا يجدون في حياته الأسرية أنموذجًا لما يلتزم به ويدعو إليه، يصعب عليهم تقبّل دعوته أو التأثّر بسيرته.
وعلى هذا الأساس، يسعى المسلم الواقعي بكل جهده لتكوين أسرة نموذجية تكون مثالًا راقيًا للحياة الإسلامية، وخطوة مهمّة على طريق تشكيل ذلك المجتمع الإسلاميّ الأصيل؛ وهذا ما يتجلّى في اهتمامه المرهف بأسرته (ماديًّا ومعنويًّا)، وفي إيثاره وتضحيته من أجل تأمين راحتها وسعادتها، وفي مودّته وعطفه اللذين يشكلان أفضل ترس مقابل حراب وسهام مكائد الشياطين، الذين يتسلّلون لصناعة الشخصية المجرمة والكئيبة والضعيفة والمحبطة، من بين الأفراد الذين لم يجدوا ذلك العطف والرعاية والرحمة في أسرتهم.
وأفضل مظهر لالتزام المسلم تجاه أسرته هو عفوه وصفحه الذي ينشره أنّى كان، ويقابل به الأخطاء والإساءات التي قد تصدر من بعض أعضائها تجاهه لسبب أو لآخر؛ وأفضل منه ستره على أخطائهم، وسعيه لجعل هذه الأسرة ملجأً للتوبة والندم والإصلاح، خصوصًا إذا لم يكن المجتمع متفهّمًا أو راحمًا أو غافرًا.
فالأسرة ليست محل تصفية الحسابات ولا هي محكمة العدل، بل هي، قبل أي شيء، الحصن الذي يلجأ إليه أبناؤها للحصول على فيض الرحمة والعطف. وفي ظلّ هذه الرحمة الخاصّة يحصل الكثير من الإصلاح.
إنّ الكثير من الملاحظات الميدانية تكشف عن أنّ الكثير من المجرمين في العالم قد نشأوا في أُسر مفكّكة أو لم يكن لهم أُسرة من الأساس؛ وأنّ الكثير منهم تمادى في جرائمه لأنّه لم يجد من يلجأ إليه للاعتراف والتوبة عند انحرافه الأول، ولم يشعر بوجود مكانٍ يمكن أن يستر عليه خطؤه ويتفهّم مشاكله ومعاناته.
ويسعى المسلم الواقعيّ إلى تكبير حجم أسرته مهما أمكن، لاعتبار الكم بعد الكيف ولأهمية الحجم بعد النوع؛ ولهذا، فإنّه يعتزّ بأرحامه أينما كانوا (إلا من كان منهم عدوّ الله) وبأسرته الكبيرة التي تشمل الأجداد والجدّات والخالات والأعمام وأبنائهم وأحفادهم. وغالبًا ما تؤدّي هذه المرحمة إلى النفوذ في قلوبهم إلى درجة تقارب ما يحقّقه في أسرته الصغيرة. فقلب المؤمن أكبر من السماء والأرض، وهو يتّسع لملايين الخلق من عيال الله.
يعلم هذا المسلم أنّه لو لم يستطع أن يصلح أو يربّي أحدًا سوى أبنائه، فإنّ هذا كفيل بتحقيق الكثير من الأهداف التي آمن بها وسعى من أجلها على صعيد المجتمع. وكم من نبيٍّ أو وليّ لم يتمكّن من إحداث فارقٍ نوعيّ في مجتمعه، لكن جاء من عقبه وأولاده من حقّق ذلك بأفضل صورة. لهذا، فإنّ دور المسلم التربويّ يبدأ قبل أي شيء من أسرته ويتمحور حولها ويكون لها الأولوية في كلّ شيء تقريبًا.
وبذلك يحقّ له أن ينتقل إلى غيرها من الأُسر والحالات الاجتماعية، بعد الإعذار إلى الله في ذلك.
إنّ المسلم يدرك بوضوح مدى تأثير سلوكه وتصرّفاته وأقواله وأفعاله على أبناء أسرته؛ ولهذا، فإنّه يبدأ بتربية نفسه وتهذيبها قبل تربية غيره. وغالبًا ما ينخرط المسلم الواعي ببرنامج مكثّف لإصلاح ذاته بمجرّد أن يلاحظ ذلك التأثير. فربما كان قبل زواجه وإنجابه شخصًا لا يشعر بذلك القدر من المسؤولية، أمّا وقد رأى تأثير فعله وقوله وحسّه في أفراد أسرته، فإنه سيتحوّل إلى شخصٍ مسؤول بكل ما للكلمة من معنى. وهكذا يعمل بكل جهد وعناية لتجنيب أسرته تلك العادات السيّئة التي فعلها في شبابه وطيشه، وبسبب ضعف شعوره تجاه الآخرين. ففي ظلّ الحياة الأسرية يكون المستفيد الأول من يشعر بأكبر قدر من المسؤولية ويتحمّلها بإخلاصٍ وتفان.. فالحياة الأسرية مصنع النضج والحكمة والوقار.
لقد ذكر العلّامة المطهري في كتاب التربية والتعليم أنّه كان يشاهد رجالًا في عمر الستين والسبعين تصدر منهم تصرّفات كتصرّفات الأطفال الصغار، لكن ذلك لم يفاجئه حين علم أنّهم كانوا معرضين عن الزواج.
لا شيء يُنجح العلاقات العائلية ويمتّن أواصرها مثل غلبة الشعور بالمسؤولية بين أفرادها تجاه بعضهم البعض. ولأنّ المسؤوليات العائلية متشعّبة ومتنوّعة، فالمتوقّع أن يجد المرء في عائلته كل ما يحتاج إليه من العاطفة والمعنويات والعلم والماديات. أجل، فالأسرة محل الاستغناء والشعور بالإشباع النفسيّ قبل المادّي. وفي ظلّ هذا الشعور ينطلق أفرادها نحو إشباع المجتمع والإحسان إليه. وما لم يشبعوا في أسرتهم، فسوف يتطلّعون إلى الخارج لتأمين ذلك؛ والله وحده يعلم ماذا ينتظرهم هناك.
إنّ الفتاة التي شبعت من عاطفة أمّها وأبيها، سوف تكون في موقع القوّة والاتّزان والثبات حين يأتي استحقاق الزواج ويتقدّم إليها من يتقدّم. بخلاف الفتاة التي تنظر إلى العريس المقبل من موقع الضعف والاضطراب العاطفيّ. وصحيح أنّه لا يحل أحد مكان أحد، فللأب دوره، وللأم دورها، وللزوج دوره، لكن المُشبع عاطفيًّا هو الأقدر على الشعور بالعاطفة الصادقة وبذلها.
لذلك، يهتم المسلم أشدّ الاهتمام بإظهار محبّته ومودّته وعطفه الجيّاش تجاه كل أفراد أسرته، وخصوصًا الضعيف منهم والمحتاج، مثلما أنّه يعمل ليل نهار لتأمين حاجاته المادية من المسكن الكريم واللباس المناسب والغذاء الصحّي.
ويمكن للأسرة الواحدة أن تتحوّل إلى مدرسة. وهذا الأمر لم يعد مستبعدًا بعد أن انتشر التعليم المنزليّ على نطاقٍ واسع في العالم، وإن لم يأتِ إلى بلادنا لحدّ الآن. وبمعزل عن تخفيض تكاليف التعليم إلى العشر، فإنّ التعليم المنزليّ يحقّق أفضل النتائج الدراسية أيضًا. وتُبيّن الإحصاءات السنوية أنّ أغلب الذين يحوزون على المراتب الأولى في الامتحانات الرسمية هم من المتعلّمين منزليًّا.
إنّ أفضل الحلول للكثير من مشاكل المجتمع الاقتصادية وغيرها، يتمثّل في تحوّل الأسرة إلى مؤسّسة مكتفية بذاتها، أو منتمية إلى تعاونية متشكّلة من مجموعة من الأسر المتكافلة. والتكافل لا ينحصر في إطار تأمين الحاجات الضروريّة كالغذاء والمسكن، بل يتعدّاها إلى الحاجات التعليمية والتربوية.
إنّ انتزاع هذا الدور التكافليّ من الأسرة وإيكاله إلى الدولة أو المنظّمة لن يكون سوى سبب آخر يعمل على إضعاف الاقتصاد العام والخاص، ويزيد من تهميش دور الأسرة نفسها على صعيد بناء الفرد؛ الأمر الذي يُعدّ ضربة كبرى للإنسان نفسه.. ولهذا، يسعى المسلم بكل قوّة إلى تعزيز مفهوم الأسرة النموذجية ونشره والدعوة إليه وحمايته ودعمه ليأمن المجتمع بوجه أعاصير الابتزاز والاستكبار والهيمنة الأجنبية الخبيثة.
فالحل كلّه يبدأ من الأسرة.
وكم هو جميل هنا أن نتأمّل في بعض التوصيات الإسلامية التي تعكس نظرة الدين الحنيف إلى الأسرة، والتي يمكن أن نتعرّف من خلالها إلى العديد من المسؤوليات والقيم المرتبطة بها.
ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أقربكم منيّ مجلسًا يومَ القيامة أحسنُكُم خُلُقًا وخيرُكُم لِأَهله".[1]
وعنه (ص): "يَا عَلِيُّ! خِدْمَةُ الْعِيَالِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ، وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَمُهُورُ حُورِ الْعِينِ، وَيَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ وَالدَّرَجَاتِ. يَا عَلِيُّ! لَا يَخْدُمُ الْعِيَالَ إِلَّا صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".[2]
وعنه (ص): "نَظَرُ الْوَالِدِ إِلَى وَلَدِهِ حُبًّا لَهُ عِبَادَةٌ".[3]
وعنه (ص): "إِذَا نَظَرَ الْوَالِدُ إِلَى وَلَدِهِ فَسَرَّهُ كَانَ لِلْوَالِدِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ نَظَرَ سِتِّينَ وَثَلَاثَمِائَةِ نَظْرَةٍ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ".[4]
وعن أبي بصير عن الإمام الصادق(ع) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا}، قُلْتُ: "كَيْفَ أَقِيهِمْ؟ قَالَ: تَأْمُرُهُمْبِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَتَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ كُنْتَ قَدْ وَقَيْتَهُمْ، وَإِنْ عَصَوْكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ".[5]
وعنه (عليه السلام):"من حَسُنَ برُّهُ بأهله، زاد الله في عمره".[6]
________________________
[1]. وسائل الشيعة، ج12، ص 153.
[2]. مستدرك الوسائل، ج13، ص 49.
[3]. مستدرك الوسائل، ج15، ص 170.
[4]. مستدرك الوسائل، ج15، ص 169.
[5]. الكافي، ج5، ص 62.
[6]. الكافي، ج8، ص 219.
اترك تعليق