مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

قصص مقاومات من زمن الاحتلال

نص من كتاب ويلات وطن للصحافي روبرت فيسك يبرز مقاومة الأهالي بشكل عام والنساء بشكل خاص للاحتلال الإسرائيلي أثناء الاجتياح

وعدنا إلى جبشيت التي أصبحت مركز المقاومة للحكم الإسرائيلي.. ولم نعد نحصي عدد زياراتنا لهذه القرية والطرقات بين مزارع الزيتون والتبغ. وهكذا كان لا بد أن تزورها ميليشيا سعد حداد التي كوّنتها إسرائيل. وتركت عناصر هذه الميليشيا ضحايا الزيارة ترقد في برك من الدماء على الطريق التي خلفها. وكان بين القتلى نساء وأطفال، وهذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مجزرة بهذا الحجم في الجنوب، وزعمت الميليشيا أن أفرادها كانوا يتصيدون "المخربين" أما أهل الضيعة فقد عبّروا عن حقدهم بقسوة لا ترحم ولا تغفر.
كانت خديجة عباس عطوي بين الضحايا، لقد نزفت حتى الموت، ودفنت في مقبرة الضيعة المعشوشبة قريباً من المكان الذي استشهدت فيه وكتبوا على قبرها ما يلي:
- هذا قبر المناضلة الطاهرة الشهيدة خديجة عباس عطوي التي سقطت وهي تجابه العدو الصهيوني لدى غزوه القرية. توفيت يوم 24 آذار/ مارس 1984.
زرنا بيت خديجة، فأرتنا أمها صورتها، كانت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها طويلة القامة، قوية البنية، تنظر بحياء نحو الكاميرا، أما والدها فقد حطمه مصابه، وكان يبكي وينتحب وأنا أجلس بجانبه، وعندما حاولت أن أواسيه، كان جوابه:
- كيف تريدني أن أشعر عندما أدخل بيتي فأجد ثلاثة من أولادي وقد أصيبوا بالرصاص وواحدة من بناتي قد قتلت؟ لقد طار صوابي.
كان هناك في جبشيت آباء وأمهات غير آل عطوي ممن فقدوا مثلهم أبناءهم وبناتهم. ولكن كان هناك أيضاً من أهل الضيعة من ملأت المجزرة قلوبهم بالحقد والعداء لمسببيها. فقد تحولت جبشيت إلى مأساة مصغرة للبنان ولما عاناه منذ بدء الاحتلال. ذهبت إلى المسجد لمقابلة الإمام الجديد الشيخ عبد الكريم عبيد(1) الذي حل محل الشيخ راغب حرب بعد أن اغتيل.
ووجدت حوله حلقة من الشبان المتقشفين، وكان يتحدث إليهم عن مجلس الأمن وعن الإسرائيليين الذي ينتظر من الجميع أن يكرهوهم. وسمعت الشيخ يقول: "كل مسلم يترك دينه يكون نصيبه الموت". ووافقه جميع من حوله، وبين فقر جبشيت وصخورها وبعد فشل الحلول السياسية، عمل الدين على تصلب الشباب واندفاعهم إلى التطرف. وكانت الحكمة تقتضي بابتعاد الإسرائيليين عن جبشيت.
اتفق الجميع، بمن فيهم الإسرائيليون، على أن أول من اقتحم الضيعة هم رجال سعد حداد، وكان أول من أصيب هو حسن فحص الذي جرح ذراعه برصاص مسلحي حداد وهو يجلس داخل منزله. وسمع محمد عطوي وشقيقتاه خديجة وفاطمة إطلاق النار وهم في منزلهم الواقع على شارع فرعي في الجهة المقابلة للحسينية. وكان الفجر قد بدأ ينبلج، خرجوا إلى الشارع لرجم الجنود الإسرائييلين بالحجارة. وقال لنا محمد عطوي إن الجنود الذين شاهدهم كانوا إسرائيليين، وأضاف:
- عندما خرجت بدأوا جميعاً بإطلاق النار في وقت واحد. وأصيبت خديجة أمامي وعندما انحنيت لأرفعها، أصبت أنا أيضاً. ولم أعرف من أين أتتني الرصاصة. وبعدها أصابوا فاطمة في بطنها وخرجت الرصاصة من ظهرها.
وحاول طبيب عسكري إسرائيلي مساعدتها. ولكن حسب ما أخبرنا به شقيقها فإنها صرخت في وجهه: "تطلقون النار ثم تأتون لمعالجتنا؟" وكان هناك خارج الضيعة حاجز مشترك للإسرائيليين وميليشيا سعد حداد. وقال لنا محمد عطوي:
- لم يسمحوا بنقل المصابين إلى خارج القرية، أبقونا ممدين على الأرض لمدة أربع ساعات، وبقيت خديجة تنزف أمام الحاجز حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر. ثم توفيت.
كانت هناء في السادسة عشرة من عمرها ذات ملامح دقيقة لطيفة. وعندما وقع الحادث كانت في فراشها بلباس النوم ومنديلها. قالت وملامحها تعبّر عما تقول:
- عندما اقتحم الإسرائيليون القرية ذهبت إلى المسجد. وفي الطريق قمت بالتقاط بعض الحجارة لكي أرميهم بها. وحينما بدأت أرميهم بالحجارة أطلق أحد الجنود النار بين رجلي، فركضت باتجاه ساحة القرية، وهناك واجهت عربة إسرائيلية، وبدأت أرمي الجنود الإسرائيليين الذين كانوا بداخلها بالحجارة. وحضر رجال ميليشيا سعد حداد، فقمت عندئذ بالهرب.. ولكن فيما كنت أركض وظهري إلى ميليشيا حداد قام أحدهم بإطلاق النار على رقبتي.
وعندما سألتها لماذا قذفت الإسرائيليين بالحجارة قالت:
- لأن الجنود جاءوا لاعتقال رجالنا، جاءوا لمحاربة الإسلام. لقد تعلمنا في المدرسة وفي المسجد أنه يتوجب علينا محاربة الإسرائيليين. كتبنا المدرسية تعلمنا أن إسرائيل هي عدوتنا وأن واجبنا هو مجابهتها. وهنا قاطعتها أمها التي قذفت الاسرائيليين أيضاً بالحجارة وقالت:
- إيماننا هو سلاحنا، إذا كان على بناتي أن يمتن في سبيل الإسلام فليكن.
واستشهد آخرون غيرهم في ذلك اليوم بينهم أم لعشرة أطفال اسمها صبحية علي أخضر خرجت من بيتها تحمل بصلاً في حجرها، إذ تعلّم أهل الجنوب أنه إذا وضع عصير البصل حول العيون فأنه يخفف من تأثير الغاز المسيل للدموع. أصيبت صبحية في قلبها، ويبدو أن أحد أفراد ميليشيا حداد قد ظن أنها تحمل قنبلة. كما استشهد الحاج حسن حرب وهو عم الشهيد راغب حرب. وهرب من القرية في ذلك الصباح اثنا عشر شاباً ينتمون إلى المقاومة.
وفي قرية معركة اعتقل الاسرائيليون مئة شاب. فرفع الأهالي علماً أخضر فوق ساحة القرية كتب عليه:
- إن الاعتقال والتعذيب لا يزيدنا إلا إصراراً، ثم أطلق الإسرائيليون 40 من معتقلي أنصار "بمناسبة عيد الفطر السعيد" على حد قول الحاكم العسكري الإسرائيلي في النبطية، لقد كان هناك نوع من الانحراف في هذا التصرف الإسرائيلي: القهر والنضال وكأن نضال الشعوب مهزلة.

الهامش:
1. خطفت القوات الإسرائيلية عبد الكريم عبيد في تموز/ يوليو 1989. وأدى خطفه إلى قتل الرهينة الأميركية الكولونيل وليم هيجنز والتهديد بقتل أسير آخر.

المصدر: فيسك، روبرت: ويلات وطن [صراعات الشرق الأوسط وحروب لبنان]، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان – بيروت، ط19، 2010م.

التعليقات (0)

اترك تعليق