اذهبا وانسجما وتعايشا مع الوضع الموجود أو الطارئ
المرونة والتكيّف:
في حرارة الحب الأول تكشف الاختلافات عن نفسها، كل من الفتى والفتاة منشدٌّ إلى صاحبه وغارق في بحر أحلامه الوردية. كل منهما يرى في شريكه الآمال والأهداف القديمة، وكأنه ينظر إلى نفسه في مرآة الحبيب، لكن سرعان ما تفقد هذه الوحدة المثالية ويفقد هذا التوافق الغرامي بريقه في مواجهة واقع الحياة واختلاف شخصية الشريك، ويوماً بعد آخر يبرز اختلاف الأذواق والرؤى، انعدام الخبرة واللامبالاة في التعامل الصحيح مع واقع الحياة من قبل الأزواج الشباب يمكن أن يعرضها إلى تحديات كثيرة قد تؤدي تبعاتها أحياناً إلى عدم ارتياحهما وتألمها لسنين طويلة. لكن شبابنا الأعزاء وبالتنازل عن الحالة المثالية والقبول بشخصية شريكهم الحقيقية بكل اختلافاتها، وبتقوية الفهم المتبادل، بإمكانهم أن يحكموا بنيان حياتهم المشتركة يوماً بعد آخر بعون الله. وإرشادات استاذنا الحكيم متاع آخر لطريق الحياة المتعرج، انسجموا مع بعضكم!
الإمام (قدس سره): اذهبا وانسجا:
ذهبت ذات مرة إلى السيد الإمام (قدس سره)، وكان يريد أن يعقد لزوجين فما أن رآني حتى قال: تعال وكن طرف العقد –وخلافا لما كنت أقوم به من الإطالة والتفصيل والحديث، فإنّه كان يقرأ الصيغة أولاً ثمّ يتحدث باختصار، ولاحظت أنّه وبعد أن ذكر صيغة العقد اتجه إلى الفتى والفتاة وقال لهما: (اذهبا وانسجما) وقد فكرت ولاحظت أننا مع كل ما نقول إلّا أنّ كلام الإمام كان مختصراً بهذه العبارة: اذهبا وانسجما(1).
ماذا يعني الانسجام؟
ليكن سعيكم في جميع مراحل حياتكم –خصوصاً السنين الأربع أو الخمس الأول- هو أن تنسجموا فيما بينكم، لا أن تكونوا بحيث أنه وبمجرد أن يصدر من أحدكم شيء يدل على عدم الانسجام، يقابله الآخر بالمثل أيضاً. كلّا!
أظهرا الانسجام سويّةً، وإذا رأيتم من شريككم عدم الانسجام أظهروا أنتم الانسجام، فهذا من المواطن التي تحسُن فيها المساومة والتنازل(2).
ما معنى الانسجام؟ هل معناه أن ترى المرأة أنّ هذا الرجل هو مطلوبها المثالي لكي تنسجم معه؟ أو أن يرى الرجل أنّ هذه المرأة هي مطلوبه المثالي وهي قمة الطموح لكي ينسجم معها؟ وإذا وجد شيء من الاعوجاج ولو بمقدار ذرّة هنا أو هناك فهذا ما لا يمكن قبوله، هل هذا معنى الانسجام؟
كلّا! لأنه إذا كان الأمر كذلك فالانسجام يحصل بصورة طبيعية ولا حاجة لإرادة أيّ منكم، فعندما يقال: إنّ عليكم أن تنسجموا، فهذا يعني أن تتعايشوا مع الوضع الموجود أو الطارئ، هذا هو معنى الانسجام، أي: أنّ أموراً قد تطرأ في الحياة؛ إذ إنّ الزوجين اللذين لم يكن أحدهما على معرفة بالآخر، أو قد يكونان من ثقافتين مختلفتين أو تكون عاداتهما مختلفة، فمن الممكن أن يشعرا في البداية بشيء من عدم الانسجام.. ليس الآن وفي بداية الزواج حيث لا يشعر أحدهما بشيء.. وإنما بعد مضي بعض الوقت، حيث يمكن أن يحسوا بشيء من عدم الانسجام.
فهل ينبغي حينئذٍ أن يتقاعسا عن بعضهما ويقول الرجل أو تقول المرأة: إنّ الآخر لم يعد يناسبني؟!
كلّا..! يجب عليكم أن تكيّفوا أنفسكم مع هذا الأمر، فإذا كان الوضع قابلاً للإصلاح فأصلحوه، وإذا رأيتم أنه لا يمكن إصلاحه فلا بد من التكيّف معه(3).
التوافق في البيئة العائلية من الواجبات، فلا ينبغي للرجل والمرأة أن يعتقد بأنّ ما قالاه لا بد أن يتحقق، لا يكون الأمر كذلك، بل لا بد أن يكون البناء على الانسجام بينهم، وهذا الانسجام ضروري، فإذا لاحظتم أنّ مطلوبكم لا يتحقق إلّا بالتنازل فتنازلوا(4).
الانسجام في الحياة أساس بقائها، وهو الذي يخلق المحبة، ويجلب البركات الإلهية، وهو الذي يقرب القلوب إلى بعضها ويقوي العلائق(5).
تعبير أوروبيٌّ جيد:
أساس قضية الزواج هو عبارة عن التفاهم والأنس والاتحاد في الحياة بين موجودين، وهذا في الأصل أمر طبيعي، لكنّ الإسلام وبما وضعه للزواج من قواعد وآداب وأحكام، فقد منحه ديمومة وبركة. "على الزوج والزوجة أن يدرك أحدهما الآخر ويفهمه" هذا تعبير أوروبي، لكنّه تعبير جيد، أي أن يدرك كل منهما آلام الطرف الآخر واحتياجاته، ويتسامح معه، وهذا ما يسمى (بالإدراك) وبتعبير آخر أن يكون هناك درك وفهم متقابل في الحياة، وهذا ممّا يزيد المحبة(6).
لا يوجد إنسان بلا عيب!
إذا شاهدتم عيباً ما في شريككم –ولا يوجد إنسان لا عيب فيه- وكان لا بد من تحمله –فتحملوه لأنه في نفس الوقت يتحمل عيباً من عيوبكم- فالإنسان لا يعرف عيوبه، بل يعرف عيوب الآخرين ولذلك فلا بد من البناء على التحمّل. فإذا كان قابلاً للإصلاح أصلحوه وإلّا فتكيفوا معه(7).
أسباب تفكك كيان الأسرة:
لقد اتخذ الإسلام تدابير في داخل الأسرة، بحيث تحل الخلافات الداخلية بشكل تلقائي، فقد أمر الرجل أن يراعي بعض الشيء وأمر المرأة كذلك أن تراعي هي الأخرى، وإذا حصلت هذه المراعاة فإنّه وبمجموعها سوف لن تتفكك أية أسرة أو تزول، فتفكُّك الأسر إنما يحصل في الغالب بسبب عدم المراعاة، فالرجل الذي لا يعرف كيف يراعي والمرأة التي لا تتصرف بعقل، والرجل الذي يستخدم العنف والحدة المفرطة فيما لا تطيق المرأة ذلك، هذا كله خطأ، حدّة الرجل خطأ وعناد المرأة خطأ أيضاً، فإذا لم يكن الرجل حاداً وأخطأ ذات مرة فعلى المرأة أن لا تعاند. عليهما أن يراعيا ويتآلفا مع بعضهما، عندها سوف لن تتفكّك أية أسرة وستبقى إلى الأبد(8).
الانسجام المتبادل:
قديماً كان يقال: إنّ المرأة هي التي يجب أن تنسجم، فكأنّهم لم يعترفوا بأيِّ دور للرجل في عملية الانسجام.. كلّا! الإسلام لا يقول بذلك، الإسلام يقول: إنّ على الولد والبنت كليهما أن ينسجما، كلاهما يجب أن يتوافقا. وأن يصمِّما على إدارة حياتهم العائلية بطريقة صحيحة وكاملة وهادئة، ومصحوبة بالمحبة والعشق المتبادل، وأن يداوموا على ذلك ويحفظوه، فإذا توفّر ذلك إن شاء الله –وتوفره ليس بالأمر الصعب في ظل التربية الإسلامية- ستكون تلك الأسرة هي الأسرة السليمة كما يراها الإسلام(9).
الهوامش:
1- خطبة العقد المؤرخة 20/4/1370هـ.ش.
2- خطبة العقد المؤرخة 31/4/1376هـ.ش.
3- خطبة العقد المؤرخة 16/1/1379هـ.ش.
4- خطبة العقد المؤرخة 9/4/1378هـ.ش.
5- خطبة العقد المؤرخة 19/11/1377هـ.ش.
6- خطبة العقد المؤرخة 31/6/1371هـ.ش.
7- خطبة العقد المؤرخة 9/4/1378هـ.ش.
8- خطبة العقد المؤرخة 20/11/1375هـ.ش.
9- خطبة العقد المؤرخة 11/5/1374هـ.ش.
المصدر: إنطلاقة المودة (282 نصيحة للزوجين) من إرشادات سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)، ترجمة ونشر: دار الولاية للثقافة والإعلام. ط2، ترجمة: آل دهر الجزائري، ص89-93.
اترك تعليق