النسوية وفلسفة العلم
الإبستمولوجيا* النسوية:
بداية نلاحظ أن الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) قبل أن تكون معقل فلسفة العلوم (نظرية المعرفة العلمية)، هي أحد الفروع الثلاثة الأساسية للفلسفة (المعرفة، الوجود، القيمة). والإبستمولوجيا النسوية تبحث هي الأخرى الأسئلة الإبستمولوجيا الأساسية، أي شروط المعرفة ومصادرها ومعاييرها ومنهاجها، وموقف العارف في العملية المعرفية، وتضيف إليها تأثير الجنوسة أو دورها في عملية المعرفة.
كان من الضروري أن تعنى النسوية بتحليل المعرفية الخاصة بالنساء، وبتفسير أعمق بدورهن المتقلص في ماضي المعرفة الإنسانية والإمكانات التي يحملنها، فأصبحت الإبستمولوجيا محوراً من محاور النسوية الجديدة. لم تعد محض موضوع منطقي تخصصي، بل أصبحت استراتيجية شاملة لتحقيق الأهداف العينية، التأسيس النظري للمعرفة أداة فعالة في يد النسوية تتكامل مع ممارساتها في تحليل أسباب وبنيات وآليات القهر الاجتماعي للمرأة وتهميش دورها، وتوحّد من دعاوى مشروع التحرير. لقد اكتسبت الإبستمولوجيا النسوية أهمية متزايدة في أطروحاتهن.
وتتميز الإبستمولوجيا النسوية بدور محوري لمقولة الذاتية التي تلعب دائماً دوراً في النسوية، منذ كتاب ماري ولستونكرفت التي أشارت إلى أن الذاتية ذريعة الرجل لحجب المرأة عن الحياة العامة، والحياة السياسية.
وتستفيد الفلسفة النسوية الجديدة من تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة، من حيث أنّ لها الدور المحوري في عملية المعرفة، لكن أساساً بوصفها موقعا لاستقبال المعنى وليس مصدراً له(1). واستفادت من إعادة طرح هذا المفهوم وتقنينه في الفلسفات المعاصرة مع هيدجر والفينومينولوجيا والبنيوية والتفكيكية.. عن طريق المناهج التفكيكية، عملت النسوية على تفكيك الدور الحقيقي للذاتية ـالذكورية بالطبع- كامنة في فصل ديكارت للوعي العقلاني عن الجسد؛ ليرتبط الأول بالذكر والثاني بالأنثى. يمكن أن نجد مثل هذا أيضاً في ميتافيزيقا أرسطو. هكذا تحاول النسوية الكشف عن أن الموضوعية الغربية كانت مزيفة إلى حد ما. وإذا نظرنا إلى الذاتية في توظيفها السياسي، في عقر دارها، أي النزعة الفردية، نجد مفهوم الجنوسة قادراً على أن يلقي ضوءاً على هذا الزيف الذي يجعل الطرح التقليدي للذاتية قد جرى توظيفه من أجل دمقرطة حقوق الرجل(2).
ميزت النسوية بين الذاتية كمفهوم أنطولوجي** وبينها كمفهوم إبتسمولوجي، خصوصاً في الإبستمولوجيا التجريبية، حيث طورها البعض أمثال هيوم في دورها الإبستمولوجي، وتجاهل تماما دلالتها الأنطولوجية التي تعنى بها النسوية الجديدة كثيرا، في سياق تأكيد التمايز بين الذات المذكرة والذات المؤنثة. وبهذا تنتهي إلى أن الموقف المعرفي لذات الأنثى ليس تماماً الموقف المعرفي لذات الذكر.
من هنا كان أحد المعالم البارزة للفلسفة النسوية ميلاد الإبستمولوجيا النسوية الصريحة مع مقال نشرته لورين كود L. Code في مجلة ما وراء الفلسفة (العدد 12، يوليو- اكتوبر 1981م)، تطرح فيه السؤال: هل جنس العارف مهم من الناحية الإبستمولوجية؟ الإجابة التقليدية هي النفي القاطع، لكن كود تتقدم بإجابة نسوية مختلفة تماماً تملك حيثياتها ومبرراتها. ثم أكدت كود أن العارف مسؤول عما يعرفه، وأهم ما تختلف فيه الخبر المعرفة للمرأة هو ربط المعرفة بالأخلاق.
المعرفة طريق إلى اتخاذ القرار: ماذا سنفعل؟ وبالتالي بحثت الأبعاد الأخلاقية للموقف الإبستمولوجي والمسؤولية الإبستمولوجية، تستفيد من الكانطية في رؤية المعرفة كعملية فعالة تقوم على اكتساب الخبرة وتشييدها. على أن العملية المعرفية من المنظور النسوي تؤدي إلى الحرية والمسؤولية والفضائل المتصلة بالإخلاص والتواضع والشجاعة. الأفكار النمطية عن الرجل والمرأة تعوق هذه العملية الإيجابية لأنها تصب المرأة في قالب ينكر عليها المسؤولية الفعالة(3)، وحين الانتقال إلى الإبستمولوجيا العلمية، سوف يتمثل هذا في عناية الميثودولوجيا النسوية بالقيم وأخلاقيات العلم.
فجرت كود ثورة تأججت بكتاب الفليسوفة الأسترالية جنفييف للويد G.Lloyd)1941- ؟) «رجل العقل: الذكر والأنثى في الفلسفة الغربية ـ 1984م". [...]
أبانت جنفييف للويد كيف قام مفهوم العقل على أساس مناقضة كل ما هو نسوي والقيم والتوجهات الأنثوية. بدأ هذا من جدول المتقابلات الفيثاغورية المطروح في كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، فكانت الذكورة والأنوثة واحدة من عشر متقابلات لكن تنضوي تحت لوائها كل المتقابلات الأخرى. لقد عملت الفلسفة منذ عصرها الإغريقي على البحث عن مبدأ ميتافيزيقي يفصل الذكورة الإيجابية عن الأنوثة السلبية. تصب الفلسفة النسوية جام نقدها على مفهوم الفلسفة الغربية التقليدي الذي جعل العاطفة سلبا؛ النسويات يسلمن ويؤكدن أن المرأة أكثر عاطفية من الرجل، لكن هذا هو مكمن قوتها وخصوبة أطروحاتها. يقدمن تصورا جديداً للعقل ينقد التصور الديكارتي، يقدمن عقلاً يلعب فيه الشعور دوراً اكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نتائج الفهم. إنه يتوشج في العملية المعرفية من رأسها إلى أخمص قدميها.
تأثير أنوثة العالمات على إنجازاتهن العلميّة:
ينطبق هذا على الإبستمولوجيا العلمية، فاهتمت النسوية بتأثير أنوثة العالمات على إنجازاتهن العلمية. أبرز مثال هو بربارة ماك كلينتوك الحاصلة على جائزة نوبل لأبحاثها في جينات نبات الذرة، وخرج كتاب إيفلين فوكس كيلر نها ليبرز ذلك، وكيف أنها كانت تشعر بأن الكروموسومات أصدقاء لها. حللت كيلر مفهوم الموضوعية السائد، وكيف يشكل لغة العلم وأسلوب التعبيرات العلمية. لكنها لم تكن تبحث عن إبستمولوجيا علمية نسوية، بل عن إبستمولوجيا علمية متحررة من الجنوسة ومن انفراد الذكورية بالميدان. توقفت عند تأكيد ماك كلينتوك على «الإنصات» لما تقوله الطبيعة، ورأت فيه منهجية حوارية تقوم على ارتباط شعوري عميق بموضوع البحث، لا يرتبط بجنس الملاحظ. بيد أن التحيز الذكوري السائد في العلم هو الذي اصطنع قسمة جائرة بين العمل العاطفي والعمل العقلي، سميت جورا وبهتانا بالموضوعية العلمية. هكذا تكشف كيلر عن التحيزات الذكورية للعلم التي تفسده وتشوه طبيعته وتعرقل خطاه التي ينبغي ان تتسارع أكثر وأكثر(5). نذكر أيضاً هيلاري روز H.Rose1935)-؟) وهي عالمة اجتماع نسوية عنيت بخصائص دور المرأة في إنتاج المعرفة العلمية، وعلى هذا الأساس بحثت مفهوم الموضوعية والعقلانية في النظرية والممارسة العلميتين، ودأبت بين العالمات والأديبات، حرصا من النسوية العلمية على استلهام بعض خصائص الأدب تخليصا للعلم من جفافه، وتخلصا من الفوارق القاطعة بين المناشط العقلية وسائر التصنيفات القاطعة، وذلك في كتابها "الحب والقوة والمعرفة: نحو انقلابة نسوية في العلم ـ 1994م".
ولا يغيبن عن البال أن العلم الطبيعي قد انهار فيه المطلق النيوتوني، وتخلت فلسفة العلم تماماً عن الموضوعية المطلقة المستقلة عن أي ذات عارفة، التي اقترنت بالعلم في مرحلته الكلاسيكية واستمرت حتى العام 1900م، مع القرن العشرين، الذي شهدت مطالعة ثورة النسبية والكوانتم، ظهرت الإبستمولوجيا العلمية المحدثة وقد اتخذت الموضوعية فيها صورة البين- ذاتية Inter-subjectivity، الموضوعي هو المشترك بين الذوات العارفة، ولا انفصال عنها أو استبعاد تام لها وكأنها محض مراقب سلبي يراقب العالم من وراء ستار. ومع مبدأ اللا تعين لهيزنبرج عاد موقع الذات العارفة كمتغير أساسي في معادلة الطبيعة. لقد تبخرت تماماً الموضوعية المطلقة وعادت الذات العارفة بسرعتها وأدواتها وموقعها للرصد، لتحتل وضعها في منظومة المعرفة العلمية(6).
استمسكت النسوية بهذا الخيط، وأولت مقولة الذاتية دورها في الإبستمولوجيا العلمية النسوية، مستفيدة أيضاً من كواين الذي رأى أن يترك"الموضوع" للعلم، وتعنى الإبستمولوجيا أساساً بالموقع الفريد «للذات» في عملية المعرفة. وتخطو خطوة أبعد بحكم منزعها الواقعي السوسيولوجي، فتؤكد ساندرا هاردنج ـببحثها الدائم عن تطوير مفهوم الموضوعية العلمية وليس البتة الإطاحة به- أنه مثلما تتوشج المعرفة التجريبية بكل مقاييسها ومستوياتها بمفهوم الذات، فإن جنس الذات يقوم بدور محوري في المستويات التطبيقية للمعرفة العلمية، فهو هكذا في شركات السجائر أو في المعهد القومي للصحة أو في مراكز أبحاث التكنولوجيا الحيوية. بعبارة أخرى، الذات توجد في العلم على المستوى المعرفي النظري وعلى المستوى التطبيقي الواقعي وعلى المستوى الاجتماعي السوسيولوجي تماماً، كما أن الموضوع في العلم يوجد على هذه المستويات الثلاثة جميعاً.
ولما كانت الإبستمولوجيا تعنى أساساً بالمستوى المعرفي النظري، فإن المرمى الأساسي للإبستمولوجيا العلمية النسوية هو اجتثاث فلول تصور نيوتون الحتمي المكانيكي للكون الذي ساد العلم الكلاسيكي حتى مطالع القرن العشرين، وتسرف في نقد أساسه الوضعي البائد للواقع الموضوعي المستقل المنفصل عن الملاحظ الذي يجري اكتشافه وتكميمه، تأكيداً لقطع دابر أي عناصر قيمية أو ذاتية. النسوية أكثر من سواها حماساً لاستيعاب الإبستمولوجيا التي تخلقت في القرن العشرين، إبستمولوجيا الكوانتم والنسبية اللاحتمية، ودلالات مبدأ اللاتعين ونظرية الشواش Chaos والجبر اللاخطي والمنطق الغائم. Fuzzy Logic بهذا التمثل لمستجدات الساحة العلمية تعمل الإبستمولوجيا العلمية النسوية على الخروج من الفيزياء كبراديم [نموذج قياسي إرشادي] للعلم بأسره. وبصرف النظر عن النسوية، نلاحظ أن هذا بدأ يفرض نفسه في القرن الواحد والعشرين، وتسود بدائل أخرى كبراديم للمعرفة العلمية، تدور حول منظومة ثلاثية متحاورة من البيولوجيا والشفرة الوراثية ثم علم اللغة العام وتكنولوجيا المعلومات.
الميثودولوجيا*** النسوية:
وإذ تؤكد الإبستمولوجيا النسوية الذاتية، تأتي الميثودولوجيا النسوية للتحدث ـ كما فعلت ليندا جين شيفرد ـ عن بحث يدفعه الحب وبدلا من تنحية الذات بعيداً عن العلم يمكن استغلال الذات كأداة للفهم و«يغدو كل من التفكير والشعور، الموضوع والذات حليفين في عملية تعقب المعرفة»(7).
وتتحدث ميثودولوجيات نسويات متطرفات أمثال ليز ستانلي L. Stanly وسو وايز S.Wise عن مناهج للعلم تتيح إبراز الخبرة الشخصية للنساء، وذلك بألا يخضعن لأي تحيزات وضعية سابقة.
إن العالم ليس مجرد عقل يلاحظ ويفكر ويدين تباشران التجريب، مثلما تصوره الميثودولوجيا المعهودة التي تقوم على أساس أن عماد المنهج العلمي شقان هما الفرض والملاحظة، أو النظرية والتجربة، أو العقل والحواس.. اليد والدماغ. العالم أكثر ثراء من الإنسان العادي، وهو يدخل المختبر بمجامع نفسه. الميثودولوجيا التقليدية تركز على العقل والحواس، وقد تضيف الخيال والحدس. لكن ماذا عن الشعور والإحساس والعاطفة والوجد والانفعال والتذوق والاستمتاع والمعايشة والعلاقات مع الزملاء ومع المؤسسة العلمية...؟ النسوية ترى أن يؤخذ كل هذا أيضاً في الاعتبار إذا رمنا تفسيراً متكاملاً للمنهج العلمي.
تتفق الميثودولوجيا النسوية على تعددية المناهج العلمية المأخوذة من بول فييرآبند، وفقاً للسياقات وموضوع البحث وأيضاً الباحثين. وبشكل عام تحبذ الميثودولوجيا النسوية النظرية المحدثة للمنهج العلمي التي ترى أسبقية الفرض على الملاحظة، وبالتالي خلق الفرض العلمي خلقاً أو إبداعه إبداعاً وليس مجرد تعميم الوقائع المستقرأة من الواقع الموضوعي. لكنها تتحدث عن طريق مختلف يقوم على الإنصات إلى الطبيعة كصديق يحكي لك عن نفسه كزهرة تتفتح أمامك. ومع الإنصات والتلقي، يغدو العلم حواراً مع الطبيعة بدلاً من أن يكون محكمة تفتيش(8).
وإذا عدنا إلى دأب النسوية المبدئي على تقويض كل تراتب هرمي، وجدنا الميثودولوجيا النسوية أميل إلى تقدير الملاحظة بدلاً من اعتبارها أدنى من التجربة، وبالتالي يدافعن عن دور سيبقى دائماً في المنظومة العلمية للعلوم الوصفية، بدلاً من الهجوم عليها بوصفها أدنى قيمة من العلوم التفسيرية أو البحتة.
وإذا كان سؤال الميثودولوجيا التقليدي عن الإجراءات التي نتبعها لاكتساب المعرفة العلمية، فإن الميثودولوجيا النسوية، تغوص في أعماق هذه الإجراءات على مستوى الممارسة العلمية الفعلية الحية التي يركزن عليها تركيزاً شديداً. يكشفن عن التحيز الذكوري الشائع في الممارسات العلمية بوصفه معايير مطلقة، يبدو في جزئيات وبسائط قد لا تتبدى للنظرة العابرة، من قبيل تصميم مشروع البحث ليصل إلى نتائج تؤكد الهيمنة الذكورية، أو قصر عينات البحث في الظواهر الإيجابية على الذكورة، وفي الظواهر السلبية يتجه البحث أساساً إلى الإناث، فضلاً عن الغبن الذي تعرض له المرأة العالمة. وعلى الرغم من أن دورها أصبح بارزاً في العلوم البيولوجية وأيضاً الحاسب الآلي، فإن المناصب الرفيعة والتوجه العام مازالت محكومة بالذكورية. والرجال يملكون المناصب وسلطة تخطيط الأبحاث وإجازة المنح الدراسية.. الخ، وإذ تكشف الميثودولوجيا النسوية عن هذا، فإنها لا تهدف فقط إلى إنصاف المرأة، بل إلى تغيير أعمق في استراتيجيات البحث العلمي تمهيداً لتغيير الفلسفة الكامنة خلفها. الميثودولوجيا لديهن ليست قواعد منهجية بقدر ما هي واقع حي: واقع الممارسات العلمية التي تحدث داخل جدران المختبرات، التنظيمات الاجتماعية للعلم وأسلوب توزيع السلطة في المجتمع العلمي، المنح والجوائز والمناصب العلمية، والعلاقات بين الباحثين.. على اعتبار أن كل هذا في نهاية الأمر يسهم في تشكيل النظرية العلمية.
هكذا ينفسح المجال لمعالجة تبرز قيمة مقولة، وهي السياقية Contextualism الأساسية في فلسفة العلم النسوية، التي تعني أن «أي تفسير أو تأويل أو معرفة إنما يحدث دائماً داخل إطار معين أو سياق معين، مما يرتبط بالنسبوية ورفض المطلقية. هذا ما تراه النسوية مع سائر قرائنها من فلسفات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية»(9)، والسياقية ترتبط بمقولة أخرى أيضاً أساسية لديهن وهي المنظورية Perspectivism، أي أن المعرفة لا تكون إلا في إطار سياق معين ومن منظور معين. وهذا بدوره قد يحمل شيئاً من المغالاة، لكن لا يفترق كثيراً عن الاتجاه المعاصر في المثودولوجيا العلمية بشكل عام التي باتت تنكر أن تكون المعرفة وصفاً دقيقاً للعالم، وتنكر إمكان وجود نظرة عامة شاملة إلى الواقع، تفصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة تماما، بحيث يمكن دائماً إعادة المعرفة والتحقق منها بصرف النظر عن موقع الذات العارفة وسرعاتها وأدواتها للرصد.. كما كانت تزعم النظرة الميكانيكية الحتمية، وأكدتها الاستقرائية قبل ثورة النسبية والكوانتم في القرن العشرين.
طريقة خاصة في البحث العلمي:
إنهن يبحثن عن الكيفيات والخصائص والحالات الفردية والوقائع المتعينة، لإعادة الاعتبار إلى المناهج الكيفية حتى لا ينفرد المنهج التكميمي والمعدلات الإحصائية بالميدان. يبحثن أيضاً عن العلاقات بين الباحثين التي تقوم على رفض السلطة والتراتب الهرمي، سواء بين العلماء أو بين المؤسسات العلمية أو بين فروع العلم، ينزعن إلى نسائج من التفاعلات وتعاون بين الباحثين يقوم على الاحترام المتبادل والعمل في انسجام، بدلاً من التنافس المحموم. وفي هذا يعلين من قيمة التزامل Collaboration واستراتيجيات الأبحاث المصممة بحيث يشترك فيها أكثر من باحث، إن التزامل يشجع التشارك في اتخاذ القرار، ويخلق مجتمعاً متعاوناً بلا تراتب هرمي، كما يرمن دائماً(10). والنظرة إلى العلم من أعلى يمكن أن يحل محلها نظرة إلى العلم من أسفل. وفي مقابل العجلة وسرعة الانجاز وأسبقية الكشف والنشر، يدعو بعضهم إلى قيمة أنثوية حميمة هي التعهد والرعاية والمقاربة طويلة المدى التي تكشف عما لا يكشف عنه عشرات البحوث العجلى. ومن إيجابياتهن اللافتة أيضاً عنايتهن بأساليب تدريس العلوم وكيفية جعل العلم جذاباً للطلبة وللطالبات خصوصا(11)، واجتذاب الهواة، وإدخال العلم في نسيج الثقافة العامة، فلا يكون كهنوتا مقتصرا على الصفوة.
ضرورة ارتباط الميثودولوجيا بالقيمة:
هكذا تحمل الميثودولوجيا النسوية نظرة تطبيعية Naturalistic تربطها بوقائع الحياة اليومية وخبراتها العامة، على أن ارتباطها الأعظم بالقيمة. يستخدمن حجة كواين القائلة إن الملاحظات محملة بالنظرية، والنظرية محملة بالنموذج الإرشادي، والنموذج الإرشادي محمل بالثقافة السائدة، وبالتالي لا يمكن أن يكون ثمة شيء من قبيل الوقائع الطبيعية المتحررة من القيم(12).
ولئن كانت لورين كود هي التي شقت طريق الإبستمولوجيا النسوية أصلا، فقد رأينا كيف عقدت الصلة بينها وبين الأخلاق، دافعت هيلاري روز باسم النسوية عن فكرة العلم المسؤول، وبحثت آن زيلر عن إبستمولوجيا أكثر ديموقراطية، حيث المسؤولية تجاه الآخرين والعلاقة مع الآخرين، ليست مجرد فرع من فروع الفلسفة، بل أساس من أسسها المنهجية(13). وذهبت ساندرا هاردنج إلى ما هو أبعد من العلم المسؤول، إلا أن القيم الاجتماعية لابد أن تساهم في صياغة المشاكل العلمية والإبستمولوجية، لأن العلم يستغل لتحقيق أهداف اجتماعية، وأن «التحرر من القيم لا يجعل العلم موضوعيا أبدا، بل كلما كان العلم محملا بالقيم، كان أكثر موضوعية»(14). وبالتالي صادرت على أن أهم أهداف فلسفة العلم النسوية إثبات أن كل معرفة علمية وكل ممارسة علمية هي محملة بالقيم، وإنهاء الصورة الرديئة للعلم المجرد من القيم.
من هنا قيل: إن الدور العظيم للميثودولوجيا النسوية يتمثل في عقد الصلة بين فلسفة العلم وفلسفة الأخلاق، والقضاء على الانفصال البائن الذي كان بينهما من قبل خصوصاً في عهود الوضعية.
منذ البداية صادرنا على أن النسوية واقع وفكر وأنها نظرية وتطبيقية. وتكشف الميثودولوجيا النسوية، المعنية بواقع الممارسات وقيمها، عن أنها فلسفة تطبيقية. ظهر مصطلح الفلسفة التطبيقية متزامنا من الموجه النسوية الثانية في الستينات، ليتعامل مع الأخلاق الفعلية الممارسة في واقع الحياة اليومية والمشكلات الاجتماعية العينية التي جرى العرف الفلسفي الأكاديمي على تجاوزها. وامتدت لتشمل أخلاقيات رجال المال والأعمال والعلاقات بين الدول، ومتى تكون الحروب مشروعة ومتى تكون جريمة، وارتبطت بقضايا حقوق الإنسان والعنصرية وحقوق الضعفاء والمعاقين وحقوق الحيوان والبيئة. ومع ثورة العلوم البيولوجية والقضايا الشائكة المرتبطة بتطبيقاتها على الأجنة ونقل الأعضاء وما إليه، امتدت الفلسفة التطبيقية إلى الأخلاقيات البيولوجية، ومن قبل ومن بعد «أخلاقيات العلم»(15). وعلى هذا تبدو فلسفة العلم النسوية فلسفة تطبيقية على الأصالة، على أن أهم تطبيقات فلسفة العلم النسوية انما هو في الاشتباك العميق مع مشكلة البيئة.
الهوامش:
(1) سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي: 494-495.
(2) Joanna Hodge, Body and the Exclusion of Women from Philosophy, in: Feminist Perspectives in Philosophy ,Pp152-168.
(3) Lorraine Code, Experience, Knowledge and Responsibility, in: Feminist Perspectives in Philosophy, Pp187-203.
وقارن في المرجع نفسه:
Brenda almond, Women's Right: Reflections on ethic and Gender, P. 42et. Seq.
حيث التأكيد على ازدواجية القيم المطروحة منذ الحضارات القديمة، وتبث فيه النسوية الحياة مجدداً لتكشف عن أن الحاسة الخلقية للرجل أقرب إلى أتباع القوانين والشرائع، بينما هي عند المرأة أقرب إلى الاستجابة الجمالية، إنها تركز على العيني بدلاً من المجرد والمسؤولية بدلاً من الحقوق والواجبات. في الجزء (11- النسوية الراديكالية) أشرنا نحن إلى مثل هذا فيما يختص بعلم النفس الارتقائي.
(4) Morwenna Griffiths & Margaret Whitford (eds.), Feminist Perspectives in Philosophy, P. 6.
(5) Keller, Evelyn Fox, A Feeling For the Organism: The Life and Work of Barbara McClintock. San Francisco: W. H. Freeman, 1983.
Keller, Evelyn Fox, Cender and Science, in: Discovering Reality: Feminist Perspective on Epistemology. Metaphysics. Methodology. And Philosophy of Science, op. Cit., Pp 187-205.
(6) انظر في تفصيل هذا: د. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، طبعة ثانية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000م، خصوصا: «إبستمولوجيا: العلم لاحتمي»: 422-466.
(7) ليندا جين شيفرد، أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية، ترجمة: د. يمنى طريف الخولي: 139.
(8) المرجع نفسه: 118 وما بعدها.
(9) Lorraine Code (ed.), Encyclopedia of Feminist Theories, P. 105.
(10) في تفصيل قيمة التزامل الميثودولوجيا النسوية ، انظر:
S. Reinharz, Feminist Methods in Social Research, Oxford University Press, 1992.
(11) See for example: Sue V. Rosser, Female – Friendly Science: Applying Women's Studies, Methods and Theories to Attract Students. New York: Pergmon Press, 1990.
(12) Sandra Harding, The Science Question in Feminism, p. 102.
(13) Anne Seller, Realism Versus Relativism, in : Feminist Perspectives in Philosophy, Pp 169 et seq.
(14) Sandra Harding, The Science Question in Feminism, p 27..
(15) انظر: كديفيد ب.رزنيك، أخلاقيات العلم، ترجمة د. عبد النور عبد المنعم، مراجعة د. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يونيو 2005.
المصدر: الحضارية –معهد الأبحاث والتنمية الحضارية.
د. يمنى طريف الخولي أستاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث -كلية الآداب- جامعة القاهرةـ جمهورية مصر العربية.
..................................................................................................
* الابستمولوجيا: المعنى المعاصر لمصطلح ابستمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية (الموسوعة العربيةarab-ency.com).
** الميثودولوجيا: هو العلم الذي يدرس المناهج البحثية المستخدمة في كل فرع من فروع العلوم المختلفة، لذلك يعتبر فرعاً من فروع الابستمولوجيا (Wikipedia).
*** الأنطولوجيا أو علم الوجود، أحد مباحث الفلسفة، وهو العلم الذي يدرس الوجود بذاته، الوجود بما هو موجود مستقلاً عن أشكاله الخاصة. (الموسوعة العربية arab-ency.com).
(محرر الموقع، بتصرف).
اترك تعليق