مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خصائص المنهج الإسلامي للأسرة

خصائص المنهج الإسلامي للأسرة

اهتم الاسلام بالأسرة أيّما اهتمام. إذ وضع لها نظاماً وفقها"، وأدباً‌ شاملاً‌ ومتكاملاً‌، يعالج جميع جوانبها النفسية، والسلوكية، والاجتماعية، وكذا رفدها بمنهج حياة يتلائم وجميع خصوصيتها، وطموحاتها، ‌وآلامها، وآمالها، مستقصياً‌ بذلك الحلول اللازمة والطرق الوقائية المفيدة لحفظها و استقرارها.
من هنا فقد انفرد هذا النظام «نظام الأسرة في الإسلام» بمزايا وخصائص جوهرية ثابتة، ميّزته عن سائر الأنظمة والمناهج المادية والبشرية الأخری، ورفعته فوقها درجة، ومن هذه الخصائص:
أولا: الصبغة الدينية:
وهي أبرز مايتصف به المنهج الإسلامي في مجال الأسرة وانعكاس هذه الصبغة علي جميع جوانب الأسرة، وآفاقها، وعلاقاتها، وأفرادها، وأدوارهم، ومسؤولياتهم، «صِبغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً فتكاد تكون المسحة الإلهية، السائدة في كل شيء، ابتداءاً‌ ومنذالانطلاقة الأولی لتكوّن الأسرة وهو الزواج، طرح المنهج الإسلامي ضرورة التماثل الديني بين الزوجين والسنخية في الاعتقاد والرؤی والأفكار، فحرّم على الرجل الإقتران بالمشركة حتی و لو كانت جميلة، وحرّم كذلك علی المرأة الزواج من المشرك حتى ولو كان مستكملاً‌ لكل شرائط الزوج المناسب: «وَلاتَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَو أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا المُشْركِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلى الجَنَّةِ وَالمَغْفرَةِ بِإِذْنِهِ2» ثم يبّن النموذج القرآني الصحيح للاقتران الذي محوره الطيب والإيمان فقال سبحانه وتعالی في كتابه الكريم «الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات3»، وبعد الاقتران جعل العلاقات بين الزوجين متسمة بسيماء الحب والرحمة والسكن والمودة «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة4»
وهكذا نجد الصفة الربانية ماثلة في كل مرفق من مرافق الحياة الأسرية سواءاً ‌فيما بين الزوجين وفي كل أخذ و عطاء بينهما، أو فيما بعد مع الأبناء، و تعاهد التربية الربانية لهم منذ تكوّن نطفة الواحد منهم، وحتی كونه جنيناً، ثم وليداً‌، ثم طفلاً، و حتی يكبر، فقد وضع الإسلام الدساتير اللازمة لكل مرحلة من هذه المراحل، وعهد إلی الأبوين الالتزام بها لضمان سلامة النشئ الجديد واقتداره. وهذه الدقة في الرعاية والشمولية في التربية مما لم تستطع أن تبلغه أعظم اللوائح الأخلاقية التي وضعتها أيدي البشر لتنظيم حياة الفرد والمجتمع «هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه» فإنها كل يوم تأفل في جانب فتنسخ حكمه، وتقدم جانباً ‌أخر وترفع حكمه.
وهذا ليس بغريب وبعيد علی المنهج المادي الذي هو ترجمة العقول البشرية الناقصة التي لا يمكنها الانسلاخ عن طبيعتها المادية القاصرة، هذا فضلاً عن أنّ هذا المنهج هو انعكاس لمصالح و أهواء المشرّعين له.
ثانياً: الإذعان و الطاعة:
إنّ هذا المنهج هو موضع قبول و إذعان لدى جميع أفراد الأسرة، فهو مما لايمكن تخطئته أو الاعتراض عليه لانه صادر من خالق البشر و العالم بخفيات صدورهم ومكنونات أمورهم والخبير بما يصلحهم ويرفع شأنهم.
ثالثاً: الجانب الفطري:
إنه يتلائم و يتماشى مع الفطرة الإنسانية والنوازع الذاتية لكل فرد وفي أي موقع كان، وذلك لأن المنهج الإسلامي مصدره الوحي السماوي والعلم الإلهي المحيط بكل دقائق النفس الإنسانية ولوازمها وما يقيم اَودها ويروي ظمئها، فالبارئ العليم هو الذي أعطى كل شيء في هذا الكون خلقه ثم هداه إلى طريقة بقائه وتكامله «وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدی» وجهزه بكل ما يحتاج للوصول به إلى طريق فلاحه ونجاحه بأن وضع له الشرائع وأقام له البینات والدلائل والحجج، ولا يمكن لغير الخالق العليم بما تحتاجه النفوس أن يضع قانوناً أو يشرع نظاماً‌ لمحدودية كل من سواه وقصور علمه عن الإحاطة بكل ما يكتنف الكائن البشري من مؤثرات وروابط فردية واجتماعية «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَی الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهْدّي إِلا أَنْ يُهْدَی5»
وقد اعترف فقهاء القانون بضعف وقصور قوانينهم الوضعية، و باحتياجهم في كل يوم إلى تبديلها و إلغاء بعض موادها أو إضافة أخری عليها، وهذا في الواقع دليلاً واضحاً‌ علی عدم قدرة الإنسان علی الإحاطة بكل مجريات الأمور، وفوائدها أو أضرارها، رغم تقدم العلوم وازدياد الوعي، وتوفر الامكانیات العلمية والتكنولوجية.
فما تُقدم عليه القوانين الوضعية اليوم من تجريد المرأة من أنوثتها وإخراجها من وظيفتها الأساسية في بناء الأجيال، وتربية الأفراد، وإدارة الأسرة، وإضعاف الأسرة وروابطها المقدسة، فهو في الحقيقة مخالفة صريحة لقانون الفطرة وانحراف بعيد عنها، وما تجرّه البشرية اليوم من ويلات الانحطاط و التقهقر العائلي، وتفتت الروابط، وضياع القيم، هو نتيجة بينه للابتعاد عن القانون الإلهي الذي يلائم كل ما تقتضيه الفطرة و النفس الإنسانية.
رابعاً‌: الاخلاق الفاضلة:
تعتبر الأخلاق من الدعائم الأساسية في المنهج الإسلامي للأسرة، وتعتبر الركيزة الأساسية لكل العلاقات والروابط القائمة بين أفراد الأسرة، أضف إلى أنها الإطار العام الحاكم في كل الوظائف والمسؤليات التي يقوم بها كل فرد في الأسرة. بينما نجد المجتمع المادي، القائم على أساس المنهجية الوضعیّة، يكاد يهمل المسائل الأخلاقية ولا يعيرها أي اهتمام إلا إذا أضر فقدانها بصورة مباشرة بمصالح الأفراد أو أخل بالأمن والنظام العام.
ولا يخفى على بصير أنّ انعدام الأخلاق يعني انطلاق الغرائز و إباحة الجنس وما يترتب على ذلك من نتائج مؤسفة ليست تهدف فقط إلى تحطيم الأسرة وضياعها فحسب بل إلى تهديم المجتمع وضياع قيمه.
لهذا ركزّت الشريعة الإسلامية علی القيم الأخلاقية في داخل الأسرة بشكل أكيد وجعلتها الأساس الذي تنطلق منه جميع الأمور والواجبات فيها. من هنا يعتبر المنهج الأسري الإسلامي الدخول في عش الزوجية مثلاً نقطة الانطلاق نحو اكتساب الأخلاق الاجتماعية و السير نحو التكامل الذي لم يكن الإنسان يجد لذته قبل الزواج، وعلی هذا جاء قول معلم الإنسانية و هاديها محمد (ص): "زوّجوا إياماكم فإن الله يحسن لهم في أخلاقهم"6 .
خامساً‌: التقوی:
توفّر المنهج الإسلامي علی عنصر التقوی، يشكل الضمان الأكيد لحياة أسرية سليمة، تعتمد الصدق، والأمانة، وحسن الخلق، والمودة، والرحمة بشكل فطري- ذاتي، خوفاً‌ من العقاب أو رغبةً‌ في الثواب،‌حيث يعتبر الوازع الديني هو الدافع والعامل المؤثر في سلامة علاقاتها وخلوها من الأزمات والمشاكل. بينما يفتقد المنهج المادي للعامل الديني مما أدی ذلك إلی تمزق الرباط الأسري ورباط جميع العلاقات الأخلاقية القائمة علی أساس الدين.
وقد أشار علماء النفس والتربية في الدول الغربية إلی الأضرار الكبيرة الناجمة عن فقدان الوازع الديني في الأسر الغربية، بل وفقدان ذلك في كل العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع بعضهم إلی البعض الآخر،‌ فنری في حديث أحد المتخصصين وهو الدكتور (امبروسن كنح) الطبيب الاستشاري فی مستشفی لندن لبحوث الأمراض السارية بين الشباب البريطاني، فيقول: إنّ أكثرية الشعب في بريطانيا لاتؤمن بدين، وإن الأسباب في المشكلة الاجتماعية، هي رفض الأوضاع والمستويات التي تفكر الهيئات الدينية في الاحتفاظ بها، وأضاف: إنّ الذين نصّبوا أنفسهم رواداً للفكر العلماني أخفقوا في إعطاء البديل عن الأسس الدينية المحافظة على الأسرة7
بلی! إن الانحراف عن قيم السماء والفطرة واستبدالها بالقاءات النفوس المريضة وبدع أصحاب القلوب الخبيثة، لا يمكن أن يُجنی منها أكثر من هذه النتائج المرة والواقع المتهرئ الذي بلغته الأسرة في الغرب. والأشد من هذا هو المحاولات الشيطانية التي يسعی اليها هؤلاء الضالون في نقل و انعكاس هذه السموم بين شبابنا و اُسرنا، وقد استطاعوا إلى حد ما من التأثير على ذلك، وبدأنا نقطف ثمار هذه البذور الخبيثة من حالات الضياع، والتشتت الأسري، وفقدان القيم.
«شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلی بعض زخرف القول غرورا»8
بينما نجد توصيات القرآن الكريم بشأن التقوی بشكل كبير، وبضرورة تشييد كل بناء من مؤسسة، أو مشروع، أو جمعية، أو عمل صغير وكبير علی أساس من التقوی. باعتبار أن التقوی هي الضامن لشموخ هذا البناء و ارتفاعه على أساس ثابت غيرمتزلزل.
فيوجه أنظار أتباعه إلى مقارنة جداً دقيقة هي الرمز في كل اعتلاء وبلوغ أو هبوط وأفول. «أفمن أسس بنيانه علی تقوی من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه علی شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم 9»
فهل يستوي البناء الذي شيد علی أساس التقوی مع البناء الذي افتقد هذا الأساس الرصين و الركن الوثيق، ليكون معرّضاً في كل آن للانهيار والتلاشي والوقوع، وأي وقوع هذا، فليس هو وقوع عادي فحسب بل وقوع في لظی الأهواء والشهوات والنفس الأمارة التي هي أصل الجحيم ودرك السعير وبما أنّ الأسرة هي أعظم بناء بُني في الإسلام وأحبه إلى الله، فيجب أن تقام أركانها علی أساس التقوی ليضمن بذلك بقائها وحفظها وسلامتها من المشاكل والخلافات والأخطار التي يمكن أن تُعرّضها للتزلزل والانهيار10 هذا مع أن للتقوی آثاراً شاملة وكثيرة تحيط بكل جانب وكل صفة لدی الإنسان وذلك لأن التقوی ليست صفة واحده تختص بجانب أخلاقي معين و إنما هي صبغة تغطي كل عمل وتدخل في كل صفة، ووردت آيات قرآنية كثيرة في هذا المجال تحث علی التزود منها وأن التفاضل بين الأفراد بقدر اختصاصهم بها منها قوله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإنّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»11
وقوله أيضاً: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ12» و آيات قرآنية كثيرة لسنا بصدد التطرق إليها وبحثها يكون في مجال آخر ولكننا تعرضنا إلى التقوی بقدر ارتباطها بموضوع الأسرة هنا.
سادساً: الوصول إلى التكامل:
الهدف الذي يجمع جميع أفراد العائلة ويوحّد روابطهم ويستقطب قلوبهم وأحاسيسهم هو الوصول إلى التكامل والرضوان الإلهي، فلربما وراء الاجتماع الأسري الكثير من الفوائد المادية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن المعاني الروحية التي تكتمن في الأسرة والأهداف الربانية التي تتحقق من خلالها هي فوق تلك الدوافع المادية، والتي بواسطتها يعرج الإنسان إلى الملكوت وأعلى عليين. مثلاً البيت الذي ضم علياً أمير المؤمنين وفاطمة سيدة نساء العالمين و أبنائهما الأربعة (ع)، كان بيتاً بسيطا ً‌في إمكاناته المادية ولكنه كان عظيماً‌ في العلائق الروحية التي كانت تظلل أرجائه وتجمع أفراده وفي الأهداف العليا التي كانت مد نظرهم، فلهذا تسامی هذا البيت نحو الخلود و رفع الله ذكره في الدنيا و الآخره وأشرق لأهل الأرض بأفضل وأطهر سلاله عرفها التاريخ تحمّل كل فرد فيها صناعة جانباً‌ من التاريخ الإسلامي الكبير، سواءاً‌ في ذلك الدور الذي قام به الإمام الحسن المجتبى(ع)، أو النهضة الكبيرة التي اضطلع بها الامام الحسين(ع)، أم رسالة الدم ونشرها و جهاد الكلمة التي حفظت بها زينب و أم كلثوم تراث الحسين وكربلاء لكل الاجيال. «فِيْ بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلوة وإيتاء الزکاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب و الأبصار13»
وكذا المثال القرآني الآخر الذي تتطرق إليه الآية 35 من سورة الأحزاب حيث تتعرض إلی الخصائص الأخلاقية والمناقب العالية المشتركه بين الرجل والمرأة «إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَادِقِينَ وَالصَادِقَاتِ وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَائِمِينَ وَالصَائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً‌ وَأَجْراً‌ عَظِيما14»
والتي يتواصی للاتصاف بها الزوجين فيما بينهما، فيسعی كل منهما بحكم الميثاق الروحي الوثيق الذي يربطهما إلى العمل بكل ما جاء في هذا الميثاق والاتصاف بصفات أهله والعاملين به كما جاء في الحديث في مصداق قوله تعالی و الذاكرين الله تعالی كثيراً والذاكرات. إن المرأة لتقوم لصلاة الله فتوقظ زوجها أيضاً للوقوف بين يدي الله سبحانه، ومشاركتها له في هذه المنقبة.
 


--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- سورة
البقرة، الآية: 138
2- سورة البقرة، الآية: 221
3- سورة النور، الآية: 26.
4- سورة الروم، الآية: 21.
5- سورة يونس، الآية: 35.
6- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 103، ص122
7- المدرسي، سيد هادي، كيف تسعد الحياه الزوجيه، ص192
8- سورة الأنعام، الآية: 112.
9- سورة التوبة، الآية: 109.
10- مظاهري،حسين، أخلاق در خانه.
11- سورة البقرة، الآية: 197.
12- سورة الحجرات، الآية: 13.
13- سورة النور، الآية: 36-37.
14- سورة الأحزاب، الآية: 35.
 
مصدر: مجلة الطاهرة- بتول صادق

التعليقات (0)

اترك تعليق