مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الاسرة بيت النور الالهي

الاسرة بيت النور الالهي: هي السور الذي يحمي القيم

الدين الاسلامي الحنيف منظومة متكاملة من القيم المثلى التي اوحى الله سبحانه وتعالى بها الى البشرية، لتسعد في الدنيا وتفلح في الآخرة. فهي تتكامل وتتسامى عبر هذه القيم، ولكن هذه القيم لابد لها من ظرف يستوعبها ومن إطار يصونها ومن سور يحافظ عليها، ومن دون ذلك يكون من الصعب أو المستحيل تصور ديمومة هذه القيم او بقائها. فالبيت لايمكن تصوره من دون سور او سقف يحافظ عليه.

فياترى؛ ماهو سور القيم وقواعده؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال، أودّ الاشارة هنا الى جملة من تلكم القيم؛ فأقول:
 اولاً: ان توحيد الله وعدم الشرك به، وضرورة ان تكون للانسان حرمة وكرامة، وفريضة التطلع الدائم للانسان نحو السمو والتقدم، وان يعيش المرء مع الآخرين ويتعاون معهم ضمن اُطر مشتركة.. هذه وامثالها تعدّ في مقدمة القيم المثلى التي نتحدث عنها في مقامنا هذا، حيث تكوّن بمجموعها نظاماً مثالياً، الهدف منه صيانة الانسان وتحصينه دون الوقوع في الخطأ، واتجاهه نحو الانحراف ومن ثم الابتعاد عن خالقه عز وجل.

أما الحديث عمّا يحافظ على القيم وعمّا يمنحها مزيداً من المصداقية والاستمرارية؛ فأقول: إن أوّل عوامل المحافظة هو بيت الانسان وعائلته، ومحيطه الاسري والتربوي. فمن يتنامى في المحيط العائلي الطيب، يكون قد أحرز أول عوامل الصيانة لقيمه دون الانهيار. في حين إنّ من يعيش بلا بيت وبلا أسرة او يرفض الانتماء الى الأب او الى الأم او إلى كليهما معاً، سيكون من الصعب عليه وعلى الآخرين تصور كيفية محافظته على مبادئه المثلى، إن لم نقل إنه سيكون عديم المبادئ والقيم، إلاّ من رحم ربك. فكيف سيمكنه ان يفهم القيم، وأين سيتعلم قيمة التعاون، واين سيعي قيمة العمل المشترك، وأين سيفهم مبدا احترام الكبير والشفقة على الصغير، واين سيتعلم أنّ عليه أن يكون إنساناً حضارياً ضمن مدنية يكون للآخرين حقوقهم وأدوارهم، ترى اين سيتعلم هذه القيم؟!


سورة النور والأهمية الكبيرة لدور العائلة والبيت
إنما يمكن تعلم وإدراك المثل العليا من خلال الأسرة والجو العائلي الحميد. وعلى هذا الاساس نجد القرآن الكريم قد أولى اهمية عظمى لدور العائلة والبيت في نشأة الانسان وتكوينه التربوي، وقد خصّ الله سبحانه وتعالى لهذا الشأن سورة كاملة، أطلق عليها اسم سورة النور. هذا الاسم المبارك والعجيب من بين مختلف اسماء السور القرآنية الأخرى، التي تتفاوت واسم هذه السور تفاوتاً ملحوظاً، تبعاً لما يعلمه الله تبارك وتعالى من دور مميز للعائلة في صياغة الشخصية الانسانية ودفعها نحو السمو والتكامل، وهو الغرض الذي يعتبر بحق الهدف الأول لهبوط الوحي وبعث الرسل والانبياء.

ولماّ كان البيت وكانت العائلة العنصر الاساس في المجتمع وفي بلورة الشخصية الانسانية، كان لابد من احاطته بقانون او مجموعة صارمة من القوانين تحول دون انهياره وتفتته. ولذلك فقد جاء في مطلع هذه السورة القرآنية المباركة قانوناً يقضي بانزال العقوبة الشديدةبحق الزاني والزانية الذي يعتبر فعلهما رمزاً قبيحاً لتشتت الأسرة. فكان قانون الجلد، ثم قانون الرجم الذي نصّت عليه السنّة النبوية المفسرة للقانون الأول تبعاً، حيث يشهد المؤمنون تنفيذ عقوبة الجلد، أو يشاركون عملياً في انزال عقوبة الرجم، حيث يضيع دم المرجوم بينهم جميعاً. والعلّة في ذلك، ان هذا الانسان قد تجاوز وانتهك اعظم الحرمات، وهي حرمة البيت والأسرة.

لقد وصف ربنا سبحانه وتعالى البيت الذي تنمو فيه القيم المثلى، كقيم الصلاة والزكاة والإخلاص لوجهه الكريم، يصفه كأنّه المشكاة، حيث يتجلى فيه نور العبادة والعلم والحكمة، فيقول تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيِّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ» (النور/35-36).

إنّ النموذج الأسمى لهذه البيوت المليئة بالنور والهدى الإلهي المبارك، هو بيت الرسالة؛ بيت نبينا محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين. فهذا البيت هو المصباح، وهو المشكاة، وهو مركز النور الالهي في الكون. وإنما كان كذلك، لأن فيه كان التسبيح لله بالغدوّ والآصال، وكان فيه «رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ» (النور/37).

وإذا كان الشرك دناءة ورجس ودنس في الانسان، فان ما يقابله هو طهارة الايمان، والايمان لايكون إلاّ بالتسبيح.

إن القرآن الكريم لا يعبر بالقول، إنّ رجال الله لا تجارة لهم ولا بيع، وإنّهم يعكفون في الكهوف للعبادة، وإنما يقول بالحرف الواحد: «رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ ...». فهم رجال في عمق الواقع وصميم المجتمع وتيار الاقتصاد، ولكنّ وجودهم هذا لايلهيهم عن أن يكونوا مؤمنين.

فهم إذن رجال اثبتوا جدارتهم وشخصيتهم المثلى في أن يمتلكوا المال ويزاولوا التجارة دون ان يمتلكهم المال او تسيّرهم العمليات التجارية. وهم حتى في لحظة الربح والأخذ والعطاء يجعلون الله نصب اعينهم، فلا يغشون ولا يخادعون الناس ولا يغفلون عن ذكر الله، بل وفوق ذلك وأسمى انهم يعتبرون الصدق في المعاملة وسيلة الى التقرّب نحو الله، وخطوة عملية في قاعدة ذكر الله الدائم. هذا فضلاً عن كونهم لايغفلون عن العبادة، ولا يتكاسلون عنها إذا ما حلّ بهم وقت الصلاة، فلكل أمر وقته. مما يوحي أن هؤلاء الرجال يمتازون بالوعي الثاقب ونظم الامور، وبالتالي فهم شخصيات حضارية لا تزيلهم الزلازل عن مواقعهم التي رسمها الله لهم. وهؤلاء الرجال لما كانوا عديمي التأثر بغرور الدنيا عبر الضروريات فيها - وهي التجارة والبيع وكسب المال- فإنه من الطبيعي جداً تصور كونهم عديمي التأثر بتوافه الأمور الدنيوية كالغناء والافلام سيئة الصيت والتلفزيون والصحافة المبتذلة والاهتمام بمدح هذا أو ذم ذاك عبر وسائل الإعلام الشيطانية. فهذه إنما موقعها موقع الكماليات في حركة الحياة.

والقرآن يبين السبب في ذلك كله، فيقول: «يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ». فترى جسد أحدهم في الاسواق او في العمل السياسي او الاجتماعي، لكنّ قلبه وهدفه متعلقان بغاية أسمى وأنبل من ذلك بكثير، ألا وهي القيامة، حيث يومذاك تتقلب فيه القلوب والأبصار. التقلّب الذي يعني الانقلاب والعودة الى الحقيقة، فكم من امرئ فاسد كان قد خدع الآخرين وخدع نفسه فأظهر الورع والصلاح وكسب من ذلك ما كسب في الدنيا، وكم من امرئ كان يرتكب من السيئات ما يرتكب وهو يحسب انه يحسن صنعـاً.. غير أن الانقلاب والعودة الى الحقيقة، ثم الكشف عن السرائر موعده في يوم القيامة. ورجال الله المؤمنين إنما يهجرون السيئات خوفاً من يوم الاعلان الأكبر عن الضمائر وما أخفته الصدور، فهم لايخادعون الله، وانما يخادعون الشيطان، ويصبرون على ارتكاب السيئات والاخطاء والجرائم تحسّباً من ذلك اليوم العظيم.

إنّ رجال الله لم يصبحوا على ما هم عليه إلاّ بعد ان كانت تربيتهم تربية سليمة؛ بمعنى أنّ آباءهم وأمهاتهم قد وفّروا لهم مستلزمات الوعي السليم للاتجاه الديني والايماني. فكلّما كانت الاسرة أقرب الى هدى الوحي والى تعاليم أهل البيت عليهم السلام، كلّما كانت مركزاً ومحوراً لنور الله تبارك وتعالى. وكلّما ابتعدت عن تعاليم الوحي، كلّما طمست في أوحال الجاهلية. ودرجة القرب او الابتعاد المشار اليهما، بمثابة عنوان ضمان صلاح او فساد الأطفال في المستقبل.

وإزاء ذلك؛ فلينظر الأب ولتنظر الأم الى من يكلان اولادهما، هل يكلانهم لصانعي افلام الصور المتحركة والأفلام المستهجنة وما يقف خلفها من نوايـا وثقافـة شريرة غايتهـا الأولى والأخيرة تحطيم النفوس والارواح والحضارات؟

من هنا لابد لنا من وقفة مع أنفسنا، لنفكر ثم نقرر ماذا نريد لجيلنا الجديد ونشئنا القادم، ولنتعرف الى مسؤوليتنا تجاهه. وقبل هذا وذاك ينبغي ان نضع نصب اعيننا القدوة الحسنة والنموذج السيئ، ثم نختار لأولادنا ما أمرنا الله ان نختار. فهذا بيت فاطمة الزهراء سلام الله عليها الذي ضربه الله لنا مثلاً بالنور والكرامة، وذاك بيت أبي سفيان الذي وصفه الله بالشجرة الخبيثة وضربه لنا مثلاً بالدناءة والفساد.. فلننظر ما نختار.

فإذا رأيتم رجالاً يمارسون الغيبة والتهمة، مصابين بالكسل والتخلف ولا يفكرون بالدنيا ولا بالآخرة.. فعليكم ان تبحثوا عن الجذور، فانكم ستجدونها في بيوتهم حتماً. وإذا رأيتم رجالاً متعافي النفوس، طيبي القلب، حسني السيرة والصورة.. فابحثوا ايضاً عن الجذور، فستجدونها في بيوتهم طبعاً.


إن الاسرة تمثل الخندق الاساسي والأخير فيما يخص موضوع الاهتمام الصالح والتربية السليمة للاولاد. فمعظم وسائل التربية كالمدارس والصحافة اليوم تدار ضمن خطط تسيل من ادمغة واضيعها الشهوة والانحراف والتضليل. وإذا كنّا نعجز عن ادارة بيوتنا، فعلينا التأكد بأن كل شيء ماثل الى الانهيار.

ولقد كنت اتحدث في مجلس ضمّ حوالي ثلاث مائة من النساء في مكة المكرمة مؤخّراً، وقلت لهن بوضوح وصراحة: إن مسؤولية المرأة (الأم) في مجتمعنا المعاصر أهم وأخطر بدرجات من مسؤولية العلماء والخطباء والشخصيات الاجتماعية الاخرى. وذلك لأن حكوماتنا الظالمة وما يقف خلفها من دفع غربيّ جاهلي لم تبقِ لنا شيء. فالخطط والممارسات الجهنّمية والشيطانية قد احتلت واستولت على كل شيء، ولكن بقيت لنا الأسرة، وهي الآن تعزم على مصادرتها منّا.

فإذا كانت المحطات التلفزيونية المدارية تلتقط ثلاثين شبكة مثلاً، فهي في الغد ستلتقط ثلاث مائة شبكة. وإذا كنّا نرى وجود شبكة الانترنت في بعض البيوت، فسوف نراها في الغد قد غزت جميع البيوت. في ذلك سيبقـى الشيء الوحيد المتبقي هو نظام الأسرة الصالح الذي من الممكن تطبيقـه بعد المحافظة عليه، فكيف يتمّ إنجاز ذلك؟


مـأخــذ :
http://www.islamwomen.org/
نقلا عن كتاب : عن المرأة  تاليف آيت الله مدرسي

التعليقات (0)

اترك تعليق