مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الروابط الاجتماعية بين التعاقــد و التراحـــم

الروابط الاجتماعية بين التعاقــد و التراحـــم: ومن الصعب صبغ مجتمع بأكمله بأنه تراحمي أو تعاقدي


 الرابطة الاجتماعية هي العلاقة التي تربط افراد المجتمع وتشكل منطقه وفلسفته وهي تختلف في طبيعتها من مجتمع لآخر، وكانت محل اختلاف الفلاسفة والمدارس الفكرية والانساق الايديولوجية المختلفة من حيث تكييفها في الواقع وتصورها في المثال المنشود، كما اختلفت تلك الرابطة في الشرائع المختلفة بحسب رسالة كل أمة ومنهج كل كتاب بحسب العصر وطبيعة القوم ومحيطهم الحضاري.
والتراحم يعني وجود أبعاد غير مادية في العلاقات بين الافراد وتكون علاقات البشر ذات طبيعة إنسانية لا تتأسس على المنفعة الشخصية وحدها، ومن ثم فهي ليست علاقات عقلانية مجردة أو تعاقدية نفعية محضة، بل هي علاقات عضوية مركبة، ويبقى التراحم ينظم مجموعة من المفاهيم الاخلاقية كالترابط والتعاون والايثار.
وقد شكلت الاشكال الحضارية الاقتصادية التي سادت في مجتمع ما قبل الصناعة والرأسمالية أرضية وقف عليها علماء الاجتماع الألمان، فطرحوا انطلاقا منها بديلا للعلاقات التعاقدية التي تهيمن على المجتمعات الرأسمالية، وميزوا بين التعاقد والتراحم ووصفوا المجتمع الحديث بانه تعاقدي وشاع هذا بعد قول روسو ببناء الدولة على نظرية "العقد الاجتماعي".
وفي الانثربولوجيا توصف المجتمعات التقليدية بانها تراحمية، في حين توصف المجتمعات الحديثة بأنها تعاقدية. وهذا شائع في المجتمعات الغربية وغير شائع عند علماء الاجتماع والانثروبولوجيين في الاوساط العربية.

التراحم والتعاقد معيار التمييز
يرى المفكر المصري عبد الوهاب المسيري أن مفهومي التعاقد والتراحم معيار التمييز بين المجتمعات والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، وأن التمييز بينهما الذي صاغه المفكر الالماني تونيز ثم طوره ماكس فيبر، تميز دال في فهم المنطق الاجتماعي للأمة الأسلامية والأمم الأخرى خاصة الأفريقية والشرق آسيوية التي لا تعتبر التعاقدية أساس الجماعية وتنزل الروابط الاسرية والقبلية والدين منزلة مهمة، بغض النظر عن نمط الانتاج الاقتصادي الذي تتبناه. ولابد من التمييز بين مفهومين للتراحم، فالانثربولوجيا حين تصف المجتمعات التقليدية بالتراحم تعني ان الروابط فيها تعتمد على تقاليد القرابة والإنتماء للجماعة في ظلّ الأسرة والعائلة والقبلية بينما يشكل التعاقد الفردي في الدولة الحديثة الأصل في العلاقات.
مفهوم حضاري:
التصقت التراحمية بالتقليدية فيما التصقت التعاقدية بالحداثة، وهذا من شأنه أن يهمش دور الدين أو أن يعتبره ثانويا فهو يصف كل المجتمعات التقليدية بأنها تراحمية، ولمفهوم التراحم في الاسلام ظلال واسعة، تخرجه عن حدود المفهوم الانثربولوجي الضيق وتميزه عن النموذج التراحمي في المجتمعات التقليدية غير الاسلامية -مع العلم أنّ لباقي الاديان السماوية أثرها في مفهوم التراحم- حيث ينظم مجموعة المفاهيم الاسلامية الاخلاقية "بر الوالدين، صلة الارحام، الاحسان، الاخوة الايمانية، الحب في الله، الصدقة...".
 وهي، في الوقت نفسه، مفاهيم اجتماعية تعكس منطق العلاقات والقيم وتنبني عليها أحكام شرعية وقانونية، فمفهوم التراحم في الاسلام يتأسس على سنن الاجتماع الانساني والفطرة والاخلاق، وهو مفهوم اجتماعي سياسي يحترم التعاقدية في تنظيم بعض جوانب هذه العلاقات، ويُفضَّل النظر اليها من اقتراب تنظيم الحقوق وحفظها لا من اقتراب مادي وضعي، فلا يؤسس عليه فلسفة الحقوق ذاتها، بل يرتكز على وحي هاد وقدوة نبوية راشدة، تجربتها تمثل نموذجا لامتزاج الاخلاقي بالاجتماعي في تناغم تأسست عليه حضارة فريدة.
والرؤية التراحمية ترى المجتمع باعتباره تركيبا مركبا تتسم عناصره بالتجانس والتنوع، مع الاعتراف بالتعددية، والاختلاف، والعلاقات بين الأفراد، علاقات مركبة متشابكة لا يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانوني واضح وإن تم احترام مساحات القانون، والانسان هنا كائن إجتماعي مركب فتعدد الابعاد انسان- انسان وليس انسان- طبيعة، ومن ثم فالانسان يسبق الطبيعي المادي ويتقدم عليه.

الحداثة وما سواها
ليس التنافر والتعارض المعرفي والنسقي، بين الحداثة والتقليد كما تتحدث أدبيات ما يسميه أصحابه بـ"التنوير"، بل هو في الحقيقة بين رؤية صلبة مادية وأخرى عضوية تراحمية. فالصراع بين التعاقد والتراحم يتجلى في المساحة الاجتماعية، ولهذا نرى أنّ الانجازات العلمية والتكنولوجية أحدثت ولا تزال تغيرات اجتماعية، لا يتم ترشيد مسارها بدعوى التجريب، والنسبية الاجتماعية والاخلاقية؛ فتكون النتيجة أن ينحسر سلطان الدين والتقاليد والقوانين الأخلاقية لتحل محلها مشاعر الفردية، الأنانية، التناحر في طلب المنفعة.
فمع كل ثورة يحققها العقل في مجال التكنولوجيا، لابد من حدوث تعديلات ملائمة ومحسوبة في الاجتماع، والسياسة، والثقافة لضمان جدوى التغير التكنولوجي ونفعه، وبحيث تتقدم البشرية على قدمين، فلا تحقق المكسب المادي وتخسر المكسب الانساني، فتصبح انجازاتها التاريخية عرجاء مفقوصة.
 والرؤية المادية تتجلى في عالمنا المعاصر في الحياة اليومية من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم والحياة الاجتماعية، وتحول العديد من العلاقات عن مسارها الى "التسلّع" بحيث يصبح كل شيء له مقابل وخاضعا للتبادل النفعي، وهذا أدّى في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية الى شيوع التركيز على عملية الاستهلاك والعلاقة بين المنتج والمستهلك، لأنّ الانسان يوصف بأنّه كائن استهلاكي، كما أدّى الى انتاج استهلاك المكان من خلال صناعة الخدمات مثل السياحة.
وليس غريبا أنّ مصطلح”التسلّع “ ينتمي الى منظومة واحدة مع التعاقد كتجليات للرؤية المادية، وهي بالرغم من الفروق الدقيقة بينها تلتقي في نظرتها الى العلاقات الاجتماعية. فقد أدّت الثورة الصناعية لأن تصبح الحياة الاجتماعية مرتبطة بالعمل والانتاج والمؤسسات الاقتصادية أكثر منها بنمط حياة الأسرة والانتماء لجماعة اجتماعية، أي النظر الى الفرد باعتباره جزءا من عملية الانتاج، لا عضوا في مجتمع مركب الدوائر وهو ما أدّى الى اغترابه نتيجة عزله عن محيطه الاجتماعي.
ومن الصعب صبغ مجتمع بأكمله بأنه تراحمي أو تعاقدي، لكن يمكن بدرجة كبيرة الحديث عن نموذج حاكم في المجتمع، وبقدر دخوله في الحداثة وتبني أفراده لمفرداتها يكون تعاقديا وبالعكس.

لهذا لا يمكننا القول أن مجتمعاتنا العربية مجتمعات تراحمية خالصة بسبب اختراقات الحداثة والدخول ولو بقدر بسيط الى عالم السوق،  كما لا يمكن القول أن التعاقد سرى فيها كلها أو في كل فئاتها فهو يكثر في دائرة دون أخرى، وقد يكثر في مجال معين دون آخر، وهكذا، فهو ما زال يحتفظ بخاصيات دينية وثقافية تمكنه من الممانعة ضد التحديث رغم الاختراقات وما زال الانسان يقاوم المادية هنا، وفي كل المجتمعات، باشكال وصور متنوعة تنوع الثقافات ذاتها، ومثال ذلك التحولات التي طرأت على الأسرة العربية وانشطار الأسرة الممتدة الى مجموعة من الاسر النووية لاتزال تبحث في مفهومها الانثربولوجي. ومع ذلك بقيت الأسرة كبنية محتفظة بعلاقاتها وروابطها، والبعض برهن أنّ هذه التحولات التكوينية للاسرة في الجزيرة العربية لبداية السبعينيات، مع دخول الاقطار الخليجية مرحلة ارتفاع اسعار النفط وتحقيق فوائض عالية وقيام الصناعة، وهي بدايات تحديث المجتمع الذي طاول شكل الأسرة وأحدث بعض الاختراقات على مستوى العلاقات لكن لم يسجل تبدلاً في منظومة القيم تجاه العلاقة بين الأبوين والأولاد على الأقل، فلا تزال القيم الدينية حاكمة على مستوى الأسر النووية، وإن كنا نجد أن الانشطار الذي أصاب الاسرة الممتدة أضعف من قوة العلاقات خارج الاسرة النووية، بالمقارنة مع الماضي فضلا عن متغيرات الحياة وتعقيداتها المتزايدة، وضغط إيقاعها اليومي المتسارع.
وهنا لابد من تسجيل ملاحظة الضبط الاجتماعي -”من خلال علاقات العائلة الممتدة والجيرة والحي حيث الكل يشعر بالمسؤولية الاجتماعية والاخلاقية تجاه أولاد الحي“- الذي كانت تتمتع به المجتمعات التقليدية الخالصة ولكن هذا لم يكن بسبب انشطار الأسر الممتدة فقط،  بل بفعل تحول الدولة من ناحية وتعدد مصادر التربية والتثقيف (سلبا وايجابا) الرسمية، وغيرها  من وسائل تشكيل الوعي كالاعلام والفضائيات والشبكة العنكبوتية.
وكان الدكتور أحمد ابو زيد عالم الاجتماع المصري قد توقع نشأة نسق جديد من القيم في القرن الحادي والعشرين، ومن ضمن هذا النسق أنه سوف تزداد داخل المجتمع الواحد النزعات الفردية على حساب الشخصية الاجتماعية المتماسكة، وبذلك تزداد حدة التنافس أو الصراع الداخلي بين الأفراد كوسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية الخاصة.
إن هذا التصور يبدو ممكنا ومقنعا، وفيه قدر من الصحة نشاهده في ظواهر حياتنا اليومية لكن لا يمكننا تجاهل تأثير قوى مختلفة في المجتمع، أبرزها وأشدها الدين الذي يبقى على الدوام مشدودا الى ثوابت ومطلقات، ولابد من الاعتراف بصلابة المؤسسات الدينية التقليدية، ودورها في هذا وممانعتها ضد اضفاء مشروعية على التحديث برغم كل التحديات.



مأخذ: موقع جريدة الصباح- اعداد - عذراء جمعة

http://www.alsabaah.com/

التعليقات (0)

اترك تعليق