مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

التشاور مع البنت

التشاور مع البنت

من الأمور اللازم الأخذ بها أثناء إجراء مراسم الخطبة، أخذ رأی البنت فی الشاب المتقدم لخطبتها، ویتعین على والیها توضیح کل ما یلزم توضیحه لها، لکی تکون على بینة فی اتخاذ الرأی الصحیح والمناسب فی حیاتها المقبلة. إذ إن قرارها هذا یعتبر قراراً مصیریاً لمستقبل عمرها ومستقبل أسرتها الجدیدة، فینبغی لها أن تقرر هذا الأمر عن درایة کافیة ودراسة واضحة وألا تکون بعیدة عن الواقع فی أعطاء رأیها.

ومن الضروری ألا یغفل الوالدان عن إعطاء هذه الفرصة المهمة للبنت فی انتخاب زوجها الذی ستقاسمه الشطر الأکبر فی عمرها، وتعیش إلى جنبه بقیة عمرها. لأنها إن سُلبت هذا الحق وضعت منه فإنها ستبقى ناقمة على أهلها طیلة حیاتها إن کان زواجها غیر موفقاً، وتحمّلهم أبدا مسؤولیة شقائها ولا ترى للهناءة وجهاً فی حیاتها.
ولقد أکد الإسلام فی تعالیمه الناصعة على ضرورة التشاور مع البنت فی هذه القضیة الخاصة بها، وشدّد نکیره على من یُکره ابنته على الزواج ممن لا تحب، والسنّة النبویة وهی ثانی مصادر التشریع المهمة فی الإسلام أرشدتنا أیضاً إلى ضرورة احترام اختیار ورأی البنت فی شریک حیاتها، وعدم التنصل عن القیام بهذا الأمر بحجة صغر عمر الفتاة، وعدم قدرتها على اتخاذ القرار الصائب لنفسها، وقد أثبت رسول الإنسانية ومعلّمها الأول هذا الأمر یشکل عملی لنا وجعله سنّة باقیة لیعمل بهدیها جمیع الآباء فی مثل هذه المناسبة مع بناتهم. وذلک فی زواج ابنته فاطمة الزهراء(ع)، فقد جاء فی الروایة عن النبی(ص)، إنه لما خطبها الإمام علی(ع)، وکان قبله قد تقدم لخطبتها الکثیر من رجالات قریش وکبارها، قال له: یا علی قد ذکرها رجال قبلك، فذکرت ذلك لها فرأیت الکراهة فی وجهها ولکن على رسلك حتى أخرج إليك، فدخل علیها فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعلیه وأتته بالوضوء فوضأته بیدها وغسلت رجلیه ثم قعدت.
فقال: یا فاطمة! فقالت: لبیك لبیك حاجتك یا رسول الله؟
فقال: إن علی بن أبی طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه وإني قد سألت ربي أن یزوجك خیر خلقه وأحبه إليهم! وقد ذکر من أمرك شیئاً تختارین؟
فسکتت ولم تول وجهه، ولم یر فیه رسول الله(ص) کراهة!! فقام، وهو یقول: الله أکبر سکوتها إقرارها.(1)
درس وعبرة:
وإذا یمکننا أن نستلهم من هذه الروایة من دروس وعبر. إذ إن رسول الله(ص) مع ما کان یمتلکه من مکانة اجتماعیة شامخة، فهو سید المرسلین وخاتم البنیین، وإنه لا ینطق عن الهوى إن هو إلا وحی یوحى، وإنه إن اختار شیئاً أو ارتضاه لا یرتضیه لعاطفة، أو مصلحة شخصیة، أو هوى دنیوي، أو عرض مادي –هذا ما أثر عنه من سیرته المشرقة مع أصحابه وقومه، فکیف مع أهله وذویه وأقرب الناس إلیه وأعزهم على قلبه من بنیه– فإنه کان بإمکانه(ص) وهو صاحب الرأی الصائب، والعلم الغزیر –مدینة العلم والحکمة– وخازن أسرار الشریعة والهدى، أن لا یستشیر ابنته ذی التسعة أعوام فقط وأن یقتصر على إبداء رأیه فی الخاطبین لها ورأیه مورد قبول وموضع تسلیم وتقریر ابنته التي کانت تعرف حقاً مقامه ومنزلته بل ومورد احترام سائر المسلمین دون شك ولا تردد، فالشریعة الإسلامية هي التي تأمر بإتّباع کل ما یقوله الرسول وکل ما یأتي به من فعل وتقریر،،«وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2)، «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً»(3).
إذا فما الذي دعاه إلى استشارة ابنته فی هذا الأمر وهو قائد الأمة وسیدها ورأیه مطاع فی کل الأحوال، والجواب واضح إن رسول الإنسانية ومعلّمها کان في أعلى مراتب الأخلاق والاحترام لرأي الآخرين وبالذات في الأمور الخاصة بهم، واختیار الزوج شأن خاصاً بابنته وهو أکرم الناس خلقا فلیس من خلقه أن یقرر شیئاً خاصاً لغیره دون أن یستشیره في ذلك حتى وإن کانت ابنته، هذا فضلاً عن أنه أراد أن یبقى هذا السلوك سنّة یعمل به أتباعه من بعده.
الخطبة وآدابها في الإسلام:
إذن الولی
مما اشترطه الفقهاء فی صحة زواج البنت البکر، إذن أبیها أوجدها لأبیها حتى ولو کانت بالغة رشيدة وهذا الرأي أجمع علیه أکثر الفقهاء إلا البعض في المتأخرین الذي أهل زواج البکر دون إذن أبیها إذا کانت بالغة رشیدة.
قال الإمام الصادق(ع): لا تُزوج ذوات الآباء في الأبکار إلا بإذن أبائها(4)
"لا یجوز للصغیرة العقد على نفسها إلا بإذن الأب والجد، ولا یجوز للبالغة البکر غیر الرشیدة أن تجری العقد إلا بإذنهما، فإن عقدت بغیر إذنها خالفت السنّة وکان العقد موقوفاً على إمضائهما"(5)
وأما المرأة الثیب فإنها لا تحتاج إلى إذن ولیها في اختیار الزوج، وسبب ذلك واضحاً لأنها بتجربتها الزوجیة –المرأة الثیب أن تکون مات عنها زوجها أو خلعت عنه بالطلاق– تکون قد خبرت الحیاة وأصبحت لدیها القدرة في تقریر مصیرها بمفردها دون ولایة أبیها أوجدها.
وأما لماذا اعتبر الإسلام ولایة الأب على البنت البکر شرطاً في صحة العقد الشرعي لها؟ ألا یعد ذلك تقلیلاً لشأنها وتنکّراً لرأیها وانتقاصاً لقدرتها على الاختیار الصائب والصحیح؟ ومن ثم ألیس إذن الولي سلباً لحریة المرأة في اتخاذها لقرارها الشخصي في الزواج والذي هو حق مسلم لها؟
للجواب عن هذه الإشکالات المطروحة ینبغي التذکیر بعدة أمور مهمة ولازمة في تحریر الرؤیة الصائبة للإسلام حول زواج البکر وهي:
أولاً: وکما ذکرنا سابقاً في الحدیث عن ضرورة إبداء البنت لرأیها في الزواج وإحراز رضاها فیمن ترید الزواج منه، وقلنا أنّ الإسلام ضمن هذا الحق للبنت وألزم الأبوین ذلك واعتبرها هي صاحبة القرار النهائي، ولیس لأبویها الحق على إرغامها أو قسرها على الزواج ممن لا ترغب فیه أو تکره الزواج منه، وهذا الأمر مما أجمع الفقهاء علیه ولا مناقشة فیه باعتباره أمراً منوطاً بإرادتها واختیارها أولا ثم بعد ذلك يأتي إذن الولي.
ثانیاً: إن ولایة الولي تسقط إذا منعها من التزویج بالرجل الکفؤ، ولم یکن هناك مبرراً عقلانیاً یدعوه للرفض. "تسقط الولایة فی حالة منعها البنت البالغة الرشیدة من الزواج بالأکفاء، فلها الحق أن تجري العقد بغیر إذن منهما، ولم یکن لهما الفسخ"(6)
ثالثاً: یشترط فی ولایة الولي أن یکون رشیداً عاقلاً وأن یکون حریصاً على مصلحة ابنته، فلا یقدم مصالحه ومصالح الطرف الأخر من هذا الزواج على مصلحة ابنته.
وأما لماذا اشترط الإسلام إذن الولي. فإنما اشترطه لیس إلغاءا لرأیها، أو تنقیصاً لقدرها بل لمصالح ضروریة أخرى ینطوي علیها الأمر، ولا تستطیع البنت بمفردها استکشافها ومعرفتها.
فللبنت إظهار رأیها فیما یمکنها معرفته وإدراکه من أحوال الفتى المتقدم للزواج منها وللأب الذي عرك الحیاة ومحض التجارب أن یُدلي برأیه في الجوانب الأخرى التي قد لاتصل مدارك البنت إليها.
وعلى هذا فیمکننا إجمال فلسفة وجوب إذن الأب في زواج البنت البکر في الملاحظات التالیة:
أولا: إنه ضرب من الإحسان والبر بالمقابل لمن أنفق طاقات عمره علیها وعاشت دهراً في کنف بره وإحسانه، فأحرى بها وهي ترید الانفصال عن البیت الذي قضت فیه شطراً من حیاتها إلى بیت جدید تشرع فیه حیاة أسرية أخرى أن تستأذن ولي أمرها في ذلك.
ثانیاً: المعرفة بالمثل أکثر، جعل الإسلام إذن الولي شرطاً في عقد الفتاة باعتبار أنّ الولي القیّم علیها أکثر تجربة في معرفة الرجال والأقران مثله، ومعرفة مکنونات شخصیاتهم وطبائع نفوسهم ولغتهم التفاهم معهم، وبما أن البنت في ظل قیم الإسلام، وبفضل حیائها وتجسیدها للآداب الإسلامية والقیم الأخلاقية الرفیعة التي تکره لها الاختلاط بالرجال أو التکلم معهم إلا فیما یجب، لذا فهي مهما کانت بالغة ورشیدة إلا إنها في هذا المجال قلیلة التجربة ولیس لها القدرة الکافیة في تمیيز المخادعین وذوي النیات السیئة من الرجال وممن انطوى على حیلة منهم، لذا فإنها تحتاج إلى صاحب الخبرة والبصیرة في هذه الأمور ولیس أقرب إليها وأخلص وداً ونفعاً لها عن والدها. فالاحتکام إلى رأیه في هذه ضرورة لازمة لها ولسلامة مستقبلها.
ثالثاً: المرأة سریعة الانفعال وشدیدة التأثر بالمظاهر الکلامیة والشکلیة، وخاصة البنت الحدیث السن والتي لم تخض غمار الحیاة بعد، فقد یخدعها رجل لکلام جمیل سمعته منه، أو معروفاً أسداه إليها، وتغفل عن جوانب شخصیته الأخرى أو في بعض الأحيان ونتيجة لانفعال عاطفي، تفقد توازنها الفکري أو خطاب وجداني من أحد الشباب یخرجها عن سمتها وشخصیتها فلا بد في مثل هذه الأحوال من وجود فرد عاقل یحتکم إليه لمعرفة جواهر الأفراد وتمحیصهم.
رابعاً: من عامة الخاطبین المبالغة والمصانعة للنفوذ إلى قلب الخطیبة وذویها وفي مثل هذه الأحوال، ولأجل أن یعرف الخاطب أن علیه أن یتجاوز عقبة الأب للوصول إلى البنت، وإنها درة ثمینة لا یمکنه الحصول علیها بسهولة أو بالمراوغة.


الهوامش:
1- وسائل الشیعة، ج14، ص206، ح3، الحر العاملي، بحار الأنوار، ج32، ص93.
2- تهذیب الأحکام، الطوسی، محمد بن الحسن، 7/379.
3- الکافي فی الفقه، تقی الدین من نجم الدین المعروف أبو صلاح الجلبي المتوفی 447هـ، 292، ونحوه فی جواهر الکلام. 89: 183 – 182.
4-
5-
7- جامع المقاصد 12/103 – الکافي فی الفقه/ 292.


المصدر: مجلة الطاهرة، العدد: 216.

التعليقات (0)

اترك تعليق