مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

هل يمكن أن تتحول زينة الحياة الدنيا إلى فتنة؟

هل يمكن أن تتحول زينة الحياة الدنيا إلى فتنة؟

أولادكم وأموالكم وسيلة لامتحانكم:
حذّر القرآن الكريم من مغبة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال، الذي قد يجر إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» (سورة التغابن، الآية: 22). إن هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحيانا يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، وأخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك. وليس كل الأولاد، ولا كل الزوجات كذلك، لهذا جاءت "من" التبعيضية. وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحينا آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد. وعلى كل حال فإن الإنسان يصبح على مفترق طريقين، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج، ولا ينبغي أن يتردد الإنسان في اتخاذ طريق الله وإيثاره على غيره، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكدت عليه الآية 23 من سورة التوبة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل، نجد القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية: «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبون أن يعفوا الله عنكم. جاء في حديث الإفك أن بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بث تلك الشائعة الخبيثة وترويجها، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي، فنزلت الآية 22 من تلك السورة (النور): «وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ». وكما يظهر من المعنى اللغوي فإن لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو) بمعنى صرف النظر عن العقوبة، و(الصفح) في مرتبة أعلى، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم، و(الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه، وبهذا فان الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبة في جميع المراحل وكل ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التدين والإيمان في العائلة.
وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد، حيث تقول:«وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فإذا تجاوزتم ذلك كله فإن الله عنده أجر عظيم. وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أن جميع الأموال والأولاد عبارة عن "فتنة"، وفي الحقيقة فان الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهم وسائل الامتحان والابتلاء، لأن جاذبية الأموال من جهة، وحب الأولاد من جهة أخرى يدفعان الإنسان بشدة إلى سلوك طريق معين قد لا يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة، ولذلك ورد التعبير في الآية "إنما" التي تدل على الحصر.
يقول أمير المؤمنين(ع) في رواية عنه "لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فإن الله سبحانه يقول: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»"(1). يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية 28 سورة الأنفال.
وعن كثير من المفسرين والمؤرخين "كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال: "صدق الله عز وجل: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ» نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما. ثم أخذ في خطبته"(2). إنّ قطع الرسول لخطبته لا يعني أنه غفل عن ذكر الله، أو عن أداء مسؤوليته التبليغية، وإنما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبه واحترامه لهما. إنّ عمل الرسول هذا كان تنبيها لكل المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أن البراء بن عازب (صحابي معروف يقول: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه"(3). وفي رواية أخرى أن الحسين(ع) كان يصعد على ظهر الرسول وهو ساجد، دون أن يمنعه الرسول(1)، كل ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع


الهوامش:
 1 - نهج البلاغة، الجمل القصار 93.
2 - مجمع البيان، ج 10، ص 301.
3 - صحيح مسلم، ج 4، ص 1883، حديث 58.
4- البحار، ج 43، ص 296، حديث 57.


المصدر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 18.

التعليقات (0)

اترك تعليق