مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الثورة الحسينية ونساء الإسلام

الثورة الحسينية ونساء الإسلام: نجد أن أجواء الثورة الحسينية حفلت بالعديد من النماذج النسائية الجادة

الثورة الحسينية ونساء الإسلام

الحاجة عفاف الحكيم:  

قبل أربعة عشر قرناً، ومع بدء رسول الله(ص) بتشييد صرح الحياة الإنسانية المثلى..  برز حضور المرأة المسلمة، وبرزت معه شخصيتها المثقلة بتعاليم الإسلام ونهجه القويم، وحيث كان من أروع معجزات التاريخ البشري، أنّ الدولة الإسلامية الفتية التي أنشئت في تلك البلدة الصغيرة وذاك المحيط المتخبط في ضلال الجاهلية ومفاسدها استطاعت، بعد أن بسطت حكم الله فيما حولها، أن تُقدّم للعالم أرقى النماذج الإنسانية لا على صعيد الرجل وحسب بل على صعيد المرأة التي نعلم في أي واقع كئيب كانت، وذلك بعد أن انقلبت نظرة أناسها إلى الأشياء وحصل انقلاب جذري في مقاييسهم وأخلاقهم وتقاليدهم الاجتماعية.
عوامل النهوض:
 لقد كان السبب المباشر لتلك المحطة المفصلية في تاريخ نساء الأمة. ولذلك الانقلاب الهائل الذي حصل في حياتهن؛ إنما يعود للنظرة التي حملتها أطروحة الإسلام بخصوص المرأة والتي جاءت مختلفة نوعياً عما كان سائداً في الجزيرة العربية والعالم، وهذا إضافة إلى النهج العملي الذي نشد فيه رسول الله(ص) أرقى الأساليب وأكثرها فاعلية، إذ نجد لجهة النظرة:
1- أنّ التعاليم التي حملها رسول الله(ص) قد انطلقت في تعاملها مع كافة الأفراد من نظرة واقعية تكوينية تقوم على أساس الإيمان بوحدة النوع الإنساني وبأن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل بشري واحد «الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ»(النساء:1).
2- أنّ هذه التعاليم قد تخطت في تعاملها جميع الفوارق والحدود الجاهلية سواء بين الأفراد بوجه عام أو بين الرجل والمرأة بوجه خاص، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات:13).
3- أنّ تعاليم الإسلام قد ألقت مهمة النهوض بالأمانة على عاتق كل إنسان رجلا كان أم امرأة، وتوجهت لجميع الذين آمنوا بصفتهم مكلفين، مؤكدة على ضرورة التّصدي المباشر من قِبل كل منهم لتحمّل كامل المسؤولية والتبعة في أداء الواجب الذي يقع عليه لا في سبيل إنقاذ نفسه وحسب، بل إنقاذ البشرية كذلك وإخراجها من الظلمات إلى النور. قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَان» (الأحزاب:72)- الإنسان الرجل والمرأة.
مع السيرة والنهج:
أما على الصعيد العملي لرسول الله(ص) فنجد:
1-
 لم يكتف(ص) حين سعى لإظهار الصورة المثالية التي ينشدها الإسلام للمرأة بأن يعرض التعاليم القرآنية بلسانه فقط، وإنما سعى لتجسيدها فيمن حوله، وقد تجلى هذا في حياته العملية واقعاً حياً ملموساً. وحيث ظهر منذ البدء مسعاه الكريم لإبراز المثل الحي المتمثل بالحضور الكريم للزوج خديجة(ع)، ومن ثم للابنة الزهراء(ع)، وصولا فيما بعد إلى دور الحفيدة زينب(ع)، دافعاً بالطاقات الخيرة إلى التطلع والإقتداء للخروج نهائيا من مستنقعات الجاهلية ورواسبها.
2- لم يجعل حدا أو فاصلا زمنيا بين دعوة وحركة المسلمة والمسلم، وإنما عمل(ص) على فسح المجال كاملاً للحضور النسائي منذ البدء وحيث كانت المرأة كما الرجل تماما تلتقي بالنبي(ص) لتعلن اختيارها وانتماءها، وتطرح تساؤلاتها وتطلعاتها، وذلك في السنوات الأولى الأشد والأصعب من عمر الدولة.
3- ومن أجل تركيز معالم الدور النسائي المطلوب في الأمة كان(ص) يعمل -كما ورد في السير- على ملاحقة ما كان يحمله بعض الصحابة من نظرة دونية للمرأة ويسعى إلى علاجها، عاملاً على إبراز وتجسيد ما كان يدعو إليه الإسلام؛ لكي لا يكون إيمان الناس على ما سمعوه من لسانه الشريف فقط، بل أيضا على ما رأوه من مواقف وعينات رأي العين.
هذا النهج كان له أثره في تمكين المسلمة، وخلال فترة وجيزة، من النهوض والارتفاع لتكون بمستوى الحدث وعياً وفاعلية، ومن ثم تمكين الإسلام من تقديم النموذج الحضاري الرفيع للمرأة، إذ مع وعي حقيقة الدور وتحسس ضخامة المسؤولية سرعان ما تقدمت المسلمة لتفرغ حياتها في نفس القالب الذي يريده الإسلام، فكان أن تجلت الصورة الحية للمسلمة الواعية القادرة على أداء الوظيفة الإلهية التي أرادها منها خالقها وحيث حدث ذلك الانقلاب الهائل الذي أهّل العديدات من تقديم عظيم الأمثلة ورائع الصور بين يدي الرسول(ص) في مختلف المجالات، إن عبر الصمود في معتقلات التعذيب حتى الشهادة، وإن في الثبات والإقدام في ساحات المعركة، وإن بمواجهة الظلم والانحراف أو البحث عن سبل المؤازرة والنصرة مع تحمل الشدائد والصعاب.
أمثلة وصور تواصل ضوءها عبر ساحات جهاد المعصومين(ع) وفي ظلهم عموما -وحيث شكلت الثورة الحسينية الركيزة الأساس- إلا أن بريق ذاك الدور راح يخمد رويدا رويدا مع العصور التي عصفت بمقدرات الأمة والتي أعادت المسلمة إلى أغلال الجاهلية بجعلها أسيرة الجانب الأنثوي بدل أن تنطلق من الموقع الأرحب كإنسان كما أرادت لها رسالة القرآن، حتى وصل الأمر بالمرأة المسلمة، التي وهبت كامل الحقوق وأدت أعظم الأدوار قبل أربعة عشر قرنا، أن تعيش وفي معظم البلدان الإسلامية خواء الدور، وتلهث خلف مطالبات بحقوق في ساح الغرب التعيس.
إزاء هذه الحقائق الثابتة، التي وإن غابت عن حركة مجتمعاتنا في مراحل تاريخية معينة، فإننا حتى الآن ورغم التحولات العظيمة التي نعيشها نجد أنفسنا أمام الوهج الذي تضخه الثورة الحسينية سنويا في مجتمعاتنا، مضطرين للاعتراف بقصورنا وعجزنا عن استلهام المضامين الأساسية التي تمكن من رصد حقيقي لإشراقة تلك الأدوار النسائية العظيمة، وصولا إلى تحقيق قيام دائم شامل لمصانع انصهار الذات -انصهار المذكر والمؤنث- في أسرنا في سلسبيل الكوثر الحسيني.
ومن هنا، وعلى سبيل استحضار المثال، إذا عدنا إلى الثورة الحسينية التي عرّفت الإسلام كما هو وكما يجب أن يكون، نجد أن أجواءها حفلت بالعديد من النماذج النسائية الجادة، والتي نهضت في أماكن مختلفة بعيدا عن أي تبعية لزوج أو أب أو اندفاعا مع أجواء وإنما كنّ بحق المظهر الصادق للإنسان المتجرد الذي يتسامى على وسائل الضغط والبطش والتنكيل في ذلك الجو الحاد، فكان من بينهنّ:

1- العنصر المساند:
كماريا بنت منقذ العبدي، والتي كانت كما ورد على درجة من المعرفة والتقوى، وقد عاشت وحيدة (بعد مقتل زوجها وأبيها وأبنائها الأربعة ضمن جبهة الإمام علي(ع) في واقعة الجمل)، هذه المرأة كان تحت يدها ثروة طائلة، وظفتها بأكملها للخط والنهج والهدف، في الوقت الذي كان فيه ولاة معاوية يهدمون دور محبي عليّ(ع) ثم يطاردونهم في البلدان أو يصلبونهم على جذوع النخيل، وفي الوقت الذي كانت تُسمل فيه العيون وتقطع الأيدي والأرجل على الظنّ، فإن هذه المرأة جعلت منزلها مجمعا لشخصيات الشيعة في البصرة -من أجل التدارس والنصرة- لكن حين لاحظت فتورا بعد وصول رسائل أبي عبد الله(ع) إلى وجهاء مدينتها، أقبلت إلى مجلسها بعد أن اجتمعوا فيه وكانت في حال من التأثر البالغ لتقول: "لقد سمعت أنّ الحسين بن بنت نبيكم قد استنصركم وأنتم لا تنصرونه؟"، فتأثر الجمع ومع سماعها اعتذارهم لعدم توفر السلاح والراحلة، أتت بما لديها من المال وأفرغته على الأرض وقالت وهي تشحذ همم الجميع على الانضمام للثورة: "ليأخذ كل رجل منكم ما يحتاجه وينطلق لنصرة سيدي ومولاي الحسين".
2- العنصر المستنهض:
كدلهم بنت عمرو، زوجة زهير بن القين، والتي شهرت سلاح الكلمة لخدمة الثورة الحسينية، بعد أن حطّ رحالها وزوجها في طريق العودة من حج بيت الله، على مقربة من فسطاط الإمام الحسين(ع) وهو في طريقه إلى كربلاء.
زهير ذلك البطل الذي عينه الإمام الحسين(ع) قائدا للجناح الأيمن في جيشه، والذي قال للإمام(ع): "والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين إلا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على البقاء فيها"، هذا الإنسان كان يسير في اتجاه مناوئ للثورة غير أن كلمة مخلصة وصادقة من فم زوجته كانت السبب في تغيير مساره، إذ يقول أحد الرواة: كنا مع زهير ولم يكن شيء أبغض إلينا من أن نساير قافلة الحسين، حتى إذا نزلنا منزلاً لم نجد به بدا من أن ننازله فيه، فبينما نحن جلوسا نتغذى من طعام إذ أقبل رسول الحسين فقال: يا زهير إن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل منّا ما في يده، وساد صمت رهيب في الخيمة حتى كأن على رؤوسنا الطير، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين، ولكن زوجة زهير حين رأت زوجها مطرقا مزقت أجواء الصمت والذهول قائلة: "يا زهير أيبعث إليك ابن بنت رسول الله، ثم لا تأتيه! .سبحان الله لو أتيته وسمعت كلامه ثم انصرفت".
هذه الكلمة كان لها وقع عجيب، إذ مع استقبال الإمام له و تحدثه معه. اتخذ زهير قرارا حاسما يضع به حدا لحياته السابقة، وعاد إلى قومه مستبشرا.. تقول زوجته: ثم تنحى بأخي يطلب منه إعادتي إلى أهلي قائلاً: "لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير، وقد عزمت عل صحبة الحسين لأفديه بروحي وأقيه بنفسي"، فقالت له: يا زهير ألم أكن لك في حياتك نعم الزوجة؟ قال: بلى، قالت: إذن أطلب منك كما ربطت مصيرك بالحسين أن تمكني من أن أربط مصيري بسيدتي ومولاتي زينب.
3- العنصر الحامي:
كطوعة السيدة المؤمنة التي آوت ونصرت في الكوفة ممثل الثورة الحسينية مسلم بن عقيل، حين تفرق الناس عنه بعد صلاة العشاء ليلاً -بعد سماعهم لتهديد عبيد الله بن زياد- باذلة الوسع لتأمين الحماية للقيادة بعد أن تقاذفتها سكك الكوفة جراء انهزام النفوس وتخاذلها، وحيث مضت في مسعاها رغم وعيد السلطة وبطشها وإرهابها الذي لوّى رقاب كثيرين. وكان أن تفوقت هذه المرأة الجليلة بعملها البطولي، وموقفها الثوري الحاسم الصلب على جميع رجال مجتمعها المرهوب المتخاذل يومذاك.
نعم، هذه المرأة العظيمة لم يدخلها الخوف الذي جثم على قلوب الناس في الكوفة بحيث لم يعد هناك بيت يؤوي مسلماً إلاّ بيتها.
4- العنصر المحفزّ:
كزوجة حبيب بن مظاهر الصحابي الجليل، التي راحت تخاطب زوجها الذي تجاوز السبعين، حين رأته مطرقا ساكتا بعد أن وصله رسول الحسين(ع)، وحيث كان يفكر بالخروج مع حصار الكوفة الخانق..، متصورة أنّ به تردد فتقول له: "إن أنت يا حبيب لم تدفعك جرأة الرجال وحب الحق إلى نصرة الحسين وخذلان أعدائه، فدعني يا حبيب ألبس ثيابك وأنطلق بها إلى نصرة سيدي أذبّ عنه وأقاتل بين يديه..".
وكان أن حققت ما تمنت وخرجت مع زوجها الصحابي الجليل واستُقبلوا ذاك الاستقبال المؤثر من أهل بيت النبوة على أرض كربلاء..
5- العنصر المضحّي:
كزوجة جنادة بن الحارث، التي حين أراد زوجها أن يخرج من الكوفة سراً؛ لأن الأمر كان صعباً وشاقاَ وتحف به مخاطر كثيرة. نجدها تصر على مرافقته في رحلته الجهادية، فتخرج ومعهما ابنهما عمرو وكان ابن إحدى عشر سنة.
وجاء في الروايات أنه حين استشهد زوجها في المعركة نهضت نحو ولدها وقالت له: "أخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله"، وحين يقول الإمام(ع) هذا شاب قُتل أبوه ولعل أمه تكره خروجه، فإذا به يقول للإمام مطمئناً أن أمي هي التي أمرتني بذلك.
ومع مصرع ولدها تقدمت هذه الأم إلى ساحة المعركة لتحمل رأس ولدها فتمسح عنه الدم والتراب قائلة "بيض الله وجهك يا ولدي كما بيضت وجهي عند سيدتي ومولاتي الزهراء(ع)".
6- العنصر الثائر المقاتل:
كزوجة عبد الله بن عمر التي حين أخبرها زوجها بالأمر قالت: "أصبت، أخرج وأخرجني معك". وأثناء المعركة خرجت تحفزه مشجعة قائلة: "فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد(ص)"، فأقبل إليها ليردها فقالت: "لن أدعك دون أن أموت معك"، فناداها الحسين(ع): "جزيتم من أهل بيت النبوة خيرا ارجعي يرحمك الله"، وحين قتل زوجها نهضت إليه وجلست عند رأسه تمسح عن وجهه آثار المعركة، فأمر شمر بضرب رأسها بالعمود فقتلت وهي أول امرأة استشهدت في معسكر الحسين(ع).
7- العنصر القيادي الكامل:
المتمثل بحفيدة رسول الله(ص)، وابنة أمير المؤمنين عليّ(ع) وسيدة نساء العالمين الزهراء(ع)، تلك البطلة العظيمة التي قيل فيها أن صبرها في كربلاء ضاهى صبر الأنبياء، ومع ذلك نهضت بذلك الدور الخطير والكبير الذي حمى الإسلام في أصعب المراحل وأشدها، والذي تعجز السطور وتضيق عن تفاصيله، فلا نجد بداً من تناول جانب منه وحسب وهو الجانب الإعلامي، وحيث شاء الله سبحانه وتعالى لزينب فيما شاء أن تكون لسان ثورة أبي عبد الله الحسين(ع) ورسول شهداء كربلاء إلى العالم، وأن تكون الناشر لفكر الثورة وأهدافها في الأمصار والبلاد التي سيدخلون إليها.
وإن الدور الإعلامي الذي أدّته(س) نلمسه واضحاً مع مسار هذه الثورة من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام فالمدينة المنورة، وحيث تجاوزت(س) بكفائتها البيانية وبحضورها المؤثر أخطر سبب يمكن أن يؤدي إلى إفشالها، وذلك هو التضليل الإعلامي من قبل السلطة الأموية.
فالإعلام الزينبي سجّل أعلى درجات النجاح في القضاء عل هذا السبب وتمكن من توظيف مبادئ الثورة باتجاه المبادئ المرسومة لها، وذلك عبر الصبر، والصمود، وصلابة الكلمة، وحرارة الخطب الحماسية، والكلام البليغ الذي أسقط هيبة الحكم الأموي وفتح باب الثورة عليه، فحفيدة رسول الله زينب(س) منذ عصر العاشر من المحرم، انتقلت المهمة الأولى إليها وأصبحت هي رئيسة القافلة كما يقول الشهيد مطهري في الملحمة الحسينية، باعتبار أنّ إحدى المهام الموكلة إليها بعد عاشوراء هي رعاية الإمام زين العابدين(ع) والاعتناء به، ولذا نجدها تنهض، وبمنتهى الفاعلية، رغم أن كل شيء في ذلك اليوم كان يكفي سبباً لضعفها، فالعبء كان ثقيلا مع استشهاد ستة من إخوتها وثلاثة من أبنائها، إضافة إلى أبناء الإخوة والعمومة والثلة المؤمنة من الأصحاب، إضافة إلى الغربة القاسية ومسؤولية الأطفال والعيال، إضافة إلى جواد أبي عبد الله(ع) الذي عاد خالياً.
ورغم هول المشهد واجتماع كل هذه العوامل ارتفعت(س) إلى مستوى المهمة الجليلة التي تنتظرها، وتحركت مخترقة حشود الظلمة باتجاه جسد الإمام الطاهر، والكل ينظر ماذا ستعمل زينب؟ لكنها(س) وبكل إباء وشموخ تتقدم فتضع يديها تحت الجثمان الشريف ثم تتوجه إلى مرجع العباد جلّ وعلا، مؤكّدة ومعبرة عن مواصلة المسيرة قائلةً: "اللهم تقبل منا هذا القربان".
وفي مشهد آخر، نراها في الكوفة مع دخول قافلة السبايا إليها، تعمل على تفجير الموقف لتوقظ الناس، فترمي بالماء والثمر الذي قدم للأطفال على الأرض، وتقف خطيبة في سوقها، متوجّهةً بكلامٍ بليغٍ للمحتشدين من حولها قائلةً: "يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون وتنتحبون، أي والهم فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، فقد خاب السعي وثبت الأبدي وخسرت الصفقة وبئتم بغضب  الله ورسوله..إلخ".
ومع إدخال قافلة الأسرى إلى دار الإمارة ومجلس ابن زياد، نراها(ع) تدخل مع كل التعب والمعاناة بشموخ وعنفوان، تدخل دون أن تلقي السلام على الأمير أو تكترث به، فيتضايق بن زياد لروح المقاومة العالية، ورغم معرفته بها يسأل استخفافاً "من هذه.." فلا يجيبه أحد، ثم يعاود السؤال ثانية.. ثم يكرره للمرة الثالثة، فترد إحدى الحاضرات لتقول إنها زينب بنت علي بن أبي طالب.
فيتقدم منها شامتاً قائلاً: "الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب أحدوثتكم"، وهنا ترد حفيدة المصطفى(ص) على الفور بكل صلابة وحسم قائلة: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(ص) وطهرنا من الرجس تطهيرا. إنما يفتضح الفاسق ويكذّب الفاجر وهو غيرنا.." فيتابع وهو يتمزق غيظاً "أرأيت فعل الله بأخيك"، فتجيب(ع) "والله ما رأيت إلا جميلا". إنهم رجال كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيحكم الله بينك وبينهم فتحاجّون عنده وتختصمون".
وهكذا تخرج القائدة البطلة متابعة فصول الثورة بعد استشهاد الإمام(ع) حاملة الرسالة التي آمنت بها بكل قوة، ورغم ثقل المأساة عبر المدن والقرى التي مرت بها كانت في كل كلماتها وخطبها في تلك الأثناء توزع الثورة في النفوس، وتصعد الأحاسيس من مراحل التفكير إلى مراحل التنفيذ.
وتصل إلى دمشق.. وتقف أمام يزيد، هو الحاكم وهي الأسيرة، لكن البطلة، التي تأهلت في بيت النبوة، توجه كلامها إلى الطاغية بكل صمود وثبات، مبينة أمام الملأ أسباب النزاع وأبعاد الثورة، مُدينةً يزيد وحكمه الظالم مع كل ما يمثّل من جبروت في قلب مجلسه المليء بالمرتزقة والأعوان، فخاطبته قائلة: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ  بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة. وتوقعت أن هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك، فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ» -ثم تتابع(ع)- ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك فإني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، فكد كيدك وأسعى سعيك، فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تدرك أمدنا ولن تدحض عنك عارها.. إلخ".
لقد كان للإعلام الزينبي والآثار المترتبة عليه لا سيما في بلاد الشام التي انقلبت انقلابا شاملا بعد قدوم آل البيت إليها، هذا الإعلام النشط المتوقد لعب دورا مشهودا على مستوى إثارة الأمة الإسلامية على الحكم الأموي، وبالتالي لعب دورا كبيرا في التمهيد لقيام كل الثورات الإسلامية التي استمرت بعد ذلك، وصولاً إلى ثورة الإمام الخميني(رض) -في هذا العصر- الذي قال: "كل ما لدينا من بركة عاشوراء". "ولولا الحسين لما انتصرنا".
يبقى أن الدور الخطير الذي نهضت به حفيدة رسول الله(ص) في الثورة الحسينية، والذي زلزل فيما بعد عروش الظالمين، بحاجة إلى دراسة وافية واقتداء يستنهض الهمم باتجاه إعادة التوازن المطلوب في مجتمعاتنا، دراسة نعيش معها أبعاد ذلك النص الذي يقول: "إنّ أمير المؤمنين(ع) اشترط على عبد الله بن جعفر عند تزويجه زينب(ع) أن يأذن لها بالخروج إلى كربلاء مع الإمام الحسين(ع)"، دراسة نعيش معها أبعاد الولادة الثانية للإسلام العظيم عبر قول رسول الله(ص) "حسين مني وأنا من حسين"، وحيث كانت ساحة كربلاء في تلك الأيام الجليلة وعبر رجال الثلة المؤمنة ونسائها، تضج بحركة الحضور الإنساني الواحد، وفاعلية الدور المشترك المتكامل، الذي أسّس له رسول الله(ص) منذ البدء.

التعليقات (0)

اترك تعليق