مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مقال للحاجة عفاف الحكيم نُشر في مجلة المنطلق 1985م(2)

مقال للحاجة عفاف الحكيم نُشر في مجلة المنطلق 1985م: المرأة بين الثورة الإسلامية والمقاومة الإسلامية(2)

... يتبع
 

مقال للحاجة عفاف الحكيم نُشر في مجلة المنطلق 1985م: المرأة بين الثورة الإسلامية والمقاومة الإسلامية(2)
 

المسلمة والمقاومة الإسلامية:
كان من الطبيعي للثورة الإسلامية في إيران، من أن توقظ كل الطاقات البشرية المسلمة في مختلف الشعوب، بعد أن طرحت في الساحة الكثير من الحقائق.فمن جهة أبرزت قدرة الإسلام كنهج في أن يحقق خوارق في النفوس التي تتلقاه وترتبط به، وقدرته كذلك كنهج في أن يقود البشرية وينهض بها من كبوتها، مضافا إلى هذا ما نحن بصدده، وهو إعادة المرأة المسلمة إلى دورها الحقيقي في الحياة.وإنه مع وضوح هذه الحقائق واقترانها بالوقائع المفرحة، كان من الطبيعي أن يصبح حب الإسلام وحب الثورة الإسلامية وقادتها جزءا لا يتجزأ من كيان كل مسلم ومسلمة، فالأدوار البطولية للمرأة هناك، إذا كانت في نظر البعض فريدة في تاريخنا الحديث، فإنها في نظر المسلمين جزء لا يتجزأ من تاريخهم النضالي المشرق الذي شاركت المرأة بكتابته بدمائها وسجلت فيه أسمى التضحيات..المسلمة في إيران ليست سوى السباقة إلى النهوض والتأسي بعد عصور الإنحطاط الطويلة..كما وأن الثورة الإسلامية ليست سوى السباقة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في دولة رسول الله(ص).
من هنا كان لهذه المرأة ولهذه الثورة تأثيرهما البالغ في أجواء المرأة المسلمة في العالم عموما، وفي لبنان وجنوبه المظلوم على الخصوص، فالمسلمة في لبنان التي جاهد المستعمر لتذويب شخصيتها وسلخها عن أصالتها لتركن في ظلمات العبث والضياع أو تستسلم لذل ما يسمى (بالأمر الواقع) وجدت نفسها فجأة تستيقظ على المثال القدوة.. والنموذج الحي..فصورة المسلمة الثائرة في إيران جسدت أحلامها المكبوتة وأعادت إليها صلتها بتاريخها، جددت خواطر كانت تعيش في وجدانها وتتفاعل مع أحاسيسها ومشاعرها جعلتها وجها لوجه أمام نفحات من شموخ الزهراء وصلابة زينب(ع)، وشهادة سمية وحيوية نسيبة.
وهكذا بدأ التفاعل يكبر، وبدأت مراجعة الحسابات، وبدأ التحول الروحي والمعنوي بشقّ طريقه بعمق، وكان أن شهد مجتمعنا هذه القفزة النوعية الكبيرة على صعيد الإلتزام الدقيق بتعاليم الإسلام، وعبر هذه القفزة، تمكنت المسلمة في لبنان من تسديد أول ضربة لأحلام الأعداء ومخططاتهم.
فالكابوس الذي كان ولا زال يقض مضاجعهم، هو عودة الإسلام إلى الحياة كسلوك عملي يقود حياتنا كأفراد وحياتنا كأمة، وهذا ما تنبه له بن غورين قبل موته حين تحسس بداية الصحوة الإسلامية إذ قال: "إننا لا نخشى الثوارت ولا الإشتراكيات والديمقراطيات في المنطقة، ما نخشاه هو الإسلام ذلك المارد الذي نام طويلا ثم اخذ يستيقظ من جديد".
وبعد أن تحقق الإنتصار في إيران قالت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا: "إن العشر سنوات القادمة هي من أحلك السنوات بالنسبة إلى السيادة الغربية لأنها باتت هذه المرة مهددة بخطر حقيقي غير خطر الإتحاد السوفياتي، وهو خطر الإسلام، وهذا الخطر هو خطر مسلكي وحضاري أكثر مما هو خطر عسكري".
وقال دايان أمام وفد من الأميريكيين اليهود: "أن على دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة أن تعطي اهتماما أكبر لإسرائيل باعتبارها خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية في وجه أعاصير الثورة الإسلامية".
ولا شك أنه عبر هذه الأقوال الصريحة يمكننا –ولو بقدر- أن ندرك أبعاد انتصار الثورة وتأثيرها، وأبعاد تفاعل المسلمين معها.
ويمكننا بالتالي أن نعي قيمة الزخم الروحي والمعنوي  الكبير الذي مدت به مجتمعنا، فأحدث تلك التحولات  الهامة والتي سنحاول أن نقف مع ما يخص الجانب النسائي منها.

1-التحول العملي نحو عيش الإسلام:
لقد أصبح الإسلام فعلا يقود حياة نخبة كبيرة من الفتيات والنساء في مجتمعنا، مع تقدم مجموعات كثيرة أخرى ولو بنسب في هذا الإتجاه. وقد نجم عن هذا تغييرات شملت نمط حياة الفتاة كلها، وأحدث تأثيرا كليا على نظرتها إلى الحياة وتعاملها معها، وعلى سبيل المثال: يمكننا أن نتأمل ماهية الأشياء التي كانت قبل سنوات تجتذب أكثر الفتيات والنساء قبل الإلتزام وبعده، فسنجد أن المعايير الجوفاء التي كانت ذات قيمة كبرى في نظرهن صارت اليوم بلا قيمة..لنتأمل ما كانت تقرأه فتياتنا قبل الإلتزام وبعده، ونقارن بين تهافتهن السابق على مجال الخليعة، وإقبالهن اليوم على المجلات والكتب الإسلامية، لنتذكر كيف كانت تقطع أوقات الفراغ سابقا، ولنتأمل تدفق المئات من النساء والفتيات إلى الحسينيات والمساجد والأماكن العامة التي تقام فيها المحاضرات والندوات والمعارض.
لنلاحظ الفرق بين الأغاني المائعة التي كانت سائدة في أجوائهن بالأمس، وبين هذه الأناشيد التي تردد اليوم، إن فتياتنا اليوم يتغنين بنشيد  النصر أو الشهادة، بنشيد التقدم للبذل والتضحية.وإنه لتفاوت أساسي واضح، حين تصبح أول كلمة ينطق بها أطفالنا هي كلمة الله أكبر، واول جملة يهتفون بها هي النصر للإسلام والموت لإسرائيل، وأول دعاء يتوجهون به هو الدعاء للقادة وللمجاهدين، وأول أمل يحلمون به هو الشهادة في مواقع العزة والكرامة.
إنها لنقلة كبرى ولا شك، بين هذا وبين ما كن عليه من افتخار بأدوات الذل والضياع، من سهر وسفر ولهو وبذخ في اللباس والمسكن والملبس.
إن مقارنة سريعة بين الوضع السابق للعديد من الأسر وبين وضعها اليوم وما فيه من نقاء تربوي وطهارة أخلاقية، لتظهر لنا الحقيقة الكبرى لهذا التحول العظيم بكل وضوح، وتظهر لنا الصورة المشرقة لجهاد المرأة المسلمة وقدرتها على التغيير.

2-كسر حاجز الخوف:
المسلمة في لبنان أصبحت بعد انتصار الثورة تعيش حالة من الشوق لمواجهة أعدائها وتحديهم. فالتعديل الذي أدخله الإلتزام الدقيق بتعاليم الإسلام في حياتها، جعلها أكثر إدراكا لعدوها ولدورها، وأكثر تحسسا لمسؤولية الجهاد كتكليف شرعي.
لقد باتت تعي وتعيش بأنها مسؤولة إسلاميا مثلها مثل الرجل عن مقاومة الظالم والمحتل، وان واجبها في حالة الجهاد الدفاعي أن تنهض بما لديها من وسائل وأسباب لتحطيم طغيانهم.
المسلمة في لبنان اليوم منسجمة كليا مع نفسها بعد أن ربطت مسيرتها بالله دوافعا وأساليب واهداف وأصبحت تعيش لونا من التماسك في الشخصية عبر وحدة في الفكر المشاعر والسلوك، وهذا ما جعل الإرادة الواعية تتجلى عبر المواقف الشجاعة في بيروت والجنوب وسائر بقاع لبنان وتحدث ذاك الوهج الرسالي العظيم، وإن قرى جبل عامل اليوم لتشهد بهذا، بعد ان أصبحت قلاعا بفضل الأمهات والأخوات هناك.
لنتأمل كيف راح الإيمان يدفع بالمرأة الجنوبية إلى مراتب السمو، فتتحرك لتحرض الأخ والزوج والأبناء، ومن ثم تنهض لتكون في حالة استنفار دائمة.فمن المراقبة الأمنية الواعية عبر الحواكير والحقول ومن على سطوح المنازل لتفشيل عمليات العدو ودهمه المفاجئ لاعتقال المجاهدين، إلى نزولها في الساحة علنا مع صغارها لتحدي المحتل بهتافات "الله أكبر"، إلى ملاحقتها للآليات والجنود بالحجارة غير هيابة، او محاصرتهم في الشوارع الضيقة وصب الزيت المغلي فوق رؤوسهم.
المسلمة في الجنوب بعد التصاقها بتاريخها الإسلامي، باتت تعي أن المسجد متراس، ولذا نراها تنهض بقوة لتلبي نداء المسجد والحسينية، فتهرع مع أطفالها بشوق لا في أوقات الصلاة والدعاء وحسب، وإنما كذلك لإعلان الإحتجاج والإعتصام ووحدة الكلمة.
 

3-الإعتذار بالشهادة:
بعد الثورة الإسلامية المباركة، بات للإستشهاد نكهة خاصة في ربوع الأمهات والأخوات والزوجات هنا، وذلك بعد أن عشنا من خلال نساء إيران كيفية التفاعل العملي مع نداءات الحسين(ع) وهتافات زينب(ع) في أيام البذل السخي في كربلاء.
لنتأمل اليوم روعة التحول في تلك الأحاسيس والمشاعر، وكيف باتت نارا تحرق وصورا تضيئ، لنتأمل كيف راحت العاطفة تسمو في قلب الأم الجنوبية وهي تنهض لتلبي نداء الفداء للإسلام.
والدة الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب التي كان لها شخصيا مع العدو وقفات تشهد بقوة المؤمن وما يتميز به من صلابة وجرأة، قالت بشموخ زينبي حين استشهد ابنها الجليل: "حسبوا أنهم قتلوا الشيخ راغب ونحن سكتنا، لا على الإطلاق لن نسكت، وما زال عندي خمسة أبناء، وأتمنى أن يموتوا مثلما مات الشيخ راغب".
أم أخرى من تلكم البطلات، كانت تأتي لابنها الشاب محرضة من وقت لآخر لتقول له: ما لكم جامدين يا بني، يوميا نسمع عملية هنا وعملية هناك وأنتم لا تفعلون شيئا. تقول له هذا وهي تعلم بأن ابنها كان من السباقين، إلى ان شقت طريقها وأصبحت في الجهاد معه.
وذات يوم تتلقى هذه الأم نبأ استشهاد ابنها البار، فيجهش أخاه الذي لا زال يشكو من إصابة بالغة أثناء الإجتياح، لكن الأم البطلة تتقدم لتحتضنه قائلة: "لا أريد أن تنزل دمعة من عينيك، أخوك ذهب غاليا، أخوك شهيد، أولسنا نعد أنفسنا جميعا لهذا.." شيئ واحد بقي يعتصر قلب هذه الأم –كما تقول- لفترة فقد قيل لها أن ابنها استشهد حين فاجأه كمين في إحدى العمليات، فكانت تتخيله سقط وظهره للعدو، ولكن عندما علمت أنه سقط وهو يواجههم وجها لوجه ليحمي رفاقه، سرّت وسجدت لله شكرا لأنها –كما تقول- كنت أرغب أن أراه كبيرا كما ربيته.
هذه الأم الزينبية حين رأت ابنها الثالث ساهرا، وهي تدرك بما يفكر، تقدمت منه قائلة: لا تتصور يا بني بأن وضع البيت لا يسمح لك بمواصلة الطريق، إمض، والله معك، وأنا معك.
ترى، أبغير الإسلام كان يمكن للأمهات أن يرتفعن لهذا المستوى شموخا وقوة وصلابة!
لنتأمل رباطة الجأش التي تستقبل بها الأم المسلمة اليوم نعش ابنها الشهيد: يد على النعش، ويد إلى السماء، وهتاف من القلب "اللهم تقبل منا هذا القربان".
لنتأمل أية شجاعة هي التي تجعل من فتيات "طورا" الباسلات يتقدمن للمواجهة، ويستقبلن رصاص العدو الإسرائيلي من مسافة متر فقط.
أي لون من الشجاعة يجعل الفتاة الجنوبية تخرج للجهاد ليلا، فتقود سيارتها مع زميلة لها، وحين يطاردهن كمين وتعتقلان، تجيبهم بجرأة الحق وقوة المؤمن: "لا يحق أمن احتل أرضي واعتقل خطيبي وأهدر كرامتي ان يسألني لما أفعل هذا". ويحاول العدو بعد شهور إطلاق سراح زميلتها فيفاجأ بالأخوة الإسلامية وموقفها التعزيزي "إما أن أخرج معها وإما أن لا أخرج!".
ترى أي معادلة هذه التي تجعل المستبد يتآكل غيظا وتجعل المقيد يزهو اطمئنانا. إذ يقول رابين: "بدخولنا إلى الجنوب، أخرجنا المارد من القمقم"، ويقول أحد جنرالاتهم: "كنا هناك وكأننا على كوكب آخر، لا نفهم كيف نواجه ما يدور حولنا"، ويقول ضابط آخر: "لقد فجئنا بأننا نقاتل أناسا يحبون الموت".
أما نحن، من يرى ويسمع ويشهد هذه الانتصارات التي تسطرها المقاومة الإسلامية الباسلة، والتي لم تكن تخطر ببال، فلا بد أن يقول -ولو بينه وبين نفسه- ما الذي قيدنا كل تلك السنين؟ ولا شك أن محبي الحقيقة سيصلون إلى أننا حرمنا من تأدية الدور يوم أبعد الإسلام من حياتنا عمليا، وعدنا لننهض به حين عاد الإسلام يقود حياتنا من جديد. وهذا ما يجعلنا اليوم ندرك لما كان الإسلام هو الهاجس المرعب لقادة "إسرائيل" ومؤسسيها، وندرك بالتالي، أن القضية أولا وأخيرا بأيدينا وأننا نحن من يصنع النصر أو الهزيمة.
نساء الإسلام وفتياته اليوم في الجنوب، مدرسة للرجال الذين ارتموا تحت أقدام الذل في أقبية شياطين العصر على أساس أنهم لا يستطيعون شيئا.
الأمهات هنا يلقّن هؤلاء درسا بليغا في كيفية الرفض والإصرار، رفض جعل الأبناء خدما وعبيدا لإسرائيل والإصرار على تربيتهن كما يريد الإسلام.
الجنوب اليوم يقف برجاله ونسائه وشبابه وأطفاله وفتياته، وفق ما يمليه الموقف الشرعي، وهذا هو سر الإنتصار.
ومن هذا المنظور فقط سقط منطق الإستسلام للأمر الواقع، ومنطق الإتفاق المخزي، وفوق هذا سقطت أسطورة ما يسمى بقوة إسرائيل التي لا تقهر.
وغدا ستسقط بإذن الله أسطورة إسرائيل كدولة نهائية، بعد اقتلاعها من الجذور- كما يملي الموقف الشرعي..


 مجلة المنطلق عدد29- 1985

التعليقات (0)

اترك تعليق