مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المجاهدة الشهيدة آمنة الصدر

المجاهدة الشهيدة آمنة الصدر.. كلمة الحاجة عفاف الحكيم

باستقراء تاريخنا المنظور وبالعودة إلى البطولات والمواقف الجهادية التي قامت بها المرأة المسلمة على امتداد المسافة بين عصر الإسلام الأول وعصرنا. لا بد لأي متأمل أو باحث من أن يثمّن وباعتزاز الدور النسائي المتميز الذي جادت به أجواء النجف الأشرف. وسطرته المجاهدة الكبيرة آمنة الصدر (بنت الهدى)..
فالنهوض الذي توّج بأعظم الجهاد إضافة إلى أنه شكل حدثاً بارزاً وهاماً على صعيد المرأة المسلمة. وانعطافاً أساسياً في مسار الحركة النسائية في العراق والمنطقة تجلت فيه خصوصيات ثلاث خلعت عليه بعداً وشمولية وأكسبته صفة الفرادة.. وهذه الخصوصيات هي خصوصية الموقع العائلي. وخصوصية المكان. الذي هو النجف.. وخصوصية الزمان التي تمثل بالمرحلة وحاكمها الطاغية الظالم..
- وإنه من هنا يرتفع الحديث عن المجاهدة الشهيدة آمنة الصدر من الخاص النسائي. إلى العام الإسلامي.. ومن الحيّز النظري إلى البعد العملي.. إلى ما يوجبه التكليف ويستدعيه مشروع طلب الإصلاح في الأمة.. إلى ما تتطلبه أو تستوجبه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  التي أنيطت -بالمؤمنين والمؤمنات- كما أمرنا الله تبارك وتعالى من على صفحات القرآن الكريم.. والتي يعرّفها الفقهاء بأنها عبارة عن ثورة مستمرة في المجتمع لتعطيل كل فساد وإقامة العدل في كل الميادين...
وعليه فأن السير باتجاه رصد ودراسة حركة مجاهدتنا بمختلف جوانبها وحيثياتها والتي منها الوقوف على عنصر الزمان والمكان والمنشأ.. لا بد أن يكشف وبصورة طبيعية جداً عن معالم الرؤية الإسلامية بخصوص المرأة في صورتها النظرية والعملية.. إضافة إلى تحقيق إطلالة على ما تحفل به مسيرة هذه الشخصية النسائية الاستثنائية من الملامح والصور المعبرة.. والتي تشير وبوضوح إلى أجواء التربية الإسلامية السليمة والنقيّة التي حفظت الدين حقاً وصانته وحافظت عليه. والتي تبرز وتؤكد بأن سهم المرأة في العلم والعمل الصالح ارتفع في ظل الإسلام بل حلّق في مواقع الجد ودروب الفخار.. كلما تمّ استنهاض أو تعزيز الجهود النسائية وسنحت الفرص لتأكيد حضورهن المؤثر في مختلف الساحات- وعلى رأسها- ساحات المواجهة لدحر الظلم وإسقاط حكم الظالمين. وهذا ما أكدته التجربة الإسلامية في عصرنا الحاضر من خلال حالة القيام العام لله.. في الثورة الإسلامية المباركة على أرض إيران.
وأنه بالعودة إلى خصوصية العوائل الكريمة التي ساهمت بتوفير الدوافع لهذا اللون المتميز من الحضور.. وبتشكل هذا النموذج النسائي الفذّ– للسيدة الصدر تحديداً-.. فلا بد أن يكون وقوفنا.
أولاً: مع خصوصية الموقع الذي انطلقت منه أو النشأة التي تمثل نقطة الارتكاز بالنسبة لشخصية وحركة الفرد.. والتي لا بد أن تأخذ حيزاً هاماً من البحث باعتبار أن الهدف هو تسليط الضوء على شخصية نسائية مجاهدة كان لها ولأسرتها التأثير البالغ على مجريات الأحداث التي مرت في العراق والمنطقة ككل..
ولذا مع التأمل في خصوصية الموقع.. تتراءى لنا من جهة أجواء العائلة العريقة الجذور.. والحياة العلمية المفعمة بالمعنويات والمناخ الأسري الزاخر بكل ما يحمله من أعراف ومواريث لتفاصيل التربية الإسلامية الأصيلة والعشق المتجدد والمتوهج أبداً لعلوم أهل البيت(س) ومراقدهم الشريفة..
ومن جهة ثانية نلحظ عسر الحركة العملية بالنسبة إلى النساء ورجحان كفة التشدد الذي أملته الأزمنة الصعبة على طبيعة الأجواء.. بحيث أن أي حركة بخلاف النمط السائد في أعراف النجف هي مسألة غير سهلة على هذا الصعيد..
وعليه فإن قيام المجاهدة الصدر وتخطيها لمسائل واعتبارات عديدة ساهم مساهمة كبرى وإلى حد بعيد بالكشف عن معالم الرؤية الإسلامية السليمة تجاه المرأة في صورتها العملية.. ولو أن هذا النموذج خرج من غير هذا الموقع الأسري العريق- لجهة العلم والدين لكان من الصعب أن تكون له هذه الآثار والصدى الكبير..
فالمجاهدة الصدر كما نعلم تنحدر من عائلتي -الصدر وآل ياسين-  المعروفتين بحضورهما العلمي ومواقفهما الجهادية فهي ولدت وعاشت في بيئة ومحيط عريق وسليم وتربت على القيم والمثل والمبادئ الإسلامية..
وإن عنصرها الكريم وأصلها الوراثي النقي الذي جاءت وانحدرت منه إضافة إلى أجواء الأسرة العلمية والتربوية والاجتماعية تدفعنا للوقوف والتأمل في أهم العوامل التي تدخل في تجديد وصياغة الشخصية وترسم الخطوط العامة لها وهي عامل الوراثة وعامل البيئة وعامل التربية.

ونبدأ:
أ‌- بعامل الوراثة:
وهنا نقف مع الجذور العائلية للأسرة الكريمة المكونة من الأب المحقق الفقيه آية الله السيد حيدر الصدر وزوجته الفاضلة ابنة المرجع الديني آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين (وشقيقيه كل من المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله الشيخ مرتضى آل ياسين).. إضافة إلى الابنين البارين السيد إسماعيل الصدر وكان من أهل الفضل والعلم والورع وآية الله السيد محمد باقر الصدر المرجع الديني الكبير والمفكر الإسلامي الشهير.
- وأنه في مدينة الكاظمية. وبجانب المرقدين الشريفين للإمام موسى الكاظم(ع) والإمام محمد الجواد(ع).. وفي كنف هذه العائلة الجادة العريقة بالعلم، وفي هذه الأجواء المثقلة بالإيمان والتقوى أبصرت الطفلة النور-عام 1937- فكانت أصغر الشقيقين وأختهما الوحيدة وسميت بآمنة تيمناً باسم أم سيد الأنبياء محمد(ص).. وعليه فإنها قدمت ترفل بمناخ قلّ مثيله.. مما أضفى عميق الأثر على مكونات شخصيتها. بحيث كان لها من مخزون الأصول الكريمة التي انحدرت منها وتحديداً عامل الوراثة ودوره في عملية الربط بين الأجيال السابقة واللاحقة وحيث انتقال الصفات الوراثية من الأجداد والآباء والأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به ليس فقط عند علماء الوراثة وإنما شواهده في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وافرة قال تعالى في سورة مريم «يا أخت هارون ما كان أبوك امرئ سوء وما كانت أمك بغياً»28 وفي الحديث الشريف عن علي(ع) "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق" بحار الأنوار ص224.
فقانون الوراثة كما نعلم قانون ثابت وعام ولا ينحصر بالجانب الشكلي لأن- الكروموسومات لا تنقل الصفات الجسدية فحسب، بل تنقل الصفات النفسية والأخلاقية أيضاً.. ولكن- وكما يقول آية الله مكارم الشيرازي في أحد مقالاته- من دون تدخل عنصر الإجبار حيث تكون هذه الصفات قابلة للتغيير ولا تسلب المسؤولية من الأولاد..
مبيناً وبعبارة أخرى أن الأبوين يؤثران على الطفل أخلاقيا من طريقين طريق التكوين وطريق التشريع والمراد من التكوين هو الصفات والسجايا المزاجية والأخلاقية المتوفرة في الكر وموسومات والجينات  والتي تنتقل لا إراديا للطفل في عملية الوراثة.
والطريق التشريعي ينتقل في إرشاد الأبناء من خلال أساليب التعليم والتربية للصفات التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور.
ومن المعلوم أن أياً من هذين الطريقين لا يكون على مستوى الإجبار بل كل منهما يهيء الأرضية لنمو ورشد الأخلاق في واقع الإنسان ورأينا في كثير من الحالات أفراداً صالحين وطاهرين لأن بيئتهم كانت طاهرة وسليمة والعكس صحيح أيضاً ولا شك من وجود استثناءات في الحالتين تبيّن أن تأثير هذين العاملين وهي- التربية والوراثة- لا يكون تأثيراً على مستوى جبر. بل يخضع لأدوات التغيير وعنصر الاختيار.)
- وبناء عليه فإن الأسر الكريمة كما نلاحظ.. غالباً ما تقدم للمجتمع أفراداً متميزين على مستوى الأخلاق الحسنة والنبيلة. أفراداً لهم حضورهم البارز والمؤثر لجهة حمل قضايا وهموم مجتمعاتهم وأمتهم.. ومن هنا كان من البديهي أن تجتمع في مجاهدتنا كل تلك الصفات العزيزة كالشجاعة والإقدام وقوة التحمل والصبر والصدق والإخلاص والنباهة والتوقد الذهني وسرعة الحافظة والسعي المنتظم إضافة إلى امتلاك القدرة الفائقة على الجذب والتأثير.


ب- عامل البيئة:
 وهذا أيضاً له دوره وتأثيره البالغ في صياغة شخصية الإنسان وإبراز ملامحها باعتبار أن كل إنسان يولد في بيئة اجتماعية لا بد أن يتفاعل معها لكونه يحمل القابلية والاستعداد الذهني والنفسي.. ونقصد بعامل البيئة هنا الأسرة التي درج بين أفرادها والمحيط اليومي الذي هو دائم الاحتكاك به وصولاً إلى كل من يتصل بهم من أفراد عائلته الأوسع بصورة مستمرة فهؤلاء جميعاً لهم أثر بالغ في تحديد نمط سلوك الفرد وإيجاد وترسيخ قيمه وثقافته وعاداته وتقاليده. وكلما كان هذا الجو مرتبطاً بالله تعالى وعميقاً في معانيه كلما انعكس ذلك على الأفراد.. لأن ما يتعلمه الفرد في صغره سوف ينفذ إلى أعماق نفسه وروحه، وقد جاء عن أمير المؤمنين(ع) أن "العلم في الصغر كالنقش في الحجر".
وعليه فإن سلوك أفراد المحيط بمساعدة الجانب الوراثي والتربوي يعكس النهج والقيم على الأفراد، بما يساهم في انطباعها وارتكازها في نفس الإنسان وفكره.. وهذا ما عاشته المجاهدة الصدر منذ أبصرت النور إذ ترعرعت ونمت في أجواء علمية إيمانية مثقلة بالرضى والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى ولكل ما يأمر به وينهى عنه.. وأنه في ظل هذا المناخ.. لم يكن من الصعب أن تصاغ تلك الشخصية الباهرة التي تحمل كل تلك التطلعات والأماني الكبيرة ..
غير أن هذه الأسرة المجدّة في طاعة الله سرعان ما امتحنت بغياب الأب الذي ترك طفلته وهي في السنة الأولى من العمر مخلفاً إياها في عهدة الوالدة الحنون والأخوين اللذين أحاطاها بعظيم الاهتمام.. إذ الكل كان يرعى الطفلة آمنة كأفضل ما تكون الرعاية.. وقد أثر ذلك الجوّ الحميم المفعم بالمعنويات من حولها على شخصيتها التي تفتقت عن ذكاء وقاد وأمل كبير بمستقبل واعد..
وكان أن راحت تقطع مراحل الطفولة بوعي مبكر لكل ما يدور حولها.. ومضت  تعيش في كنف الأسرة حركة العبادة والطاعة والالتزام والأخلاق في كل مفردات حياتها.. وأخذت المفاهيم الروحية تتسلل إلى عقلها ووجدانها بشكل عفوي من اجل أن تتحول إلى عادات متأصلة ومتجذرة  في عمق شخصيتها..


ج- عامل التربية:
وتعتبر التربية العامل الأقوى في تكوين شخصية الفرد إلى جانب عاملي الوراثة والبيئة.. وهنا نشير إلى تميز التربية الإسلامية العملية من خلال المربي الصالح بأنها الأشد تأثيراً في شخصية الفرد باعتبار أن المربي يعمل بما يأمر به وينهى عنه، ولذا تتم عملية الإقتداء بصورة تلقائية..
فأداء الفرائض والواجبات والقيام بالآداب والمستحبات المنصوص عليها في أوقات معينة. هذا كله له تأثير كبير على سلامة الأسرة كبيئة خاصة من الناحية الروحية
والنفسية.. باعتبار أن العبادات والمستحبات تشكل منظومة تربوية عظيمة صيغت بطريقة عبادية.. ولذا حين نقول أن الطفل نتاج أسرته فذلك لأن الكثير من معالم شخصيته تحددها طبيعة التربية التي يخضع لها.. التربية الناتجة عن الإطار الثقافي والاجتماعي والأخلاقي الذي تعتمده الأسرة في سلوكها..
فكيف إذا أضفنا إلى هذا توفر المربي الورع الذي يمتلك النظرة المستقبلية البعيدة لما ينبغي أن تكون عليه صورة الذكور والإناث لجهة معرفة الأدوار الخاصة بهم والقيام بها كما رسمها الله سبحانه وتعالى.
وعليه فأن مهمة الأسرة ليست بسيطة وسهلة.. بل هي مهمة شاقة خاصة في المجتمعات التي تتحكم فيها الكثير من الأساليب الطارئة أو الموروثة والتي لا تمت إلى الإسلام بصلة.
ولقد نعمت مجاهدتنا باكراً بهذا المناخ. ونعمت معه بالتوجيه السليم وبالتربية الإسلامية الصافية بحيث نمت نمواً مميزاً بإشارات فارقة.. إذ نلمح وبوضوح تفاعلها مع المفاهيم والآداب والتوجيهات التربوية. والتي تمثلت بسرعة تجاوبها مع برامج طلب العلم والنهوض بالمتطلبات التي وضعت من قبل الأخوين حرصاً وتأكيداً منهما على ضرورة التحصيل والتعلم داخل المنزل وأنه رغم شديد المعاناة بوفاة السيد إسماعيل وما خلفته تلك الصدمة في نفسها من الألم والحزن إلا أن شخصيتها المتنورة الصلبة كانت تحمل استعداداً وافراً لتقبل المحن، فبقيت تتوهج باستطراد بجانب شقيقها السيد محمد باقر الذي أعطاها كل الرعاية وحتى آخر لحظة من لحظات جهادها الكبير..
ويبقى أن كل ما تقدم أو ما حملته الصفحات الأولى من أحوال مجاهدتنا إنما يعود كما نلاحظ إلى ما حباها الله تعالى به من خصوصية الموقع الأسري الذي أبصرت في وسطه النور.. أو النشأة التي حفلت بمحيط عائلي عزيز ومناخ قلّ مثيله.


- خصوصية المكان:
وهنا تترأى لنا ساحة النشاط وتحديداً مدينة النجف الأشرف التي تم انتقال العائلة إليها من الكاظمية بعد غياب الأب..
محيط ذي خاصة علمية رفيعة فرض الحرص والحذر عليه أن يضرب سياجاً احترازياً من التشدد والتمسك بتقاليده وأعرافه الإسلامية المتوارثة، بحيث أن المرأة الزائرة للنجف.. كانت تجد حرجا شديداً في الخروج على الزيّ السائد فيها.. غير أن هذا المناخ الأصيل المعافى لم يوفق القيّمون فيه ولأسباب كثيرة في ذلك الوقت.. من فرض معادلة حاسمة تضمن للمرأة ليس فقط تعلم المبادئ الأولية للقراءة والكتابة بل مواصلة طلب العلم ونيل الدرجات الرفيعة منه مع التمسك بالتشدد الإيجابي البناء.. وحيث الوعي والعلم مع الضوابط الشرعية يحوّل الأسر قلاعاً في مواجهة الشدائد والمحن.. وهذا حتماً عكس التشدد السلبي الذي يجعل من خروج المرأة اليومي ولو لطلب العلم أمراً منافياً ومحل التفات كبير..
فكيف إذا كان هذا الخروج من أجل العلم والعمل والنشاط الاجتماعي والتبليغي إضافة إلى التدريس والإشراف الإداري على مدارس للفتيات في النجف وبغداد.. ثم كيف إذا كان هذا النشاط في ظل الإرهاب الذي يرصد حركة المؤمنين ويعطل لهم كل عمل ويسد عليهم كل منفذ. بل يمارس البطش والتنكيل والاعتقال والقتل الذي ملأ بيوت العراقيين رعباً وآلاماً وآهاتاً ودموع.
شقيقة المرجع الكبير السيد محمد باقر الصدر السيدة آمنة الصدر في ظل هذا كله خرجت لتلبية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أوجبها الله تعالى على المؤمنين والمؤمنات من رجال الأمة ونسائها إذ قال تعالى في سورة التوبة(71)«المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» وقد عرّف الفقهاء بأن المعروف هو كل ما أوجبه الإسلام من تبليغ الرسالة إلى إقامة العدل في كل الميادين.. وأن المنكر الذي ينهى عنه هو محاربة كل فساد في الأرض..
وعليه كان أن خرجت ابنة العائلة العريقة المحافظة لتوزع نشاطها بين النجف والكاظمية أسبوعيا.. فتستقل سيارة الأجرة متنقلة من محطة إلى محطة ومن مدينة إلى مدينة عبر حركة لم تكن مألوفة أو متعارف عليها. بل كان هذا في العرف العام من حولها يعد شيئاً منافياً للتقاليد المحافظة بحيث نالت الأسرة الكثير من اللوم والانتقاد..
فالمجاهدة الصدر اجتازت أموراً كثيرة وكسرت اعتبارات لم يكن من السهل تجاوزها لولا الدعم المباشر من شقيقها العلامة الشهير والمفكر الكبير الذي أراد من خلال شقيقته المبدعة ليس فقط أن تأخذ حقها من العلم والعمل.. بل أن يكشف من خلالها عن معالم الرؤية الإسلامية السليمة تجاه حركة وحضور المرأة وكان هذا بعد أن تأهلت وتتلمذت على يديه الكريمتين ونهلت رحيق العلم من دروسه وأحاطت بأساليب العمل عبر توجيهاته وإرشاداته. إذ كان بمثابة القائد والأستاذ وشريك الدرب والملاذ والسند والموجه لها في كل مراحل حياتها وفي كل تحركاتها وأعمالها..
فهو من رسم لها طريق العلم وخطوطه العريضة في مطلع حياتها وكان له الدور الكبير في بناء شخصيتها وصياغة أفكارها وتشجيعها على النشاط التبليغي ومن ثم على الكتابة والتأليف والتصدي للعمل النسائي بكل أبعاده التربوية والاجتماعية..
ولذا كانت إذا جلست إليه تحادثه في بعض مسائلها وأمورها كما تقول.. تشعر وكأنه فتحت لها نوافذ وآفاق تنير لها مسيرها وتسدد خطاها أكثر فأكثر فتعيش عظم المسؤولية المترتبة عليها وأبعاد ما هي ماضية فيه من خطى..


- خصوصية الزمان:
وهنا تترأى لنا المرحلة القائمة التي حملت إلى السلطة طاغية العصر -صدام- حملت سنوات حالكة من الفتك الذريع والظلم والتنكيل والاعتقال والقتل والموت بألوان مختلفة بشعة تدمي القلوب وتنفطر لها الأفئدة.
سنوات حفلت بجرائم تقشعر لها الأبدان إذ لم يفرّق فيها بين صغير وكبير أو بين أم وطفل ورجل طاعن في السن. بين شيخ أو عالم أو مفكر بل أن الموت كان يترصد الجميع ليجزّر بهم من غير حساب وبأعداد هائلة..
وأنه في هذا الزمن الصعب كان الدور الاستثنائي الذي نهضت به السيدة الصدر. وأن أهمية هذا الدور تكمن في تماسك الحلقات فيه على مستوى التطبيق. إذ ما الفائدة العملية كما يقول الشهيد مطهري- في كتابه إحياء الفكر الديني..- التي ستنجم عن تأكيد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. وأن فوائده ومزاياه ليس لها مثيل عن طريق القلم والخطابة؟ أن حاجة العصر تتطلب إبراز هذه المزايا بصورة عملية في عالم الواقع).
وانه من هذا المنظور نجد أن دور مجاهدتنا شكّل محطة حقيقية في تاريخ المرأة المسلمة بعد تلك الحقبة المضنية التي منيت بها الأمة. والتي تمت خلالها تراجعات حادة عن النهج القويم.. وقد حصل هذا نتيجة التقاء الطاقة المؤهلة بالمرشد القدير فكان أن ظهر النموذج الحقيقي للمرأة المسلمة في مقابل متاهات إفراط المتحجرين الذين أقفلوا باسم الإسلام جميع الطرق المؤدية إلى تكامل وتمتين شخصية المرأة وتمكينها من حقوقها الطبيعية المشروعة.. والأخذ بيدها بعيداً عن مآسي وتفريط المنبهرين بمظاهر الحضارة الغربية الهزيلة وثقافتها المثقلة بالسموم. أو تفريط المخدوعين بثقافة الأحزاب العلمانية المادية المستوردة بهدف تدمير وإعاقة الشخصية الإسلامية الأصلية في مجتمعاتنا..
وأنه في هذا الزمن الصعب الذي تم فيه مسخ المجتمع وسحق الهوية- في سائر أقطارنا- والذي أنتج جيلاً من الآباء والأمهات في آذانه وقر عن سماع صوت الدين.. كان النهوض المتكامل في أسرة المجاهدة الصدر.. فكان بزوغ هذا النموذج النسائي بمثابة إشراقة بعد حقبات طالت قرون طويلة.. أي منذ حرف مسار الأمة وتسلط عليها من كان ينقصهم الهم الحقيقي.. مروراً بمخططات الغزاة وجهودهم الخبيثة التي جعلت إسقاط دور المرأة في سلم أولوياتها لكونه الجسر المؤدي إلى الأسرة التي يأملون أن تنتج لهم جيلاً يتلاءم مع أفكارهم ومشاريعهم الاستعمارية..
وكان أن وصلوا- بعد مداورة الإفراط والتفريط وإنهاك المجتمعات- إلى تحقيق انتصاراتهم الكبيرة في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة بحيث بات السائد -في مجتمعات خير أمة..- أن نرى الأسرة بأجمعها تمسي وتصبح وهمها الدنيا ولو عبر التمسح بأعتاب وأقدام الظالمين.. بحيث بات الجهلة والحمقى والموتورين والحقودين والدمى التي يتم التحكم الكلي بحركتها.. هي من تمتلك زمام السلطة في كل بلد على امتداد العالمين العربي والإسلامي..
نعم في هذا الزمن كانت إشراقة المجاهدة(بنت الهدى)..
وأنه بالعودة إلى ما أمكن الإطلاع عليه.. إذ قدر لي بفضل الله تعالى أن أزور تلك الأرض الطاهرة.. والتقي المجاهدة الكبيرة قبل استشهادها بعام. بعد أن كنت دائمة البحث والسؤال.. منذ خصني أحد العلماء.. بعدد من- مجلة الأضواء- ووقع نظري على تلك الصفحة التي تصدرتها كلمات- بقلم بنت الهدى- عبارة صغيرة لكنها يومذاك كانت بالنسبة لي مدوّية.. وعليه فإن السؤال بات ما ينفك يسبقني لأي من القادمين والقادمات من تلك الديار.. كنت أريد أن أعرف المزيد عن صاحبة هذه الشخصية النسائية الإسلامية الفذّة التي اقتحمت بقلمها وحضورها المتميز أجواء النجف وساحة الفعل علماً وعملاً وحركة ونشاط كاسرة ذاك الطوق الذي استحكم وطال.. على مستوى المرأة المسلمة الملتزمة وفاعلية حضورها ودورها والمهام المنوطة بها- كتكليف رباني ثقافياً وتربوياً واجتماعياً.. إضافة إلى النهوض السياسي والجهادي ورفع لواء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تختصر كل العناوين..
وأنه مع توفر أو إيجاد الفرصة- صمّمنا عائلياً على زيارة المراقد المقدسة رغم الحذر الشديد الذي كان يلف العراق حينها لجهة الغليان الذي كان يسود كافة المناطق وخصوصاً النجف الأشرف..
غير أن شقيقتي- أم زهراء- التي ذهبت قبل عام.. باتت وزميلتها في الدراسة- الشهيدة أم ياسر الموسوي- على تواصل مع تلك الشخصية الإسلامية العالمة والعاملة.. وعليه فأن زيارة منزل المرجع الديني الكبير السيد محمد باقر الصدر كانت مؤمّنة وميسرة رغم أن رجال المخابرات الشرسين كانوا يتابعون الزائرين بشكل وقح منذ دخولهم الزقاق المؤدي إلى ذلك الدار الكريم- كما رأينا- إذ بقيوا في انتظارنا حتى كان الخروج لتبدأ المتابعة من جديد ولذا كان لا بد من دخول المرقد المقدس لأمير المؤمنين(ع) لقضاء بعض الوقت في الزيارة قبل التوجه إلى المسكن الذي نقيم فيه.. خصوصاً وأن توصية الجميع في لبنان كانت بعدم التكلم أو النقاش مع أي أحد..
المهم أن المجاهدة الصدر كانت حينها في الكاظمية لمتابعة الوضع الصحي لوالدتها, ولذا قررنا في اليوم التالي الذهاب إلى حيث هي.. وكان أن استقبلتنا بحرارة وحفاوة بالغة شعرنا معها بأصداء تلك المودة الغامرة والمتوارثة روحياً وتربوياً بين محبي أهل البيت(ع)...
وبعد الحديث عن أوضاع لبنان الذي زارته وأحبته وأوضاع مجتمعنا النسائي الذي شاهدت تأثره الكبير بموجة التغريب.. انتقلنا إلى الأجواء الثقافية والتفاعل الكبير الذي أحرزته عندنا كتب فلسفتنا واقتصادنا والمدرسة الإسلامية بين مختلف الفئات والطوائف وخصوصاً عناصر الشباب وطلاب الجامعات.
وكان أن غصنا في جلسة مؤثرة بحيث لم ننفك نحن عن السؤال. ولم تتعب هي من الإجابة بتفصيل.. فمضى الحديث الذي جرى قبل استشهادها(رض) بعام هادئاً متشعباً مثقلاً بألوان جاذبة من الارتياح والود والثقة..


معالم المرحلة الأولى من حياة المجاهدة الصدر:
في ذلك اللقاء الغامر يومذاك.. حدثتني عن مراحل حياتها وسنيّها الأولى المثقلة بألوان الجد والتحصيل وكيف بدأت بتلقي مبادئ القراءة والكتابة داخل البيت باكراً بحيث لم تذهب لمدرسة رسمية أو كتّاب.. وإنما فقط كانت تنهل برفق وتمهل وبخطوات محسوبة بين يدي والدتها الكريمة من جهة وأخويها- السيد محمد باقر والسيد إسماعيل- مركزة على الرعاية الفائقة والاهتمام البالغ من جانبهما بعملية تعليمها. إذ كانا مع الدأب والمتابعة يغدقان عليها الكثير من العطف ويحيطانها بألوان من الاهتمام. فمن جهة يحملان لها الدفاتر والأقلام الملونة، ومن جهة ثانية يأتيانها بالهدايا والحلوى أو يبادرانها بالسؤال والحوار، إضافة إلى الحث على المثابرة وتقديم المكافئة على الجد والتحصيل..
فقد كان كل واحد من الأخوين بالنسبة لها بمثابة المربي والأسوة الحسنة التي تتطلع إليها لتقتدي بها.. فكان أن تعلمت في المرحلة الأولى مبادئ القراءة والكتابة الأولية.. وبعدها بدأت بدروس، النحو وعلوم الحساب والسيرة النبوية المطهرة بحيث واظبت بدقة ودأب ودرست بشغف كبير دون أن تفوتها المسارعة إلى سماع كل ما يتبادله أخويها من مواضيع علمية ومجادلات كلامية فتجلس بقربهما وتتابع ما يدور بينهما باهتمام بالغ.. وكثيراً ما كانت تطرح سؤالاً في موضوع البحث فيتعجب الأخوين من دقته وأهميته.. إذ كانت كما هو ملحوظ بشخصيتها تتمتع بذكاء متوقد وسرعة حافظة وقابلية وولع غير محدود بالمطالعة فتبادر لقراءة أي كتاب مفيد يمكنها الوصول إليه عن طريق الشراء أو الاستعارة بحيث لم تقتصر- كما قالت- على الكتب الإسلامية وإنما تناولت كتباً مختلفة علمية وفلسفية وقصصية بل كانت تقرأ كل ما يصل إلى يدها.. مبيّنة أهمية ما حظيت به من جانب السيد محمد باقر تحديداً والذي كان له دور فعّال في حياتها خصوصاً بعد انتقال العائلة من الكاظمية إلى النجف الأشرف.
ومن سنة إلى سنة راحت آفاق الطالبة المجدّة تتسع وراح العطف الأخوي ينتظم عملياً من أجل أن يسند خطواتها المتوثبة ويوسع في نفسها رويداً رويداً معابر نحو مختلف العلوم. فكان أن درست المنطق والفقه والأصول وعلوم القرآن وصولاً إلى الاطلاع على باقي المعارف الإسلامية.. والانتقال إلى مرحلة جديدة وهي المناقشة وطرح الأفكار والتوصل إلى معرفة الرأي الصحيح والفكرة الصائبة.. وهذا إضافة إلى التفاعل الروحي والنمو الفكري والانسجام الحميم مع كل ما كانت تموج به أجواء شقيقها العلامة الكبير من ألوان المسؤولية وعظيم التطلعات..


المرحلة الثانية:
وهذه المرحلة نطالعها مع نضوج شخصية المجاهدة الشابة علمياً ودينياً وتطلعها الحيوي للقيام بواجبها وبالدور الملقى على عاتقها كمسلمة خصوصا على مستوى توعية نساء مجتمعها  خدمة للدين العزيز وتأسياً بالنهوض العملي  الجليل لسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(س) وأبتها الحوراء زينب(س) التي اختارت طريق الإصلاح في أمة جدها(ص).. فوقفت بجانب أخيها وأمام زمانها الإمام الحسين(س) ثم واصلت وأكملت بعده المسير..
وإنه بفضل التأسي بنهج أهل البيت(ع) كان إن اتجهت المجاهدة الصدر نحو التدريس والتبليغ والدعوة إلى الإسلام بدعم وتشجيع مباشر من الأخ المجاهد- كما روت- عاملة على ممارسة التأثير الاجتماعي من خلال التوعية والتثقيف للعناصر النسائية والشابة منها بخاصة التي كانت تحمل هم تأثرها ببريق ما يسمى بالحضارة الغربية.. والانقياد لخداع المضللين.. إذ كان يعز عليها كثيراً أن ترى الفتاة الجامعية ما أن تدخل لطلب العلم حتى تبتعد عن مثلها وقيمها وما فرضته تعاليم الإسلام عليها من التحفظ والحشمة والانضباط..
وإنه مع إدراكها لحاجة مجتمعها النسائي ليد أمينة تمتد إليه وقلب مؤمن طاهر مثقل بالحنو مع الفهم الجديد للفكر والثقافة الإسلامية.. نجدها تنهض بقوة لتأدية الدور الذي استقطب حياتها كلها.. بحيث أدت على صعيد التبليغ دوراً فعالاً وهاماً إذ كان على مستويين. المستوى الأول كان ثقافياً عاماً في دائرة واسعة تناسب تلك المرحلة.. والمستوى الثاني كان يستهدف طالبات الجامعات والمعلمات والعناصر الواعية من طالبات المعاهد والمدارس بحيث حرصت على التفرغ الكامل من أجل إعادة هذه الشرائح إلى التمسك بتعاليم الإسلام.. فكان أن بدأت تعقد جلسات توعية دورية في بيتها وفي بيوت المؤمنات الواعيات في النجف والكاظمية ممن التففن حولها وأحببن خطها ونهجها.. وحيث استمرت تلك الجلسات التي كانت تحضرها الكثيرات.. محدثة بذلك نهضة نسائية هائلة في مجتمعها وذلك بفضل ما عرفت به من قابلية كبيرة على جذب طالبات المدارس والجامعات.. لعذوبة لسانها ولطافة منطقها وتواضعها الجم.. بحيث لم يكن يلحظ فيها سلوكاً قائماً على أساس أنها ابنة البيت العلمي والديني الذي يمنحها مكاسب تميزها عن الآخرين. فلا كبر ولا استعلاء ولا غرور بل تواضع وبساطة ومحبة واحترام متبادل مع الآخرين وبهذا استطاعت أن تحتضن مشاكل وهموم الكثيرات وأن تربي وتوجه أعداداً كبيرة من تلكم الفتيات وتعيدهن إلى أجواء الالتزام والوعي الديني.. وصولاً إلى إعدادهن لتحمل المسؤولية. ولممارسة نفس الدور وخلق طاقات علمية نسائية قادرة على إيجاد حوزات علمية ومعاهد تتحمل المسؤولية تجاه نشر الثقافة الإسلامية الأصيلة من مصادرها النقية الصحيحة.. ووصولاً إلى زرع بذور العمل النسائي الواعي ونشره في المجتمع.
ثم كان أن اتسعت بعد ذلك آفاق العمل واستلمت المجاهدة الصدر مسؤولية الإشراف على مدارس الزهراء في النجف والكاظمية بهمة عالية وشغف كبير لعلمها أن المدارس من أفضل الأساليب التي يمكن من خلالها تربية الأجيال وتوجيهها وتحصينها من سموم الثقافات المادية.. فكانت تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع إلى الكاظمية فيما تقضي الأيام الأخرى في النجف عاملة بكل ما أوتيت من قوة عبر تدرج العديد من الطالبات بين يديها.. على مواجهة الثقافات المادية التي اجتاحت المجتمعات والبيوت والتي كانت تنخر في جسد الأمة.. بحيث استطاعت بما امتلكته من تواضع وخلق رفيع وقدرة فائقة من إيصال الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة لكثير من الطالبات وحتى المعلمات عبر الجلسات الأسبوعية للهيئة التعليمية.. بحيث تمكنت من الإسهام بدور كبير في نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة من جهة.. ومن جهة ثانية في تطوير هذه المدارس إداريا ومنهجياً من خلال الإشراف الرصين والمسؤول فكانت بحق خير مشرفة ومعلمة ومربية..


أما في المرحلة الثالثة:
فنجدها(رض) تقدم على خطوة جريئة ورائدة في مجال الكتابة الموجهة والهادفة لتثقيف نساء مجتمعها والعمل على استنقاذهن وتحصينهن.. وقد روت المجاهدة الصدر في هذا المجال... أن شقيقها العلامة السيد محمد باقر الصدر فاجأها ذات يوم بطلب كتابة مقال لمجلة الأضواء التي لعبت دوراً بارزاً في تنمية وتقدم الحركة الإسلامية في العراق والتي تقرر أن يصدر العدد الأول منها, فدهشت لكونها لم تكن مستعدة بعد.. لكن مع إصرار السيد.. كانت الإجابة وتم التحضير.. غير أن المقالة أعيدت بعد أن جوبهت باعتراض أعضاء الهيئة العلمية المشرفة على المجلة. وحيث جاء الاعتراض على أصل نشر مقالة لفتاة من على ذلك المنبر المتميز بنتاجات جمع من أقلام العلماء لا سيما وأن المقالة تحمل الاسم الكامل والصريح..
وكان أن بقى السيد الشهيد لعدة أسابيع يعاني من هذا الأمر غير أنه بقي مصراً على ضرورة إفساح المجال للكلمة النسائية إلى أن ربح الجولة وظهر النتاج الأول.. لكن بعد أن اختار له أسم -بنت الهدى بدل آمنة الصدر..-
وكان أن انتقلت من ثم من كتابة المقالة إلى تأليف الكتب الإسلامية وكتابة القصص الهادف لمخاطبة الجيل الناشئ بأسلوب قصصي محبب يجعلهن اقرب إلى عقيدتهن ورسالتهن الإسلامية فكان من نتاجها (المرأة مع النبي. وليتني كنت أعلم. امرأتان ورجل. الفضيلة تنتصر. والخالة الضائعة. لقاء في المستشفى. الباحثة عن الحقيقة. صراع مع الواقع. ذكريات على تلال مكة. بطولات المرأة المسلمة. كلمة ودعوة. وغيرها..)
وهكذا راحت بنت الهدى توظف قدراتها الأدبية في سبيل غرس القيم والمبادئ في مرحلة هي من أشد المراحل خطورة على شرقنا المسلم حاملة الكلمة الحارة المعبرة إلى كل فتاة مسلمة في كل مجتمع إسلامي.. ثم اتجهت من كتابة المقالة إلى التأليف جاعلة من القصة الإسلامية والحوار الهادف والبحث الفكري أسلوبا من أساليب الدعوة إلى الله. وحيث عالجت في كتاباتها المفاهيم والتقاليد البعيدة عن الإسلام متناولة مسألة الحجاب وحقوق المرأة والشبهات التي تصور المرأة وكأنها مقيدة بقيود تشل حركتها في المجتمع. عاملة عبر شتى السبل على إيصال صوتها إلى الجيل الناشئ وإلى أكبر عدد من النساء بأسلوب جاذب ومبسط مستقطبة بذلك جماهير الطالبات والفتيات الجامعيات وغير الجامعيات من أجل أن تنهض بهن ثقافياً واجتماعياً وسياسياً بحيث تبوأت بحق قيادة العمل النسائي الإسلامي في العراق بكل جدارة واستحقاق.


أما في المرحلة الرابعة والأخيرة:
فيما علمناه- من حياة المجاهدة الكبيرة التي لم تكتف بكل ما سبق.. وإنما أكملت السير باتجاه الساحة السياسية والجهادية. ساحة التحدي ومقارعة الطغاة والظلمة بحيث استطاعت أن تشق الطريق وتواصل المعترك وتتحمل أعباء النهضة النسائية حتى في هذا الاتجاه ببراعة وذكاء وثبات وعزم باذلة الوسع في تلك الحقبة السوداء التي كانت من أتعس الحقبات التي عرفها العراق لجهة الظلم والقهر والتنكيل بالمؤمنين بشتى ألوان الوحشية والإجرام..
فهي باكراً عايشت وواكبت عن قرب كل تفاصيل تلك الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي كانت سائدة.. إضافة إلى أنه كان لها جلسات كثيرة تجلس فيها إلى أخيها المجاهد الكبير.. لتستمع إليه أو تستعرض معه المواضيع والأحداث المختلفة التي كانت تضج بها أجواء العالمين العربي والإسلامي والتي منها أحداث المؤامرة الخسيسة لجهة تغييب سماحة الإمام موسى الصدر(أعاده الله سالماً) عن ساحة الجهاد والمقاومة في لبنان..
أو حالة الإرباك الدولي التي عصفت بموازين القوى حين أشرقت شمس الإسلام في ايران وسطع نجم آية الله الإمام الخميني(رض).. الذي أدهش العالم بقدرته ومبادئه وحكمته.. إذ كان بالنسبة لعموم المسلمين والمستضعفين النموذج القدوة الذي أخاف كل طغاة الأرض وأرعبهم.. كان القائد الذي فتح الباب على مسراعيه ليتبوأ الإسلام مكانته اللائقة في هذا العالم..
وعليه فإن المجاهدة الصدر كانت- كما العادة- مع اشتداد الأحداث تلوذ بالجلوس إلى شقيقها لتتابع توجيهاته ومواقفه البناءة وأحاديثه المؤثرة لطلابه ومحبيه والتي كانت تتناقلها وسائل الإعلام أن (ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هذا الإمام في الإسلام)( لقد حقق الإمام الخميني حلم الأنبياء).
وهكذا كان(رض) لا ينفك عن الحديث إليها في كل ما تتوق إليه. بل كان يأنس بها ويستجيب لكل أسئلتها واستفساراتها كما هو معروف في العائلة.. كان يستمع إليها بدقة ويحترم برامجها وأفكارها ووجهات نظرها وبهذا نلاحظ أن تحركها في المجال السياسي منذ البدء كان ضمن رؤى واضحة المعالم..
إذ كانت واقعاً الصدى الحقيقي لشقيقها السيد الصدر. في عقله وروحه وهدفه.. فقد شاركته مسيرته وكل ما كابده فيها من هموم ومشاكل.. كما شاركته صراعه المرير مع السلطة الظالمة ووقفت إلى جانبه في صف المواجهة الأول..
- ولذا كان من الطبيعي أن لا تهدأ ولا تستكين على مستوى شرح الموقف السياسي المطلوب لجميع من تعمل معهن بشكل منتظم ودقيق.. عاملة بكل ما أوتيت من قوة على تعبئة المجتمع النسائي لتوجد فيه حالة من الوعي لما يجري حوله تحصنه من الضلال والانحراف. وتهيئه عملياً لمناهضة ظلم السلطة ومخططاتها وأساليبها التي تدعو إلى الفساد والتردي الأخلاقي..
- وهذا إضافة إلى استنهاض النخب الواعية لتوجيهها وتربية نفوسها على الشجاعة والبطولة والتضحية والإقدام وتنمية الروح الجهادية لديهن ضد أعداء الله.. متحملة في سبيل الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله مختلف أنواع المشاق والتعب. خصوصاً عندما راحت الحكومة العراقية الظالمة تذرع القهر والرعب وتضع العراقيل والمخاطر في طريقها.. غير أن أي من هذه الأمور لم تثنها عن مواصلة المسيرة بل كانت رغم الأهوال والشدائد تمضي ثابتة الخطى في أي عمل تقوم به منذ أدركت بأن الله تعالى منّ عليها بشقيق روحها السيد الصدر.. الذي كان يعضدها ويسدد خطاها ويرسم لها معالم الطريق الذي عرفته وقرأت عنه حتى لا تستوحش في طريق الحق ولو قلت السالكات فيه. الطريق الذي ستجده خالياً من المنبهرات ببهارج الدنيا وزخارفها.. بل ستجد فيه حرارة الإيمان الحسيني والزينبي الذي يتوقد في قلوب المجدات..
ومن هنا نجد أنها كانت مهيأة وحاضرة لأي موقف أو مواجهة عندما أقتحم الظلمة الدار الكريمة وتعرض شقيقها آية الله السيد محمد باقر الصدر للاعتقال وكانت تلك الأيام العصيبة في النجف وحيث عم الخوف والرعب كل مكان.. وكانت حشود السلطة الجائرة تعتقل كل من يقع في قبضتها..
أما المجاهدة بنت الهدى فكانت البطلة التي وقفت بمنتهى الشجاعة ورباطة الجأش حينذاك.. إذ خرجت وتحدثت في الجموع منددة بجلاوزة السلطة وما يقومون به من أفعال مشينة وما ينشرونه من رعب وخوف.. مرحبة بالموت في سبيل الله..
وبعد لحظات نظمت تظاهرة حاشدة انطلقت من الحرم المطهر ساهمت فيها النساء مع الرجال وأدت إلى إجبار السلطة بعد ساعات قليلة للإفراج عن شقيقها السيد الصدر..
وأنه مع تفاقم الأحداث في تلك الأيام العصيبة التي كانت تلف العراق والتي شهدت تحركاً سياسياً واسعاً عمّ سائر أنحاء العراق وذلك جراء اعتقال عدد غفير من كوادر الحركة الإسلامية.. وإنزال حكم الإعدام بخمسة من بينهم مما فاقم الأمور ولجأت الوفود إلى النجف من شتى الأنحاء لتجدد العهد والولاء للمرجع الكبير السيد الصدر فكان أن أحست حكومة الجور في بغداد بخطورة الموقف وتفاقمه.. وخوفاً من أن يفلت زمام الأمر من يدها عادت ثانية وأقدمت على اعتقال السيد الصدر وذلك في/5 نيسان/1980 م وكان أن نهضت المجاهدة مع تحسسها لخطورة المرحلة.. ومضت إلى مرقد جدها أمير المؤمنين(ع) وهناك نادت في الجموع بكلمات مؤثرة وبخطاب يدل على شجاعتها وقوة إرادتها وعدم خوفها من النظام الحاكم.. مبينة للجميع فداحة ما ارتكبته السلطة الجائرة- إن يا أيها الناس لقد اعتقل مرجعكم..-
وكان أن خرجت التظاهرات وانتفضت النجف في ذلك اليوم بما أرعب النظام.. ثم كان أن اعتقلت صاحبة الموقف البطولي بعد يوم واحد من اعتقال أخيها ونقلت فوراً إلى بغداد تحت حراسة مشددة.. وبعد ثلاثة أيام تم تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد الكبير آية الله السيد محمد باقر الصدر وبالبطلة المجاهدة آمنة الصدر. بصورة إجرامية بشعة ستبقى نكسة في تاريخ الإنسانية وفي تاريخ مؤسسات الرياء والخداع التي تسمي نفسها بمنظمات حقوق الإنسان.


ختاماً:
أن تضحيات وجهود شهيدتنا الكبيرة آمنة الصدر -بنت الهدى- التي حملت  في قلبها  هماً واحداً وهو خدمة الإسلام- نائية بنفسها عن كل هموم الحياة  الدنيا ومشاغلها والتي تحركت في الزمن الصعب والمكان الصعب والموقع الصعب- أثمرت بفضل الله تعالى نشاطاً طيباً مباركاً بعد أن تركت بصمات نشاطها وجهادها في عقول وقلوب فتيات العراق بشكل خاص وباقي النساء بشكل عام.. وهذا إضافة إلى مؤثرات الخلق الإسلامي الرفيع والسلوك النموذجي التي كانت تتحلى به والذي كان مصداقاً للحديث الشريف "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم. ليرى الناس منكم الصدق والورع والاجتهاد".
نعم لقد جعلت الشهيدة الكبيرة كل وقتها ونشاطها للعبادة وذكر الله تعالى وتحصيل العلم ونشر الهداية قياماً بالفريضة الكبرى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحيث عملت بإرادة صلبة على تجاوز تفاصيل ظروفها التي لم تكن هينة فكانت بحق رائدة ونموذجاً شامخاً للمرأة المسلمة.
وإن آثار هذا كله ما زال وسيبقى يتفاعل في النفوس الصافية والآبية وذلك بعد أن تخرّج على يديها عدد كبير من الفتيات والنساء النشيطات هنّ اليوم مبلغات وكاتبات وعاملات ورائدات في العمل النسائي وحيث يؤدين واجبهن بإلقاء المحاضرات والدروس وإقامة الاحتفالات وإحياء المناسبات في شتى بلدان الاغتراب في العالم.. إضافة إلى العديد من البلدان العربية.. إذ حققن بالفعل أمل الشهيدة السعيدة والكبيرة آمنة الصدر -بنت الهدى- التي تمكنت في ظل مدرسة شقيقها العلامة المجاهد آية الله السيد محمد باقر الصدر من أن تحمل قبساً من النهوض الزينبي.. وتعمل على إعادة ربطه بسلكه المضيء.. بعد أن تم قطعه ليحال بينه وبين تلك الصور التي تواصل ضوءها ودورها عبر ساحات جهاد المعصومين ومحبيهم على امتداد التاريخ.
وإنه من هنا إذا نظرنا في حيثية -الزمان والمكان والموقع- ووقفنا ملياً مع أبعاد الانجازات العلمية والعملية التي نهضت بها وحققتها الشهيدة الصدر.. إضافة إلى الأثر العميق الذي تركته في الوسط النسائي.. وإلى وقوفها ومؤازرتها لأخيها المجاهد الكبير وصمودها وصبرها على الشدائد والمحن وكل ما أعترضه من تحديات ومشاكل وهموم.. لعرفنا لما سارعت السلطة الجائرة لاعتقال وقتل مجاهدتنا الكبيرة(رض) والإصرار على عدم بقائها حية بعد شقيقها.. العلامة الكبير آية الله السيد محمد باقر الصدر(رض). فهم يعلمون جيداً أبعاد المدرسة الحسينية التي سكنت أعماق القلوب. وأبعاد الموقف الزينبي.. الذي رسمت معالمه حفيدة سيد الرسل محمد(ص) يوم واصلت المسيرة وكانت امتداداً لثورة أخيها وإمامها الإمام الحسين(ع).
نعم لقد استلهمت الشهيدة بنت الهدى خطوات بطلة كربلاء زينب(س) بحيث وقفت بشموخ وإباء لتقول كلمة الحق التي يحبها الله تعالى في وجه الطاغية الظالم..


عفاف الحكيم
25- 4-1998 الموافق 25 ذي الحجة 1419

 


المصادر:
1- القرآن الكريم.
2- نهج البلاغة.
3- دائرة معارف الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
4- الشهيدة بنت الهدى سيرتها ومسيرتها للشيخ محمد رضا النعماني.
5- بطلة النجف –الشهيدة العالمة بنت الهدى- للسيدة أم فرقان.

التعليقات (0)

اترك تعليق