حركة جديدة في الفقه الشيعي في قضايا المرأة
في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بدأت ملامح حركة جديدة تظهر في مجال الفقه الإسلامي الشيعي حول قضايا المرأة، غير أنها لم تلفت النظر على نطاق واسع في المجال الفكري والفقهي الإسلامي العام، حيث كان الانشغال بالشأن السياسي آنذاك في أوج شدَته، ويكاد يغطي على الميادين الأخرى كافة،وذلك نتيجة التحول الإسلامي الذي حصل في إيران، هذا الحدث الذي نقل النخب والجماعات الإسلامية من هامش الفعل السياسي على باقي الاهتمامات الأخرى الفكرية والفقهية وغيرهما، حتى بات للسياسة سطوتها التي لا تقاوم.
وتجدر الإشارة إلى أن الذين حاولوا الكشف عن بداية ما سموه التطورات الحديثة التي دخلت على الفقه الشيعي في الأزمنة المعاصرة، توقفوا عند هذه الفترة وهم يؤرخون لبداية هذه التطورات، وهذا ما أشار إليه الباحث الإيراني الشيخ مهدي مهريزي، وهو يتحدث عن التطور الفقهي الجديد في مسألة بلوغ الفتيات، إذ يقول: "كان السائد في الفقه الشيعي أن الفتاة تبلغ في سن التاسعة، ولم يحصل أي إعادة نظر في هذا الرأي، بل إن هذا التصور لم يكن يخطر على بال أحد، ولكن أعيد النظر في هذا الموضوع في السنوات الأخيرة، ولعله من الممكن حصر زمن هذا التغيير بعام 1980م، حيث قدحت هذه الفكرة في أذهان قسم من علماء الدين، ودعتهم إلى بحث هذه المسألة والتأمل فيها، وقال بعضهم بعدم موضوعية تعيين سن بلوغ محدد للفتيات، وإنما الملاك في بلوغ الفتيات هو الحيض(1)".
ومع العقد الأخير من القرن الماضي، تنامت هذه الحركة الجديدة في الفقه الشيعي، ونضجت وتراكمت، حيث فقدت السياسة بعض سطوتها الشديدة التي كانت عليها في حقبة الثمانينات، واستعاد الفكر الإسلامي بعض توازنه، ورجع إلى ساحته وساحة الفقه الإسلامي بعض رجاله اللذين انصرفوا عنه من قبل وانغمسوا في ساحة السياسة.
وخلال هذه الفترة، وتحديداً عام1994م، صدر كتاب "مسائل حرجة في فقه المرأة" للشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو كتاب يصلح لأن يؤرّخ للتطور الفقهي الذي حصل خلال تلك الفترة، فقد أضاء على المسائل التي وصفها بالحرجة في فقه المرأة، وهي المسائل المتعلقة بأحكام علاقة المرأة بالسياسة والمجتمع والدولة.
وفي هذا الكتاب قدم الشيخ شمس الدين تأملات في نقد وتجديد منهج النظر والاستنباط الفقهي في أحكام المرأة والأسرة، وناقش بعض الآراء ووجهات النظر المطروحة والمتداولة في هذا الشأن، ناقداً لها ولمنهجية استنباطها، ومتبيناً لآراء ووجهات نظر استدلالية وبرهانية مغايرة في المعنى والمبنى.
وقد حافظت هذه الحركة الجديدة في الفقه الشيعي على نموها وتطورها مع دخول العالم القرن الحادي والعشرين، ويمكن القول أن الاجتهادات الفقهية الجديدة التي ظهرت خلال هذه الفترة في مجال المرأة، لعلها الأكثر أهمية وتميزاً، وتتفوق من هذه الناحية وتتقدم على الاجتهادات والتجديدات السابقة عليها.
ويعد الشيخ يوسف الصانعي المرجع الديني المقيم في مدينة قم الإيرانية، الأكثر بروزاً خلال هذه الفترة، حيث طرح العديد من الآراء ووجهات النظر الجديدة واللافتة في مجال المرأة، وعلى أساس قواعد وأصول منهج الاستنباط في الفقه الاستدلالي.
ونشير على أن بعض الباحثين وجدوا الاجتهادات والتجديدات الفقهية التي طرحت خلال هذه الفترة في مجال المرأة، تؤرخ لمرحلة جديدة، وهذا ما ذهب إليه الشيخ مهدي مهريزي وهو يتتبع تاريخ تطور الاتجاهات الدينية المعاصرة في إيران حول هذه المسألة، والتي قسَمها إلى ثلاثة اتجاهات، تنتمي إلى ثلاثة أطوار زمنية، وهي حسب رأيه: الاتجاه التراثي التقليدي الذي يبدأ مع عصر الحركة الدستورية في إيران مطلع القرن العشرين، والاتجاه الكلامي- الاجتماعي الذي يبدأ من ستينات القرن العشرين، والاتجاه الفقهي والحقوقي الذي يبدأ عنده مع بداية الألفية الثالثة. ويؤرخ الشيخ المهريزي لهذا الاتجاه بدءاً من الشيخ يوسف الصانعي الذي عدَه رائد طرح الآراء الفقهية الجديدة في العصر الحاضر على شكل فتاوى في الرسالة العلمية(2). ومن المفيد القول أن هذه الحركة الجديدة، تدعمت خلال هذه المرحلة بإسهامات فكرية وفقهية من آخرين يجمعهم المنحى التجديدي، ومن هؤلاء الشيخ إبراهيم الجناتي الذي يعده الشيخ المهريزي من روَاد الاتجاه التجديدي الذين حققوا تحولاً في مناهج الاجتهاد، وأساليب الدفاع عن الفقه الإسلامي. ومن هؤلاء أيضاً السيد محمد البجنوري عضو مجلس القضاء الأعلى سابقاً في إيران، إلى جانب آخرين.
ويبدو أن الحركة الجديدة التي وصلت إلى هذا المستوى من التطور والتجديد في فقه المرأة، سوف تحافظ على بقائها وحضورها، خصوصاً وأنها تستند إلى قواعد وأصول استدلالية وبرهانية، وتتصل بحقل علمي يعد من أبرز حقول الدراسات الإسلامية وأكثرها عراقة وثراء، وهو حقل الفقه الإسلامي الذي تميّزت به الحضارة الإسلامية أكثر من أيّ حقل آخر، حتى وُصفت بحضارة الفقه.
ولعلّ ما يؤكّد الحاجة إلى هذه الحركة، ويلفت النظر إليها، ويساعد على بقائها وحضورها، هو تأخّر التجديد والنظر الاجتهادي الجديد في هذه القضايا المتصلة بالمرأة، والتي كانت بأمسّ الحاجة إلى المراجعة وإعادة النظر بعد التغيّر الواسع والكبير الذي حصل في واقعها اليوم. وما هو جدير بالإشارة، أن مستوى التطوّر الراهن الذي وصل إليه التجديد الفقهي في هذا المجال، لم يصل إليه بهذا المستوى من قبل، وما زال يحافظ على وتيرته المتصاعدة كمّاً وكيفاً في سبيل حماية وضمان كرامة المرأة وحقوقها، ورفع الظلم والتمييز الواقع ضدّها، وإظهار الفقه الإسلامي بموازين العدل، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، يمكن القول إن الفقه الشيعيّ بات يتقدّم اليوم على بقيّة المذاهب الفقهيّة الإسلامية الأخرى في مجال التجديد الفقهيّ حول المرأة، ولعل هذا التقدّم يرجع إلى أمرين متلازمين: الأمر الأول له طبيعة موضوعية، ويرجع إلى ارتباط الفقه الشيعي بتجربة الدولة في إيران، هذه التجربة التي فتحت عليه آفاق الاجتهاد والتجديد الواسع والملحّ استجابةً وتفاعلاً مع متطلّبات، ومقتضيات الأَسْلَمة الشاملة على مستوى المجتمع والدولة.
أما الأمر الثاني فله طبيعة ذاتية، ويرجع إلى باب الاجتهاد المفتوح في الفقه الشيعي الذي جعله يحافظ على عنصر الحركة والحيوية في بنيته الداخلية، ويكون أكثر استعداداً وقابلية للتواصل والاستجابة لتطوّرات العصر وتحوّلات العالم، وفي القدرة على مواكبة ما يُطرح ويُثار من إشكاليات وشُبهات لها علاقة بالعلوم والمعارف الإسلامية، وكذلك في القدرة على مواكبة ما يستجدّ من تطوّرات وإنجازات في ميادين الفكر والمعرفة.
ولا شك في أن الاجتهاد المفتوح هو الذي يشكل أرضيات انبعاث نزعات الإصلاح والتجديد في الفقه الإسلامي،وفي المعرفة الإسلامية بصورة عامة، وهو الذي يحرض على انبعاث مثل هذه النزعات ويدعمها،ويضمن لها بقاءها واستمراريتها، ويزودها بالحيوية والفاعليَة.
والملاحظة الجديرة بالتنويه، أن هذه التطورات الفقهية الجديدة التي حصلت وما زالت تحصل اليوم،تصلح لأن يؤرّخ لها في حركة تطور علاقة الفقه الإسلامي الشيعي بموضوع المرأة، وذلك لأنها وصلت إلى مستويات من التجديد لم تصل إليه بهذا المستوى من قبل، ولأنها أيضاً باتت تعبَر عن نمو حركة جديدة لها روادها ونسقها الفكري والاجتهادي في داخل الفقه الإسلامي الشيعي المعاصر.
ومن المرجح أن تحافظ هذه الحركة الجديدة على نموها ووجودها،فمتى ما ظهرت مثل هذه الحركة فإنها لن تتراجع بسهولة،ولن تتلاش بسرعة حتى لو تباطأت مسيرتها في النمو، أو تأخرت في التمدد والاتساع، وتعرضت للنقد والمواجهة، وذلك لكونها قد تأخرت كثيراً قبل ظهورها، وتراكمت الحاجة إليها بصورة كبيرة، وهي الحاجة التي أعطت، وسوف تعطي هذه الحركة زخماً وقدراً من البقاء والاستمرار.
وفي السياق ذاته، يمكن القول إن المرأة المسلمة المعاصرة التي تعلمت وتثقفت، وانخرطت في كل ميادين العلم والحياة؛ لم تعد تحتمل تلك الصورة التي تنتقص من كرامتها وإنسانيتها، وتشكك في عقلها ودينها، كما لم تعد تقبل بذلك التمييز الذي يمارس بحقها بعيداً عن موازين العدل ونظام الحقوق.
فضلاً عن ذلك، فإن تطورات العصر أخذت تجابه وتحاصر الفقه الإسلامي بالعديد من التساؤلات والإشكاليات الحرجة والملتبسة، والتي لا بدَ من مواجهتها والتفاعل معها.وهذا يعني أن واقعا جديداً بات ينتظر المرأة، وهو آخذ في التشكل بالقوة أو بالفعل، على المدى القريب أو المدى البعيد، وعلى مستوى الواقع الفعلي، أو على مستوى منظورات الرؤية.
الهوامش:
(1) مهدي مهريزي، نحو فقه للمرأة يواكب الحياة، بيروت: دار الهادي، 2002م، ص 225.
(2) مهدي مهريزي، الاتجاهات الدينية في تاريخ إيران المعاصر: الموقف من مسألة المرأة، ترجمة: حيدر حب الله، (نصوص معاصرة)، مجلة فصلية- بيروت، السنة الثانية، العدد السادس، ربيع 2006م، ص 80.
المصدر: الميلاد، زكي: الإسلام والمرأة (تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة). ط1، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت- لبنان، 2008م.
اترك تعليق