مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأسباب المنهجية لتكوين الصورة السلبية للمرأة

الأسباب المنهجية لتكوين الصورة السلبية للمرأة في التراث الفكري

 إنّ من ينظر في أحوال المرأة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، نظرة الفاحص الواقعي لا يسمح لنفسه بأن يأخذه الزهو، فينكر وجود مساحات سوداءَ في لوحة التكوين البشريّ والإنسانيّ في هذه المجتمعات؛ حيث تكشف كثير من الإحصاءات –إن صدقت- عن أرقام مذهلة مقلقة، ربّما يغني وضوحها عن تجشّم عناء استعراضها.
وعلى ضوء هذا الواقع المأزوم يصبح من المشروع منهجيّاً وعلميّاً التساؤل عن دور الفكر الديني أو الدين نفسه في حدوث هذا الخلل. وأوّد في هذه العجالة استبعاد تحميل مسؤولية هذا الواقع بجميع مظاهره للدين أو الفكر الديني، وأستند في دعواي هذه إلى:
أولاً: إنّ الدين وإن كان هو المحرّك الأساس لوجدان الأمّة وعواطفها؛ ولكنّه ليس المحرّك الأوّل لها على مستوى السلوك والتطبيق، فربَّ عرفٍ أو عادةٍ أكثر تأثيراً من الأحكام الشرعيّة في سلوك المسلمين.
ثانياً: إنّ الدين لم يعد في القرن العشرين، على الأقلّ، المصدر الوحيد للقوانين والسلطات، وبالتالي فإنّ في تحميله المسؤوليّة الكاملة عن كلّ تخلّف في واقع المرأة أو غيرها مجانبة للصواب وخطأ في التشخيص.
هذا ولكنني في الوقت عينه، لا أريد أن أنفي دوراً ما للفكر الديني في رسم صورة سلبيّة عن المرأة في المخيال الإنساني الذكوري والنسوي على حد سواء. وذلك أنّ بعض التراث الدينيّ يحتوي على ما يوحي بتصوّر سلبيّ يحمله الدين عن المرأة، فهي: ناقصة العقل والدين(1)، وحبل الشيطان ومصيدته(2)، وغير ذلك من الأقوال التي استند إليها الفقهاء والمحدّثون، فأنتجت تصوراً سلبيّاً وصل إلى حدّ اتّهام المرأة على ألسنة بعض الفقهاء بأوصاف لا يرضى بها أحدٌ لو طبِّقت على زوجته أو إحدى محارمه. وإليك هذا النص الذي أورده أحدهم في تعليل استحباب صلاة المرأة في بيتها: "... لأنّ النساء أعظم حبائل الشيطان وأوثق مصائده، فإذا خرجْن نصبَهن شبكةً يصيد بها الرجال فيغريهم؛ ليوقعهم في الزنا فأُمِرن بعدم الخروج حسماً لمادة إغوائه وإفساده..."(3).
انطلاقاً من هذا النص وما يشابهه من نصوص تشتمل على توصيفات سلبيّة للمرأة لا يسع الباحثَ المنصفَ أن ينكر وجود مساحاتٍ مظلمةٍ في التراث الإسلاميّ تجاه هذا الكائن الإنسانيّ الذي لا نجد في النصّ المؤسّس للفكر الديني ما يدلّ على تحقيره والاستخفاف به، بل على العكس نجد القرآن يحكي عنه باحترام كامل ويعده مع الرجل صنوان: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (4).
والسؤال الذي يلح على الباحث هنا هو حول منشأ هذه الصور السلبيّة للمرأة، إذا كان النصّ الدينيّ الأوّل يرقى بها إلى عدها مع الرجل من نفس واحدة؟ وأعتقد أنّ منشأ ذلك هو مجموعة تتكافل حتّى تبني رؤيةً كهذه، ومن هذه العوامل:
1- تصورات من خارج النص:
لا شكّ في أنّ الفكر الإسلاميّ ليس جزيرة معزولة عن غيرها من مساحات الفكر الإنسانيّ؛ ولذلك فقد اختلط ماء سماء الوحي القرآني بما أنبتته الأرض من فهم إنسانيّ للنصّ استند في بعض الأحيان، ولو بصورة غير واعية، إلى ما لا ينسجم مع صفاء الوحي ونقاوة مصدره؛ مثلاً نجد أنّ النصّ الديني اليهوديّ أسّس لتصور ينسب الخطيئة الأولى إلى حواء عندما استجابت لوسوسة إبليس، ما دفعها إلى إغواء زوجها بالأكل من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها: "فرأت المرأة أنّ الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأنّ الشجرة شهيّة للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل" (5).
2- تقييم النص على أساس واحد:
يعلم كل من خبر التعامل مع التراث المنقول عن صاحب الرسالة الإسلاميّة محمد (ص) أنّ هذا التراث قد تعرّض لتصرّف، وتسرّب إليه ما ليس منه، وقد اجترح المحدثون وسائلهم الخاصة لتقييم صحيحه من سقيمه فوُلد علم "الجرح والتعديل" أو "علم الرجال" كما يسميه آخرون. وتُسجّل لهذا العلم قيمتُه المعرفيّة في علم الحديث كما في علم التاريخ العام. ولكن لا ينبغي أن يكون العلم الأوحد، فلا يمكن اعتماد معيار وثاقة الراوي وعدم اتهامه بالكذب لاكتشاف صحة صدور الحديث عن النبي (ص) فالصادق قد يعوزه الفهم في بعض الأحيان كما قد تخونه الذاكرة، وعليه فلا بدّ من اللجوء إلى وسائل أخرى للتمييز بين صحيح الحديث وفاسده ألا وهو النظر في مضمونه، وملاحظة مدى انسجامه مع روح الشريعة ومقاصدها الأوليّة ومع النص الديني الذي لا يرقى إليه الشكّ وهو القرآن.
3- الأخذ بالنص دون ملاحظة ظروفه:
إنّ النّص النبوي كلام شفهي قيل في مناسبات خاصة، وينسحب هذا الأمر على النص القرآني في بعض حالاته، وتوجد طريقتان للتعامل مع هذا النص فتارة نأخذه كما هو دون النظر إلى البيئة التي صدر فيها وأخرى نلاحظ الأجواء التي أحاطت بصدوره وليست الطريقتان على حد سواء في المؤدى والمآل، فعندما ندخل عنصر الظروف التي صدر فيها النص قد تنقلب دلالته من حال إلى حال. فإذا وجدنا نصّاً يحرم أو يأمر بشيء ما فهل يمكن الأخذ بحروفه دون النظر إلى بيئته التي صدر فيها؟[...].
الهوامش:
1- إشارة إلى الحديث المروي عن النبي (ص) في صحيحي مسلم والبخاري: "... وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منْكن، قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نُقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، ويالي ما تُصلي، وتُفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين؟..." وقد كثر الحديث بين العلماء حول تفسيره وتأويله مما لا مجال للدخول في تفصيله.
2- إشارة إلى حديث ورد في عدد من كتب الأخبار مثل: كشف الخفاء ومزيل الالتباس، لإسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ.، ج1، ص383.
3- فيض القدير شرح الجامع الصغير، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.، ج4، ص300.
4- سورة النساء: الآية1.
5- التوراة، سفر التكوين، رقم6.


المصدر:
سبحاني، محمد تقي: شخصية المرأة: دراسة في النموذج الحضاري الإسلامي. ط1، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2009م.
مقدمة الكتاب- بقلم الشخ محمد زراقط

التعليقات (0)

اترك تعليق