الأمومة والإبداع.. معادلة ممكنة
كثيرا ما تتذمّر المرأة، وتصيح بعلو صوتها: "أنا لم أخلق لهذا!!". تحتج على واقع حياتها اليومي، عمل في المنزل (كنس وغسل ونفخ!) وفوق كل هذا رعاية صغار لا سبيل إلى إرضائهم! ولا طريقة للتخلّص من إزعاجهم! بينما يعود الرجل من عمله، وقد استنفد طاقته، ولم يبق أمامه سوى البحث بقليل من الجهد عن مظاهر الراحة والحنان في وجوه أطفاله، وعلى كفي زوجه المرهقة والمتذمّرة، والمؤمنة بقدرتها على الإبداع في أي مكان! شريطة أن يكون بعيدا عن أعباء البيت، وهموم الأسرة!
الصيغة البديلة
فهل تعيق الأمومة إبداع المرأة كما تعتقد كثير من الأمهات؟ هل هي وسيلة لإعدام قدراتها المميزة؟ أم هي قيد ومثبّط لروح الإبداع لديها؟ وإن كان ذلك صحيحا فهل تملك المرأة صيغة بديلة تضمن لها حرّية الإبداع دون أن تفقد جزءا من ذاتها ظلّلته أحلامها ومنحته عبير أنوثتها؟ هل يمكنها أن تتخلى عن دورها كأم مقابل ممارسة إبداعها خارج الأسرة وتنسى كونها امرأة؟ أم هل على المرء أن يوظّف إبداعه في خدمة الآخرين بعيدا عن حسه الخاص، وسعادته الذاتية؟
أسئلة كثيرة! وأكثر منها ما تقافز من بين السطور وغرق في مخيّلة نساء يستمتعن بالتذمّر، ويتقنّ التلذّذ بمشاعر القهر! يردن حياة سهلة، وتريدهن الحياة نساء لهن وهج الحلم وإرادة المطر!
الإبداع روح خلاّقة! قادرة على تشكيل معادلاتها الخاصة من مفردات الكون والحياة! طاقة لا تهدأ، تتحوّل من شكل لآخر، ومن مدى لآخر، تحرّكها الرغبة في الوصول إلى حقيقة ما ..
الإبداع صور من القلق الباحث عن الطمأنينة عبر مئات الأسئلة! وكثير من الجهد الممزوج بالانتظار العجول! الإبداع كلمات تعيد ترتيب نفسها أملا في تشكيل عبارة تحمل ملامح الحياة الحقيقية، بعيدا عن زيف المفردات، وبلادة الحس الكسول، والإبداع قطرات النور ترطّب العينين لترى ما لا تراه الأعين المفتوحة على الفراغ!
الكتابة على صفحة الشخصية
والأمومة شكل وصيغة متطورة من صيغ الإبداع الإنساني، وقد تكون أهمها على الإطلاق، فالمعني برسالة الإبداع هو الإنسان ( الهدف والمحور) والأم هي المؤثر الأول، وبيدها تكتب أول الكلمات على صفحات شخصيّته وحضوره الإنساني. فعملية التربية من الخطورة بحيث تحتاج الأم إلى كثير من الإعداد حتى تتمكّن من أداء واجبها تجاه أبنائها، وذلك لإنتاج جيل مميّز قادر على منافسة أقرانه، وقد تستحضر كل مواهبها ومخزونها الثقافي لتحقق معادلة صعبة توازن فيها بين ما تحاول زرعه في وجدان طفلها وذهنه، وبين دفعه لتشكيل انطباعاته الخاصة عن المفاهيم والحياة؛ لينشأ مستقلا بفكره، منتميا بحسّه لروح الجماعة والتكتّل دون الاصطدام مع الآخرين. بعبارة أخرى، التربية مهمّة إبداعية، لكي يحقق المرء فيها نجاحا عليه أن يتحلّى بروح الخلق والإبداع، فكثيرون يفشلون بموازنة هذه المعادلة، فينشأ أولادهم نسخا متكررة عنهم لم يترك لحرّيتها مساحة تذكر، أو أنهم يمنحون الحرّية المطلقة، فيحصلون على ملامح جديدة من اختيارهم لكنها قد تكون مشوّهة!
فإن لم نحسن استغلال التأثير النفسي في طفولة أبنائنا المبكّرة، تركنا في بناء شخصياتهم ثغرات يسدّها غيرنا بأفكار قد تصبح نمطية مع الوقت، قد يقتنع أبناؤنا بضدّها، لكنها ستظل مصدرا لكثير من السلوكيات العفوية في حياتهم. والأم إن لم تكن قادرة على التعبير عن نفسها وأفكارها فلن يتوصّل طفلها لحقيقة هذه الأفكار، أو جوهر السلوك الذي تحاول أن تدفعه إليه.
انتقالة إبداعية
فهل تتخلّى الأم عن دورها الإبداعي في المجتمع عندما تتفرّغ لتربية أبنائها في طفولتهم المبكّرة؟ وإذا ما نظرنا لأهمية دورها في الأسرة، فألا تعتبر مهمّتها مهمة إبداعية لها أدواتها وغاياتها السامية؟
فإن عمدنا إلى انتخاب معلّم أبدى إبداعا خاصا ومميزا في إيصال المعلومة إلى ذهن التلميذ واستثارة ذكائه التحليلي، ومكّنا هذا المعلّم من التفرّغ لإعداد كتاب يتحدّث فيه عن تجربته الخاصة، ومفاتيح إبداعه، هل نستطيع الادعاء بأن هذا المعلّم توقف عن الإبداع عندما توقف عن تعليم أولئك التلاميذ؟ أم أنه انتقل من شكل إبداعي لآخر، وبدل أن يقتصر تأثيره على تلاميذه امتدّ لآلاف القراء والباحثين!
وكذلك الأم تنتقل من صورة إبداعية لأخرى، والمجتمع هو المستفيد الأول من هذه التنقلات، فالأمومة لا تفرض التفرّغ الكامل للأبناء في جميع مراحل نموهم مما يتيح للأم الفرصة بممارسة نشاطاتها الإبداعية المختلفة. فها هي نائلة صبري وهي أم لخمسة أولاد تنتهي من تفسير (27) جزءا من القرآن الكريم، ولم تعق أمومتها إبداعها، وحتى ظروف الاحتلال التي تحيا هذه الأم المثابرة في ظلها القاتم لم تستطع أن تثنيها عن مواصلة ما بدأت به قرب الأقصى المكبّل!
فالأمومة لا تعيق الإبداع بمفهومه الكلي، بل إن الإبداع هو أحد متطلباتها، إن أردنا جيلا مميزا قادرا على التعبير عن نفسه.
احتواء القادم الجديد
وإن كانت الأمومة في بعض مراحلها تحتاج إلى وقت الأم كاملا كفترات الحمل التي تؤثر سلبا على مزاجها العام، وعلى قدرة تحملها أعباء العمل، وبالتالي كفاءتها! وكذلك تجربة الولادة والتي تجعل أمومتها أمرا واقعا له ظله وأنفاسه الحقيقية، ويتحول الانتظار إلى متطلبات ومهام تتعلّق بالأم وتفرض نفسها على وقتها وذهنها في محاولة لاحتواء القادم الجديد المسلّح بالبكاء والضجيج!
في هذه المرحلة تصبح المرأة كائنا آخر غير الذي انتظر واحتار وتأمّل! وتصير واقعا ملتزما ومتفهما ومحبا، وتبدأ فترة من حياتها غنيّة بالواجبات والمسؤوليات وكثير كثير من المشاعر الجيّاشة والحقيقية التي يملأ عطرها أرجاء المكان والروح!
خلايا الإبداع في جسد الأمة
فتجربة الحمل والولادة لدى المرأة تجعل تجربتها الإنسانية غنيّة بالتأمل والاكتشاف، وتزيد من قدرتها على التحمّل والاحساس بمعاناة الآخرين، وتجرّب بكثير من الدهشة تضارب المشاعر لدرجة التناقض، فتثري تجربتها قدراتها، وتزيد من إمكانية التعبير عن هذا المخزون بأعمال إبداعية مميزة.
فالأمومة ممارسة إبداعية، وهي تصقل قدرات المرأة، وتدفعها لمزيد من الإبداع في مختلف مجالاتها، فهي هدف ووسيلة في آن واحد!
وقد يشكّل هذا عزاء لكثير من الأمهات اللواتي لا يحظين بفرص حقيقية؛ للإبداع خارج نطاق الأسرة، وذلك عبر محاولة جادة لتحقيق أحلامهن من خلال أبنائهن، وذلك بإيجاد بؤر الإبداع في شخصية هؤلاء الأبناء، وإروائها لتنمو وتكبر، وتشكل مبدعي الغد القريب، لتتكاثر خلايا الإبداع، وتشكّل جسدا مميزا للأمة!
اسلام أون لاين-جهاد الرجبي
اترك تعليق