مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ

كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ

«... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (سورة الأعراف، الآية: 31)
«كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ» التي جاءت في الآية الحاضرة، وإن كانت تبدو للنظر أمرا بسيطا جدا، إلا أنه ثبت اليوم أنه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية، وذلك لأن تحقيقات العلماء توصلت إلى أن منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إن هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئا ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم، وهي من جانب آخر منبع مهيأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض، ولهذا فإن الخطوة الأولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل -في الحقيقة- فضلات الجسم، وتتم عملية تطهير الجسم منها عمليا.
إن العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف، والإفراط في الأكل والبطنة، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلا رعاية الاعتدال في الأكل، وخاصة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري، وتصلب الشرايين، وأنواع السكتة، وما شابه ذلك من الأمراض التي يعد الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الأساسية لها، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلا الحركة البدنية الكافية، والاعتدال في المأكل والمشرب.
وقد نقل المفسر الكبير العلامة "الطبرسي" في "مجمع البيان" قصة رائعة في هذا المجال وهي أنه: حكي أن هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله: كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجمع نبينا(ص) الطب في قوله: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته". فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا(1).
فمن كان يظن أن هذه التوصية سطحية، فما عليه إلا أن يجربها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدستور الصحي.
-
التواضع في الطعام واستحباب ترك التنوق(2) في الأطعمة وكثرة الاعتناء بها:
لما وبخ الله سبحانه الكفار بالتمتع بالطيبات واللذات في هذه الدنيا، آثر النبي وأمير المؤمنين(ع) الزهد والتقشف واجتناب الترفة والنعمة، وروي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله(ص) فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم وإنه لمضطجع على خصفة، وإن بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فسلمت عليه ثم جلست، فقلت: يا رسول الله أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال رسول الله(ص): أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا.
وفي إرشاد القلوب: عن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي بن أبي طالب(ع) فوجدته جالسا وبين يديه إناء فيه لبن أجد فيه ريح حموضته وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه، وهو يكسر بيده ويطرحه فيه، فقال: ادن فأصب من طعامنا، فقلت: إني صايم، فقال(ع): سمعت رسول الله "من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة، ويسقيه من شرابها" قال: قلت لفضة وهي قريبة منه قائمة: ويحك يا فضة أما تتقين الله في هذا الشيخ تنخل هذا الطعام من النخالة التي فيه؟ قالت: قد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاما، قال: ما قلت لها؟ فأخبرته فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله، قال: وكان(ع) يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه، فقيل له في ذلك فقال: إني أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن(3).
وفي المحاسن: عن جعفر بن محمد عن ابن القداح عن أبي عبد الله عن آبائه(ع) قال: دخل النبي(ص) مسجد قبا فأتي بإناء فيه لبن حليب مخيض(4) بعسل، فشرب منه حسوة أو حسوتين ثم وضعه، فقيل: يا رسول الله أتدعه محرما؟ قال لا اللهم إني أدعه تواضعا لله(5).
وعن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن بزيع أبي عمرو بن -بزيع قال: دخلت على أبى جعفر(ع) وهو يأكل خلا وزيتا في قصعة سوداء مكتوب في وسطها بصفرة "قل هو الله أحد" فقال: ادن يا بزيع! فدنوت، فأكلت معه، ثم حسي من الماء ثلاث حسي، حتى لم يبق من الخبز شيء، ثم ناولني فحسوت البقية(6)(7).
وفي المكارم: لقد جاء النبي(ص) ابن خولي بإناء فيه عسل ولبن فأبي أن يشربه فقال: شربتان في شربة وإناءان في إناء واحد، فأبي أن يشربه، ثم قال: ما أحرمه ولكني أكره الفخر، والحساب بفضول الدنيا غدا، وأحب التواضع فان من تواضع لله رفعه الله(8).
- ذم كثرة الأكل والأكل على الشبع والشكاية عن الطعام:
عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ع): المؤمن يأكل في معا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء(9).
قال الراوندي رحمه الله  المعى على وزن اللوى، واحد الأمعاء وهي مجاري الطعام في البطن، وهذا مثل وذلك أن المؤمن لا يأكل إلا من الحلال، ويجتنب الحرام والشبهة، والكافر لا يبالي ما أكل، وكيف أكل، ومن أين أكل، وإذا كان كذلك فمآكل الكافر أكثر من مآكل المؤمن، وخص السبعة بالذكر مثلا كما يذكر السبعون في مثل هذه المواضع قال تعالى: «إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ(10)». والمعا أيضا المذنب من المذانب، وهو مسيل الماء في الحضيض، قال أبو عبيد: ترى ذلك لتسمية المؤمن عند طعامه فتكون فيه البركة، والكافر لا يفعل ذلك وهذا لوجه كما ترى، وقيل: إنه مثل ضربه النبي(ص) للمؤمن وزهد في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، وليس الغرض بذلك الأكل فحسب، بل يعني اتساع الرغبة وهذا الوجه قريب من الوجه الذي قدمناه وصدرنا به الكلام.
وفي النهاية هذا مثل ضربه للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها وليس معناه كثرة الأكل دون الاتساع في الدنيا، ولهذا قيل: الرغب شؤم لأنه يحمل صاحبه على اقتحام النار، وقيل: هو تحضيض للمؤمن على قلة الأكل وتحامي ما يجره الشبع من القسوة وطاعة الشهوة، ووصف الكافر بكثرة الأكل إغلاظ على المؤمن، وتأكيد لما رسم له، وقيل: هو خاص في رجل بعينه كان يأكل كثيرا فأسلم فقل أكله والمعى واحد الأمعاء، وهي المصارين انتهى.
الثاني: أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة كقوله: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة، ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع، و يمسك الرمق، ويعين على العبادة ولخشيته أيضا من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله، فإنه لا يقف على مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه، مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن ما ذكر إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرا إما بحسب العادة أو لعارض يعرض له على رأي الأطباء، وقد يكون في الكافرين من يأكل قليلا إما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
قال الطيبي: ومحصل القول: أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة، والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر، فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث.
الثالث: أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه، اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة التفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث أبي أمامة من كثر تفكره قل طعمه، ومن قل طعمه كثر تفكره ومن كثر طعمه قسا قلبه.
وفي حديث أبي سعيد الصحيح: إن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذه بإسراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع، فدل على أن المراد بالمؤمن من يقصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشره، فيأكل بالنهم كما يأكل البهيمة، ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية، كما قال تعالى: "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام".
الرابع: أن المراد أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه، فلا يشركه الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي فيشركه الشيطان.
الخامس: أن المؤمن يقل حرصه على الطعام فيبارك له فيه، وفي مأكله يشبع من القليل والكافر طافح البصر إلى المأكل كالأنعام، فلا يشبعه القليل، وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله، ويجعلان جوابا واحدا مركبا.
السادس: قال النووي: المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معا واحد، وأكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل المؤمن انتهى.
ويدل على تفاوت الأمعاء ما ذكره عياض عن هل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها: البواب، ثم الصائم، ثم الرقيق، والثلاثة رقاق، ثم الأعور والقولون، والمستقيم، وكلها غلاظ، فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بسرعة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معي واحد، ونقل الكرماني عن الأطباء في تسمية الأمعاء السبعة أنها المعدة، ثم ثلاثة متصلة رقاق، وهي الإثنا عشر والصائم والقولون، ثم ثلاثة غلاظ وهي النافف بنون وفائين، أو قافين، والمستقر والأعور.
السابع: قال النووي: يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر سبع صفات هي: الحرص، والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، والحسد، وحب السمن وبالواحد في المؤمن سد خلته.
الثامن: قال القرطبي: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع. ثم رأيت أصل ما ذكره في كلام القاضي أبي بكر وهو أن الأمعاء السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة.
عن النبي(ص) قال: حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فليكن الثلث للطعام والثلث للشراب والثلث الآخر للنفس.
وقال بعضهم: مراتب الشبع تنحصر في سبع:
الأول: ما تقوم به الحياة.
الثاني: أن يزيد حتى يصوم ويصلي عن قيام وهذان واجبان.
الثالث: أن يزيد حتى يقوى على أداء النوافل.
الرابع: أن يزيد حتى يقدر على التكسب وهذان مستحبان.
الخامس: أن يملا الثلث وهذا جايز.
السادس: أن يزيد على ذلك وبه يثقل البدن، ويكثر النوم، وهذا مكروه.
السابع: أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهي عنها، وهذا حرام، ويمكن إدخال الأول في الثاني والثالث في الرابع.
وفي المكارم : قال رسول الله(ص): نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله الشبع والقربة إلى الله حب المساكين، والدنو منهم، وقال (ص): لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فان القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليها الماء، وقال(ص): لا تشبعوا فتطفئ نور المعرفة من قلوبكم، ومن بات يصلي في خفة من الطعام بات الحور الطين حوله(11).



الهوامش:
1- مجمع البيان، المجلد 4، ص 413.
2- تنوق في أموره: تجود وبالغ. لسان العرب: "نوق".
3- إرشاد القلوب 2 ر 8.
4- مخيض بالخاء المعجمة والياء المثناة التحتانية على فعيل من المخض وهو التحريك كناية عن الخلط الشديد وفي بعض النسخ بالباء الموحدة من التخبيص بمعنى التخليط في القاموس خبصه يخبصه خلطه ومنه الخبيص وقد خبص يخبص وخبص تخبيصا قوله: محرما على بناء الفاعل أو على بناء المفعول حالا عن المفعول.
5- المحاسن: 409.
6- المحاسن: 440.
7- يحتمل أن يكون المراد بالماء الخل الباقي.
8- مكارم الأخلاق: 33.
9- الخصال: 351.
10- لنا كلام في شرح الآية تراها في ج 91 ص 364.
11- الخصال: 270.


المصادر:
1- تفسير الميزان: السيد الطباطبائي. منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة. ج18.
2- تفسير مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، تقديم: السيد محسن الأمين العاملي. ط1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان،1415-1995 م. ج4.
3- مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي. ط6، منشورات الشريف الرضي، 1392- 1972م.
4- بحار الأنوار: العلامة المجلسي. ط3 مصححة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان،1403- 1983م. ج63.

5- لسان العرب: ابن منظور.


إعداد: موقع ممهدات.

التعليقات (0)

اترك تعليق