مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمةالحاجة عفاف الحكيم التي ألقتها في ندوة المرأة بين المسيحية والإسلام

كلمةالحاجة عفاف الحكيم التي ألقتها في ندوة المرأة بين المسيحية والإسلام: المرأة في التاريخ الديني

هذه الكلمة ألقتها الحاجة عفاف الحكيم في ندوة أُقيمت في مدينة باري الإيطالية بتاريخ حزيران 2005، والتي حصلت ضمن سلسلة ندوات "الحوار الحضاري بين المسيحية والإسلام"، وكانت تحت عنوان: المرأة بين المسيحية والإسلام. دعت إليها الجريدة الأولى في إيطاليا "كوربري ديللا سيرا".
يُذكر أنّ هذه الندوات بدأتها الجريدة، بعد تأثر صاحبها السيد جورجيو بفيلم "مريم المقدسة"، إذ قرّر إقامة ندوات في سائر المدن الايطالية باستضافة شخصية إسلامية، ويتم عرض الفيلم قبل الندوة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يمثل الدين مظهراً من مظاهر لطف الله تعالى بالإنسان، وأثر من آثار الرحمة التي احتضنت المجتمع البشري -برجاله ونسائه- ومهدت له سبل العيش بسعادة واستقرار.
فرسل الله وأنبياءه واكبوا البشرية منذ فجر التاريخ من عهد آدم(ع) وحتى عصر خاتم الأنبياء والرسل محمد(ص) بحيث تدرجت التعاليم الإلهية بما يتناسب وعملية تطور المجتمعات، وصولاً إلى مرحلة النضج البشري وظهور الرسالة الخاتمة التي أكدت في تعاليمها:
من جهة، على وحدة الرسالات وترابط مسيرة أنبياء الله ورسله. قال تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (سورة البقرة، الآية: 136).
ومن جهة ثانية أكدت على وحدة النوع الإنساني. وبأن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل بشري واحد «خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (سورة النساء، الآية: 1)، "كلكم لآدم وآدم من تراب" حديث شريف. فلا تمايز لجنس أو عرق أو طبقة باعتبار أن النوع البشري على إطلاقه اختصه الله عز وجل بالتكريم والاستخلاف. وجعل مهمته المشتركة إعمار الأرض واستثمار خيراتها.
ومن جهة ثالثة أكدت بأن حقيقة إنسانية الإنسان ليست بجسده بل بروحه التي لا تخضع للمذكر والمؤنث، فالروح منزهة، والذكورة والأنوثة لا أثر لها في الفضائل والمعارف، والله عز وجل نسب البدن -بتعبير-  إلى التراب والطين (كما يقول العلامة آملي) ونسب الروح التي هي الأصل إلى نفسه جل وعلا.
وعليه فلا شيء مادياً يمكن أن يكون غذاء لروح الإنسان، إلا غذاء عالم القدس والقرب من الله.
من هذا المنظور نتجه للحديث عن مكانة وموقع المرأة في تاريخنا الديني، مستندين على ما حفلت به الرسالة الخاتمة من نصوص، وسنحاول:
أولا": استعراض مواقف وأدوار نسائية فذة من تلك الفترة المدهشة من تاريخ البشرية. الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء. والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلاً.
ثانياً: الوقوف على حركة الرسالات السماوية وحيوية حضور المرأة فيها.. معاينين المساحة التي أفردها - كتاب الله للحديث عن المرأة الصالحة والمقدسة والمصطفاة بصفتها أحد صناع التاريخ.
ثالثاً: التأمل فيما يريده الإسلام من المرأة سواء على مستوى الكيان الشخصي أو الدور العام، ملتفتين إلى المثل الذي ضرب في سورة التحريم لعموم الذين آمنوا من الرجال والنساء كافة. تبياناً للأسس التي قام عليها  تاريخنا الديني والذي هو عبارة عن تاريخ صنعه المذكر والمؤنث -كما يقول الشهيد مطهري- أي صنع على يد الرجل كما على يد المرأة. وتتجلى فيه الثنائية التكاملية التي ميز بها الله تعالى التوازن الإنساني..
من هنا كان خيار بحثنا عنوانين محددين نحاول من خلالهما رصد مساحة حضور المرأة في التاريخ الديني:
  1- المرأة كأنموذج "أم" من خلال الدور الذي أدته نخبة من أمهات الأنبياء.
  2- المرأة كأنموذج عام من خلال الدور الذي أدته سيدات نساء العالمين.

1- موقع ومكانة الأم في التاريخ الديني:
بالعودة إلى الأديان السماوية الكبرى. والوقوف على دور الأمهات في حياة الأنبياء - إسماعيل وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم. نلاحظ  أنهم(ع) قد عهد بهم في طفولتهم إلى الأمهات وحدهن دون مشاركة الآباء.

أ‌- أم إسماعيل(ع)
لقد أراد الله أن يؤثر هاجر الأم، برعاية طفلها الوحيد إسماعيل فتركه لها وحدها، يوم استودعهم -في الله- إبراهيم(ع) في ذلك الوادي القفر، وقفل راجعاً، متوجهاً بقلبه إلى ربّه: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (سورة إبراهيم، الآية: 37) يومها نهضت هاجر بدورها على أكمل وجه وكان أن خلدت، وجعلت خطواتها في صميم فريضة الحج التي هي من أهم وأكبر فرائض المسلمين قال تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله)، قرار إلهي يلزم المؤمنين رجالاً ونساءً بتمثل خطوات تلك الأم متذكرين سعيها ودورها الجليل..

ب- أم موسى(ع)
القرآن الكريم لا يذكر لنا شيئاً عن والد موسى وإنما يخص بالذكر أمه. ويكل إليها أمر حمايته وليداً ورضيعاً. حين أستبد فرعون بقومه، وذبح سبعين ألف طفل -كما قيل خوفاً على ملكه- وولد موسى خفية، فارتجفت أمه لكن الوحي نزل ليطمئنها ولتعهد إليها السماء بمهمة إنقاذ الوليد المذخر لإحدى الرسالات الكبرى قال تعالى «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (سورة القصص، الآية: 7).

ج- أم المسيح عيسى(ع)
لا يذكر القرآن الكريم له أباً.. وإنما هو عيسى أبن مريم -كما دعاه  كتاب الله- ومن حق الأمهات أن تفخر بهذه النسبة.. وقصة أمومة -مريم- كما روتها كتب السماء بالغة التأثير ذلك أن هذه الأم التي طهرها الله واصطفاها وجعلها وأبنها آية للعالمين تعرضت لأقصى ما تتعرض له أنثى. وهذا ما سنعود إليه..

د- أم محمد(ص) خاتم الأنبياء
في ختام موكب أمهات الأنبياء، يأتي دور آمنة بنت وهب لتكون أماً لمحمد(ص) الذي شاء الله أن يتوفى أبيه قبل أن يبصر النور. فتحتضن الأم وحيدها اليتيم باذلة له أقصى ما يستطاع من عناية ورعاية. وقد عرّف كتاب السيرة بما كان لهذه الأم من أثر جليل في هذه المرحلة من عمر نبي الإسلام.
وهنا نلاحظ شفافية التعبير فيما ورد عن النبي(ص) بخصوص الأم إذ قال "الجنة تحت أقدام الأمهات" وأجاب أحدهم قائل: أمك ثم أمك ثم أباك.
هكذا نظرت الرسالة الخاتمة إلى المرأة الأم مرتفعة بدورها ومهامها ومسؤولياتها مبينة بأن السماء عهدت لها بمفردها بأعداد فريق من الأنبياء دون مشاركة الآباء. مشيرة إلى قدراتها بتعويض فقد الأب أو غيابه.
هذه اللفتة المؤثرة التي كشفت عنها الرسالة الخاتمة رافقها أيضاً التفاته أخرى من الرسول الخاتم محمد(ص) وتتمثل بتقديم الأنموذج القدوة لنساء العالم. الأنموذج الذي جسدته نساء أربع كان لكل منهن تأثيرها الكبير في هذا التاريخ.

2- سيدات نساء العالمين:
روايات كثيرة متشابهة وردت عن النبي(ص) تشير لأفضل النساء، وأنه لم يكمل من النساء إلا أربع، وأن الجنة اشتاقت إلى أربع نساء، وأن الله اختار من النساء أربع.
ففي الدر المنثور أخرج أحمد والترمزي وابن منذر والحيان والحاكم عن أنس عن النبي(ص).
كما أخرج السيوطي وابن أبي شيبة عن الحسن.
وأخرج ابن مردويه عن الحسن.
وقال شهاب الدين الألوسي.
وأخرج ابن عساكر عن طريق الضحاك عن ابن عباس عن النبي(ص) قال: "أربع نسوة سادات عالمهن؛ مريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد(ص) وأفضلهن عالماً فاطمة" (الميزان ج 3 ص 215).
نلاحظ من خلال الحديث الشريف، حرص النبي(ص) على إبراز النموذج القدوة في عالم المرأة وشدّ الانتباه إليه.  إذ جاءت الإشارة صريحة، وواضحة، ومختصرة، في الدعوة إلى التأسي بهذه النماذج التي أرست بحضورها العملي وسموها الروحي دعائم الأسوة الصالحة لنساء العالم.

وهنا سنحاول وباختصار تلمس معا لم تلك الأدوار:
أولاً: مريم.. المرأة المصطفاة:
قال تعالى: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» (سورة التحريم، الآية: 12).
كلام منقطع النظير تحدث به القرآن الكريم عن كمال السيدة مريم وحياتها المليئة بالأسرار شاهداً لها مباهياً بها وبالجو العائلي الذي مهد لتربيتها.. مشيراً إلى والدها عمران الذي شغل دوراً معنوياً كبيراً وعاش حياته لخدمة بيت المقدس وإلى أمها التي عرفت بالانقطاع والتجرد فكانت تخلو إلى ربها تناجيه بخشوع وتذلل رافعة إليه شوقها إلى ولد صالح تتقرب به إليه..
إلى أن استجيبت الدعوة: «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (سورة آل عمران، الآية: 35).
وأنه في اليوم المرتقب. حدثت المفاجأة التي تركت امرأة عمران في حيرة فالمولود أنثى، والأنثى لا تصلح للخدمة الدائمة في المعبد فهتفت مربكة «رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَالله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (سورة آل عمران، الآية: 36)،   ومضت تعرض واقعها وحيرتها في مناجاة لذيذة مع خالقها، أنها تخاطبه وكأنها تخاطب قريباً ودوداً سميعاً مجيباً. معلنة بأنها اختارت لها أسم -مريم أي العابدة- لتكون مطيعة لكل ما يأمر به سبحانه وينهى عنه، راجية أن يحضنها وذريتها من مكائد الشيطان ليتمكنوا من تأدية الفرائض دون انحراف.
وبعد أن استقر الوضع ذهبت الأم بابنتها إلى المعبد، فتنافس الأحبار في كفالتها، فجاءت الكفالة من نصيب زكريا النبي، زوج خالتها، الذي شعر بالارتياح لتوليه هذه المهمة، فقام برعايتها على أكمل وجه.
وحين بلغت مريم التاسعة من العمر -قيل أنها باتت من أعبد أهل عصرها- إذ كانت تصوم النهار وتقضي الليل في العبادة وتأبى أن تفارق محرابها لتأكل؛ لأنها لا تريد أن يشغلها شيء عن هذه الأجواء الأنيسة والحبيبة إلى قلبها، فكان الرزق الهنيّ يأتيها من الله سبحانه وهذا ما جعل كافلها وهو -نبي- يتعجب ويسألها مستفسراً «يا مريم أنّى لك هذا» فتجيب بخشوع العارفين وصفاتهم «إنه من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب»، وهكذا راحت مريم تصعد في مدارج العبودية لتعبر منازل مقام المحبة والقرب الذي لا يرى العبد فيه سوى الله، بحيث ترتفع الحجب وينزاح الستار، فلا موجود يرى غير الله. ولا مؤثر غير الله، ولا معين غير الله.

مريم(ع) مظهر لاسم الرازق الذي يرزق من يشاء بغير حساب:
في تاريخ البشرية هناك لحظات انكشفت فيها الحجب وغابت العلل والأسباب، ومثل هذه الأمور كانت  من البديهيات التي عاشتها مريم عليها السلام في حياتها.
والقرآن الكريم تحدث عنها مقدماً مقطعاً تاريخياً  انزاحت الحجب والأستار فيه عن عالم الملك لتظهر لمعة من لوامع الملكوت بما فيها من جلال وجمال، من جملة ذلك ما كان يراه زكريا من موائد ممدودة أمام مريم(ع)، فالرزق الذي كان باطنياً معنوياً -وعلماً لدنياً- كان ظاهرياً أيضاً، والأخبار ذكرت أغذية وفواكه في غير وقتها وفي غير مكانها كانت تأتيها لتبسط أمامها مائدة فردوسية من عند الله مباشرة، وهذا دليل على أن مريم قد تخطت الوسائط والأسباب واستطاعت الولوج في عالم الولاية والعبودية الحقيقية.

السيدة مريم(ع) ومقام الاصطفاء:
مما اختصت به مريم(س) كان مقام الاصطفاء، إذ اصطفاها الله عز وجل وكرمها بولادة السيد المسيح من غير أب ولم تعرف هذه الكرامة لامرأة على وجه الأرض.
قال تعالى «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» (سورة آل عمران، الآيات: 42-43).
فهي في هذا الأمر مميزة فريدة. إضافة إلى مواكبة الملائكة لها والحديث إليها، كي تعيش الإحساس العميق برعاية الله.

السيدة مريم مظهراً لاسم الخلق جلّ وعلا الذي يخلق ما يشاء:
من الأسباب المتعلقة بحذف الأسباب والعلل في حياة السيدة مريم(س) وشخصيتها، وما يلقيه إلينا ذلك المشهد العجيب الذي تغيب فيه العلل والمتمثل في قوله تعالى: «إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ»، «قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ»، قال: «قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (سورة آل عمران، الآية: 47)،
وهنا لنتأمل المعاناة التي عبرتها سلام الله عليها، وكيف كان حالها حين آن آوان الوضع واضطرتها آلام الولادة للإلتجاء إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد عليه. ثم كيف هزّها الحياء حين تذكرت قسوة وجهل قومها قال تعالى: «فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا» (سورة مريم، الآيات: 22- 23).
«فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا» (سورة مريم، الآيات: 24- 26).
بنداء المولود، شاء الله سبحانه أن يسكّن من روع مريم ويهدئ نفسها لتعلم أن من أوجد لها الرطب من النخلة وأوجد لها الماء الجاري في تلك الهضبة التي كانت عليها في الجبل قادر أن يرد عنها لوم اللائمين.
وهكذا استجمعت -المقدسة- أفكارها بعد أن رأت رحمة ربها بها وبمولودها فاطمأنت إلى حجتها وأحست بشعور قوي يدفعها إلى النهوض والمواجهة.

مواجهة وصمود:
لو حاولنا تصور الوضع الذي استقبلت به البتول من قومها حين أتت وعلى يديها "عيسى" تحمله لأمكننا أن نكشف عن جانب عظيم من شخصية مريم.
وحيث انطلقت الألسن من حولها بأسوأ حملة نفسية يمكن أن تتعرض لها إنسانة على هذه الأرض، فمن التعنيف والتهكم الجارح إلى الشائعات الساخرة التي راحت تحدث بما  ارتكبته من خطيئة، وحيث راحت الكلمات تسدد نحوها كالسهام «يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا..» (سورة مريم، الآية: 28).
لكن مريم المقدسة كانت قد خرجت بصفائها من معاناتها الشخصية وباتت تعيش مشكلة الناس من حولها وهموم المشروع الإلهي الذي يهيئ للخروج بهم من ظلمات واقعهم السيئ إلى أنوار اللطف والرحمة الإلهية، وكان أن لاذت بنذرها ومضت بكل ما تملك لتداري الموقف بصبر مطمئن لا يشوبه أي اضطراب «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» (سورة مريم، الآيات: 29-33).
وهكذا شرع ابن مريم بالجواب الدال على براءة أمه دون أن يمهلهم بحيث خيم على الجمع صمت رهيب، فمعجزة نطقه وما أخبر به لا يدع ريباً لمرتاب في أمره.

فوز مريم(ع):
وإنه لجزاء هذا التوجه والتجرد كان الفوز، بحيث استحقت -مريم- المرأة المقدسة من الله سبحانه أن يثني عليها باسمها -مريم- مع أنه تعالى لم يذكر في كتابه العزيز اسماً نسائياً غير اسمها. ومع ذلك تكرر اسم مريم في القرآن الكريم في حوالي ثلاثين موضعاً، وما يقارب العشرين سورة وفي كل موضع ثناء عليها وعلى عفتها وما أدته من دور وتحملته من معاناة. وهذا كله لإلفات نساء العالم إلى ذاك المستوى العظيم من التوجه وإلى تلك المنزلة الرفيعة التي بلغتها مريم عليها السلام.


ثانيا" آسيا بنت مزاحم
لننظر إلى نموذج نسائي آخر من سيدات نساء العالمين إلى آسيا بنت مزاحم وكيف أتى القرآن الكريم على ذكرها إذ قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (سورة التحريم، الآية: 11).
بهذا الإيجاز البديع يلخص -كتاب الله- إيمان وجهاد امرأة. نهضت لتواجه طغيان الزوج الذي يدّعي الربوبية. لتواجه فرعون أعظم ملوك الأرض يومذاك في الوقت الذي كان فيه جميع الناس من حولها خاضعين لسلطته وتعسفه. ويركعون أمامه طوعاً أو كرها ويسجدون له.
نهضت ملكة مصر-آسيا- لا لترفع إلى ربها مبررات الواقع الصعب، وإنما لتطلب النجاة من فرعون وعمله بعد أن دعته للاهتداء برسالة موسى والكف عن ظلم الناس، ودعاها لأن تختار بين طاعته كملكة لمصر، أو تستعد لمواجهة التعذيب. ولكن آسيا التي أحاطها فرعون بطوفان من المغريات غضّت النظر عن كل شيء، ونهضت بقوة واطمئنان لتتخذ موقفاً من الملك الذي هو زوجها وملكه ومملكته. ولتضرب لمجتمعها المستضعف مثلاً في كيفية صنع القرار، ونصرة الحق والخروج على طاعة المستبدين.
جموع شعب، خرجت من بينهم امرأة لتكون لهم مثلا"- بعد أن سمعت من نبي الله موسى ما سمعته. امرأة لم يعز عليها ككثير من النساء أن تتخلى سريعاً عن كل ما كانت تنعم به من ترف وراحة ومضت تواجه أشرس ألوان التنكيل والاضطهاد، إلى أن دُقت يديها وقدميها بالمسامير، وإنه في تلك اللحظات التي أشرفت فيها على الشهادة سجل لنا كتاب الله ما كان يدور في ذهنها من مطالب رفعتها لربها عبر دعاء صغير جعلته شاملاً لكل أشواقها وهمومها.
«رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»
هذا هو الرجاء وهذه هي الأمنية الوحيدة التي توجهت بها إلى الله. إنه موقف امرأة عاشت في عصور الفراعنة القديمة، ومع ذلك رفع لأن يكون منارة للعصور المتقدمة، واستحقت صاحبته أن يباهي بها الله عز وجل بإرادتها ووعيها وبموقفها الإيماني العظيم، مبيناً من خلال آسيا النموذج بأن الاستضعاف مرفوض، وأن الإنسان رجلاً كان أم امرأة بإمكانه أن لا يكون فقط صانعاً لقرار بل صانعاً لتاريخ.


ثالثاً خديجة بنت خويلد عليها السلام
لقد كان من بركات الله تعالى لهذه المرأة أن منّ عليها بأن اختارها لتكون أول النساء إسلاما، وأسبقهن إيماناً وتصديقاً برسول الله ودعوته.
وقد تحدث القرآن الكريم وباعتزاز عن الثلة الأولى التي جاهدت مع النبي بالأموال والأنفس -والتي تقدمتها خديجة- قال تعالى: «لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (سورة التوبة، الآية: 88).
كما بيّن في سورة الواقعة منزلة السابقين -من هؤلاء- وعلو مقامهم قال تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّات النَّعِيم» (سورة الواقعة، الآيات: 10-12).
فالحديث عن خديجة إذن هو حديث عن الإسلام في نشوئه وارتقائه. فهي أول امرأة لبت دعوة رسول الله (ص) واستجابت لنداء السماء ووقفت بجانب الرسول بكل ما تملك بحيث اتبعت إسلامها بتقديم ثروتها الطائلة وإمكاناتها المالية الكبيرة في سبيل الإسلام.
ومن كلماتها للنبي صلى الله عليه وآله: "أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنّك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتأوي الضيف، وتعين على نوائب الدهر".
ولقد صبرت خديجة مع رسول الله(ص)، وأصابها الضّر في شعب أبي طالب، أثناء حصار قريش للمسلمين لكنها لاذت بالصبر ووقفت إلى جانب النبي موقفاً يندر أن تقف امرأة مثله، وكان لشخصيتها ومكانتها وهيبتها في النفوس أثر كبير.
مكانتها في قلب رسول الله(ص):
عاش النبي(ص) مع خديجة خمسا وعشرين سنة بأحسن حال وبقيت صورتها بمخيلته حتى بعد وفاتها. 
فمع فتح مكة، كان قد مرّ على وفاتها أكثر من عشر سنوات، وكانت مليئة بالأحداث، لكنها لم تشغله عن ذكرها، فأقام في قبة ضربت له هناك إلى جوار قبرها، حيث روحها تخفق حوله فتريحه وتؤنسه. وورد أنّه(ص) -إذا ذُكرت عنده خديجة- لم يكن يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها.
وورد عنه(ص) أنه قال مشيراً إلى منزلتها «إن جبرائيل قال يا محمد إقرأ على خديجة من ربها السلام فقال النبي(ص) يا خديجة هذا جبرائل يقرئك السلام فقالت خديجة الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام».
وقد تسالم العلماء والمؤرخين والكتاب على تمجيد خديجة وتقديسها وذكرها بكل جميل لما مثلته من عقيدة صادقة وإيمان قويم وتفان في سبيل المبدأ ونصرة الحق. فقد كانت بحق كما جاء عن ابن إسحاق "وزيرة صدق للإسلام" ولذا سمى رسول الله(ص) العام الذي رحلت فيه وأبي طالب بعام الحزن.

رابعاً فاطمة الزهراء(س)
الحديث عن بضعة النبي(ص) هو حديث شامل جامع.
فالزهراء عليها السلام هي مرآة الإسلام التي تنعكس فيها أحكامه وتشريعاته ومفاهيمه ونظرته للكون والحياة بكل ما فيها.
ففاطمة(س) التي اقترن اسمها بالعبودية الخالصة لله، شهد لها القرآن الكريم في سورة الدهر على كمال إخلاصها وذوبانها وخشيتها لله سبحانه.
وشهد لها الرسول(ص) قائلاً: "إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها ففرغت لطاعة الله" (بحار الأنوار ج37 / ص 17).
وقد أشاد(ص) بعظيم منزلتها ودورها إذ دعاها -بأم أبيها- وأحاطها بالتكريم والاحترام والتبجيل.
وقد روي أنه ما قبّل إلا يدين اثنتين، يد عامل اخشوشنت يده من جراء العمل فقال بعد أن قبل يده "هذه يد يحبها الله ورسوله"، واليد الأخرى هي يد ابنته فاطمة(ع) عندما كانت تدخل عليه.
ولقد روى البخاري في صحيحه ومسلم والترمزي وأبو داوود وأحمد وابن حجر في صواعقه والكنجي في كفاية الطالب في مناقب فاطمة أن رسول الله(ص) قال: "فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل".
وقال(ص) "فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيّ".
وجاء في الاستيعاب عن ابن عمر أن النبي(ص) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة.
فالزهراء(ع) التي كانت -الأفضل عالما- كما جاء عن النبي أدت دوراً شمولياً يتناسب وعالمية الرسالة الخاتمة إذ معها تلتقي النساء في كل عصر:
1- بإنموذج الابنة التي تعالت على كل أسباب الضعف بعد وفاة أمها. بحيث بلغت بعمق العلاقة وسموها لأن تكون "أم أبيها"، فهي في المسجد مع النبي(ص) وهي في الغزوات تضمد جراحه وتحيطه برعايتها.
2- تلتقي بإنموذج الزوجة التي عاشت في بيتها روحانية الإيمان وبساطة العيش وحيث صور لنا كتّاب السير صورة للحياة العائلية الفريدة التي عاشتها في بيتها. كما يصور أمير المؤمنين مستوى تلك العلاقة النموذجية.
"فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا. ولقد كنت إذا نظرت إليها انكشفت عني الهموم والأحزان".
3- تلتقي بإنموذج الأم التي أنجبت للأمة سيدي شباب أهل الجنة وبطلة كربلاء زينب سلام الله عليها.
4- تلتقي بإنموذج العالمة المعلمة التي جعلت من بيتها أول مدرسة في تاريخ المرأة العربية والمسلمة.5- تلتقي بالعابدة الزاهدة التي كانت تقوم الليل حتى تتورم قدماها. إذ تقول زوج النبي عائشة "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة إلا الذي ولدّها".
لقد كانت سلام الله عليها عظيمة في كل ميدان لا سيما ميدان البلاغة والبيان الفكري فخطبتها الطويلة في مسجد رسول الله، لا زالت محفوظة وقيل أنها أوردتها وهي في عمر الثمانية عشر عاماً. وهذه الخطبة الواحدة -بحد ذاتها- كافية لتبين لنا عظيم الدور، إذ انبرى التاريخ بعد وفاة فاطمة ليسطّر لذريتها أعز الصفحات في تاريخنا الإسلامي. فكانت سلام الله عليها المصداق للآية الكريمة «إنا أعطيناك الكوثر»، كانت عالماً  من الخير وفيضاً من العطاء الإلهي.

تعقيب:
هذه هي نظرة الدين للمرأة وهذه هي المرأة في تاريخنا الديني.
وإن المتأمل في مسيرة هذا التاريخ وفي حياة هذه النخبة من النساء يصل إلى أن الدين ليس إلا مظهرا" من مظاهر لطف الله وأثراً من آثار الرحمة التي احتضنت كافة عناصر المجتمع البشري.
ويصل إلى أن حقيقة إنسانية الإنسان ليست بجسده بل بروحه التي لا تخضع للمذكر والمؤنث. وأن هذه الروح لا شيء مادي يمكن أن يكون غذاؤها كما بينت "سيدات نساء العالمين" سوى عالم القدس وقرب الله.
ويصل إلى أن التاريخ الديني هو تاريخ يضج بحركة الحضور الإنساني الواحد وحيوية الدور المشترك المتكامل. وبالتالي فهو تاريخ صُنع على يد الإنسان -الإنسان الرجل والإنسان المرأة.
يصل إلى أن الرسالات السماوية هي التي أكدت على تمسك الفرد بالكمالات المعنوية والروحية وبينت بأن المجتمعات إنما تموت بموت القيم وغياب الأخلاق وانتشار الفساد.
بينت بأنه لا شيء في هذا الكون يستطيع أن يحل محل الدين في حياة الإنسان. في إرضاء طموحه واهتماماته وضميره. ولا شيء يستطيع أن يحقق شخصية الإنسان وكماله الإنساني الخاص به، وقيمته الحقيقية في هذا الكون كالدين والإيمان بالله سبحانه وتعالى. وقد عبر فيكتور هيجو في (البؤساء) "كمال الإنسان ينطوي فقط في اهتماماته وطموحه، والاهتمام الحقيقي في حياة الإنسان هو الله".
وقال ألكسس كارل: "إن الشعور الديني ينبع من أعماق الفطرة ويشكل غريزة أصيلة ونزوعاً أصيلاً في نفس الإنسان. وكما يحتاج الإنسان إلى الماء والهواء كذلك يحتاج إلى الله" (الدعاء ص16).
وقال ريمونديج: "ليس في مقدور الإنسان أن يسلك طريقا إلى الفضائل الأخلاقية بمعزل عن الدين، والأخلاق من دون دين جسد بلا روح" (تعاليم كبار الفلاسفة ص16).
وقال ويل ديورانت "من دون الدين لا قيمة للأخلاق. ومن دون الدين تتحول الأخلاق إلى محاسبة جافة ويزول الإحساس بالمسؤولية" (مناهج الفلسفة ص478).
وعلى كل إنسان كما يقول دويد هيوم "أن يكون مؤمناً بالله. فإن الإيمان بالله هو منطلق كل الفضائل والغايات السامية في حياة الإنسان ومبدأ كل الفضائل الأخلاقية والإنسانية" (تعاليم كبار الفلاسفة ص 166).
يبقى أن ما ينبغي التوقف عنده هو أن الدعوة العالمية التي بتنا نسمعها للعودة لمنابع الدين والبحث عن حضارة متوازنة معتدلة تجعلنا جميعاً أمام المسؤوليات الكبرى التي يتطلع إليها مجتمعنا الإنساني الكبير وأمام النداء المتمثل بوحدة الرسالات السماوية والذي أكدت عليه الرسالة الخاتمة أن «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
وإننا نعتقد أن لدى المسلمين من مبادئ دينهم وتراثهم ما يقدمونه للإنسانية في هذا العصر.
وإن أحد أهم الميادين التي يمكن للإسلام أن يسهم في علاجها هو ميدان المرأة، ليس لأنها نصف المجتمع الإنساني فحسب، ولكن لأنها النصف المؤثر في صياغة ذلك المجتمع وتوجيهه نحو الخير أو الشر.
خصوصاً ونحن نرى الدلائل على المستوى العالمي تشير إلى غلبة تيارات فكرية واجتماعية تعمل على إخراج المرأة عن دورها البناء في استقرار البيت والمجتمع، إلى دور سلبي يضعف الأسرة ويشيع فيها أسباب الخلل والتردي.

أخيراً ما بيننا وبين الغرب
إن النظرة السائدة في الغرب، وقد يكون في غيره من بلاد العالم. بأن المرأة في الإسلام مهدورة الحقوق ولا تملك الحرية في أداء شؤونها.
مما لا شك فيه أن هذه النظرة ناجمة عن قلة معرفة بالإسلام، وعدم فهم سليم للنصوص القرآنية.
فمن ينظر إلى مفاهيم الإسلام عن المرأة وتشريعاته بشأنها، لا يبقى لديه شك بأن الإسلام يضمن مبادرة إنقاذ ومشروعاً عالمياً لتحرير المرأة.
إذ من جهة بادر إلى تقديم أطروحة لإنقاذها وانتشالها،  بنيت على أعدل أساس.
ومن جهة ثانية شرع لها من الحقوق من ألف وأربعمائة عام، ما لا زالت المرأة في أكثر بلدان العالم في عصرنا هذا تسعى إلى المطالبة به.
فمن حق العلم، إلى حق العمل، إلى حق الملكية، إلى حق حرية الرأي، وتقرير المصير. إذ اعتبرها إنساناً مستقلاً من الناحية القانونية كما الرجل وليس لأحد أي ولاية عليها إذا كانت بالغة ورشيدة. وأكد أن مهمة إعمار الأرض واستثمار خيراتها مهمة مشتركة بين الرجال والنساء وبحسب اختصاص وطاقة وقدرات كل منهما.
فإذا كان واقع المرأة المسلمة قد بات متخلفاً عن النظرة الإسلامية الرفيعة فإن ذلك يعود إلى الانتكاسات السياسية المتعددة والمتتالية التي منينا بها، والتي ما لبثت أن اتسعت وامتدت لتخلق انتكاسات أخرى عقائدية وثقافية واجتماعية، وليست أوضاع المرأة المتردية إلا نتيجة هذه الانتكاسات المتعددة والمتتالية.
وعليه، فإن الواقع الحالي للمرأة، ليس نتاج النظرة الإسلامية باعتبار أن كل الواقع الاجتماعي المعاصر -سياسياً واقتصادياً وثقافياً- متخلف عن الإسلام، وهو ليس نتاج الإسلام.
ونحن هنا بتأكيدنا على ما قدمته الرسالات السماوية لا ننكر أن الحضارة الغربية قد منحت المرأة مجالات واسعة للإبداع والعمل. إلا إن هذه النتيجة الإيجابية كان من الممكن تحقيقها دون الانزلاق في المدارج السلبية التي تعصف بهذه المزايا وترجح سيئاتها.
ولعل هذا هو ما دعا بعض المفكرين الغربيين إلى الدعوة لتشجيع التدين والإفادة مما تقدمه الرسالات السماوية من الضمانات الخلقية، وحيث تخيل أحد المفكرين الفرنسيين "مالرو" حضارة جديدة  تجمع بين المادة والروح وتُوائم بين رأي الدين ومطالب الحياة. ثم أطلق عبارة اكتسبت شهرة واسعة بعد ذلك حين قال "إن القرن الواحد والعشرين إما أن يكون قرن الدين أو لا يكون على الإطلاق".

 

هذه الكلمة ألقتها الحاجة عفاف الحكيم في ندوة أُقيمت في مدينة باري الإيطالية بتاريخ حزيران 2005، والتي حصلت ضمن سلسلة ندوات "الحوار الحضاري بين المسيحية والإسلام"، وكانت تحت عنوان: المرأة بين المسيحية والإسلام. دعت إليها الجريدة الأولى في إيطاليا "كوربري ديللا سيرا".
يُذكر أنّ هذه الندوات بدأتها الجريدة، بعد تأثر صاحبها السيد جورجيو بفيلم "مريم المقدسة"، إذ قرّر إقامة ندوات في سائر المدن الايطالية باستضافة شخصية إسلامية، ويتم عرض الفيلم قبل الندوة.

 

التعليقات (0)

اترك تعليق