مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المرأة وكرامتها في القرآن الكريم

المرأة وكرامتها في القرآن الكريم

للمرأة كرامتها الإنسانية في القرآن، وقد جعلها الله في مستوى الرجل في الحظوة الإنسانية، حينما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مُهانةً وَضيْعَةَ القدر، لا شأن لها في الحياة سوى كونها لُعبة الرجل وبُلغته في الحياة. فجاء الإسلام وأخذ بيدها وصعد بها إلى حيث مستواها الرفيع الموازي لمستوى الرجل في المجال الإنساني الكريم «لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ»1. «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»2.
القرآن عندما يتحدّث عن الإنسان ـوليس في حقيقة الإنسانية ذكورة ولا أنوثةـ إنّما يتحدّث عن الجنس ذكراً وأنثى على سواء. وعندما يتحدّث عن كرامة الإنسان وتفضيله على كثير ممّن خلق 3 وعن الودائع التي أودعها هذا الإنسان 4 وعن نفخ روحه فيه 5 وعندما يبارك نفسه في خلقه لهذا الإنسان 6 إنّما يتحدّث عن الذات الإنسانية الرفيعة المشتركة بين الذكر والأنثى من غير فرق. هو عندما يقول: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» 7 وعندما يقول: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» 8 وإلى أمثالها من تعابير لا يفرّق بين ذكرٍ واُنثى: «أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» 9 . لا ميز بينها ولا تفارق فيما يمتاز به الإنسان في أصل وجوده وفي سعيه وفي البلوغ إلى مراتب كماله. «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» 10.
وقد جاء قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى» دليلاً قاطعاً على موازاة الاُنثى مع الذكر في أصالة النوع البشري، ولا تزال هذه الأصالة محتفظاً بها عبر تناسل الأجيال.
نعم، هناك خصائص نفسيّة وعقلية ميّزت أحدهما عن الآخر في تكوينها الذاتي ممّا أوجب تفارقاً في توزيع الوظائف التي يقوم بها كلٌّ منهما في حقل الحياة، توزيعاً عادلاً يتناسب مع معطيات ومؤهّلات كلّ من الذكر والأنثى، الأمر الذي يؤكّد شمول العدل في التكليف والاختيار. ولننظر في هذه الفوارق الناشئة من مقام حكمته تعالى في الخلق والتدبير.
«وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» هنا وقفة قصيرة عندما نلحظ أنّ القرآن فضّل الرجل على النساء بدرجة!
فهل في ذلك حطٌّ من قدر المرأة؟ أو كمال حُظي به الرجل دونها؟
ليس من هذا أو ذلك في شيء، وإنّما هي مرافقة مع ذات الفطرة التي جُبِل عليها كلٌّ من الرجل والمرأة.
إنّ معطيات الرجل النفسية والخُلُفية تختلف عن معطيات المرأة، كما تختلف طبيعتها الاُنوثيّة المُرْهَفَة الرقيقة عن طبيعة الرجل الصلبة الشديدة، كما قال الإمام أمير المؤمنين(ع) "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة" 11. فنعومة طبعها وظرافة خُلُقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مصطدمات الأمور، على خلاف الرجل في تريثه ومقاومته عند مقابلة الحوادث.
فالمرأة في حقوقها ومزاياها الإنسانية تعادل الرجل «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ». هذا في أصل خلقتها لتكون للرجل زوجاً من نفسه أي نظيره في الجنس، فيتكافلان ويتعاونان معاً في الحياة الزوجية على سواء. فلها مثل الذي عليها من الحقّ المشترك، وهذا هو التماثل بالمعروف أي التساوي فيما يعترف به العقل ولا يستنكره.
لكنّ الشرط الذي يتحمّله الرجل في الحياة الزوجية، هو الشرط الأثقل الأشقّ، فضلاً عن القوامة والحماية التي تثقل عبء الرجل في مزاولة الحياة. الأمر الذي استدعى شيئاً من التمايز في نفس الحقوق الزوجية، ممّا أوجب للرجل امتيازاً بدرجة «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ».
وهذا التفاضل في الذات والمعطيات هو الذي جعل من موضع الرجل في الأسرة موضع القوامة. «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» 12.
إنّ الأسرة هي المؤسَّسة الأولى في الحياة الإنسانية، وهي نقطة البدء التي تؤثّر في كلّ مراحل الطريق، والتي تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصوّر الإسلامي. وإذا كانت المؤسّسات ـالتي هي أقلّ شأناً وأرخص سعراً كالمؤسّسات المالية والصناعية والتجارية وما إليهاـ لا توكل أمرها عادةً إلاّ للأكفاء من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة، فالأولى أن تُتَّبّع هذه القاعدة في مؤسّسة الأسرة التي تُنشِئ أثمن عناصر الكون، ذلك هو العنصر الإنساني.
والمنهج الربّاني يراعي هذا، ويراعي به الفطرة والاستعدادات الموهبة لشطري النفس ـالعقلاني والجسماني- لأداء الوظائف المنوطة بهما معاً، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري الأسرة الواحدة، والعدالة في اختصاص كلًّ منها بنوع الأعباء المهيّأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفرّدة.
والمسلَّم به ابتداءاً أنّ الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأنّه تعالى لا يريد ظلماً بأحدٍ من خلقه، وهو يُهيّئ ويُعدّه لوظيفة خاصّة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة . وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى زوجين على أساس القاعدة الكلّيّة في بناء هذا الكون. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتّصال بينها وبين الرجل. وهي وظائف ضخمة وخطيرة وليست هيّنة ولا يسيرة، بحيث يمكن أن تؤدّى بدون إعداد عضويّ ونفسيّ وعقليّ عميق غائر في كيان الأنثى. فكان جديراً أن ينوط بالشرط الآخر ـالرجل- توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى كي تتفرّغ لأداء وظيفتها الخطيرة. ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثم هي التي تعمل وتكدّ وتسهر ليلاً وتجهد نهاراً لحماية نفسها وكفالة ولدها في آنٍ واحد! فكان عدلاً كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ ما يُعينه على أداء وظائف هذه الخطيرة أيضاً. وكان هذا فعلاً «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا» 13.
ومن ثَمَّ زُوَّدت المرأة ـفيما زوَّدت به من الخصائص- بالرقّة والعطف والحنان، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير، لأنّ الضرورات الإنسانية العميقة كلّها والملحّة أحياناً ـحتى في الفرد الواحدـ قد لا تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه مجالاً، بل فرضت الاستجابة لها غير إرادية، لتسهل تلبيتها فوراً وفيما يَشبه أن تكون قسراً، ولكنّه قسرٌ داخلي غير مفروض من خارج النفس، ويكون لذيذاً ومستحبّاً في معظم الأحيان، لتكون الاستجابة سريعة من جهةٍ ومريحة من جهةٍ أخرى، مهما يكن فيها من المشقّة والتضحية «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» 14.
قال سيّد قطب: وهذه الخصائص ليست سطحية، بل هي غائرة في التكوين العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ للمرأة. بل يقول كبار العلماء المختصّين: إنّها غائرة في تكوين كلّ خليّة، لأنّها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكلّ خصائصه الأساسية. 15
وكذلك زُوَّد الرجل ـفيما زُوَّد به من الخصائص- بالمقاومة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، والتروّي واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة، لأنّ وظائفه كلّها منذ بدء الحياة وممارسة التنازع في البقاء كنت تحتاج إلى قدرٍ من التروّي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجهٍ عامّ 16. وكلّها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها. وهذا الخصائص تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها. كما أنّ تكليفه بالإنفاق ـو هو فرعٌ من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة.
وهذان العنصران هما اللذان أبرزهما النصّ القرآني، وهو يقرّر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها وعللها من التكوين والاستعداد، إلى جنب أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات، الأمر الذي جعل من مرتبة الرجل أعلى من مرتبة المرأة بدرجة!
قال سّيد قطب: إنّها مسائل خطيرة، أخطر من أن تتحكّم فيها أهواء البشر، وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة هدّدت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته، وفي بقاء الخصائص الإنسانية التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميّز.
و لعلّ من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها و تحكّمها، ووجود قوانينها المتحكّمة في بني الإنسان، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتفكّرون لها، لعلّ من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبّط وفساد، ومن تدهور وانهيار، ومن تهديدٍ بالدمار والبوار، في كلّ مرّةٍ خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزّت سلطة القوامة في ، أو اختلطت معالمها، أو شذّت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة.
ولعلّ من هذه الدلائل تَوَقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الاُسرة، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلّة السعادة، عندما تعيش مع رجلٍ لا يزاول مهامّ القوامة و تنقصه صفاتها اللازمة، فيكل إليها هي أمر القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلَّم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام.
ولعلّ من هذه الدلائل أنّ الأطفال الذين ينشّأون في عائلة ليست القوامة فيها للأب، إمّا لأنّه ضعيف الشخصية بحيث تبرز عليه شخصية الاُمّ وتسيطر، وإمّا لأنّه مفقود لوفاته أو لعدم وجود أبٍ شرعي. فلمّا ينشّأون أسوياء وقلّ أن لا ينحرفوا إلى شذوذٍ مّا، في تكوينهم العصبيّ والنفسيّ، وفي سلوكهم العمليّ والخُلقيّ.
فهذه كلّها بعض الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكّمة في بني الإنسان، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكّرون لها 17.
ونتيجةً على ما سبق، كان تفضيل الرجل على المرأة بدرجة ناظراً إلى جهة قوامته في الأسرة، وهذه القوامة تعود إلى خصائص في تكوين الرجل ووظيفته التي خوّلها له عرف الحياة الزوجية. فنعود نقرأ الآية: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» في تكوينه «وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» حسب وظيفتهم العائلية.
قال الشيخ محمّد عبده: وأمّا قوله تعالى: «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» 2 فهو يوجب على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء. ذلك أنّ هذه الدرجة الرئاسة والقيام على المصالح المفسّرة بقوله تعالى: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ»
فالحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولا تقوم مصلحة هذه الحياة إلاّ برئيس مُطاع، والرجل أحقّ بالرئاسة لأنّه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومن ثمّ كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها 18.


الهوامش:
1. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 32، الصفحة: 83.
2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 228، الصفحة: 36.
3. سورة الإسراء (17)، الآية: 70.
4. سورة الأحزاب (33)، الآية: 72.
5. سورة السجدة ( 32 )، الآية: 9.
6. سورة المؤمنون (23)، الآية: 14.
7. القرآن الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 39، الصفحة: 527.
8. القرآن الكريم: سورة الحجرات ( 49)، الآية: 13، الصفحة: 517.
9. القرآن الكريم : سورة آل عمران (3)، الآية: 195، الصفحة: 76.
10. القرآن الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 35، الصفحة: 422.
11. نهج البلاغة، الكتاب رقم 31، صفحة 405.
12. القرآن الكريم: سورة النساء (4)، الآية : 34، الصفحة: 84.
13. القرآن الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 49، الصفحة: 299.
14. القرآن الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 88، الصفحة: 384.
15. تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 58 ـ 59، المجلّد الثاني، ص 354 ـ355 .
16. إنّ معدّل سعة الدماغ في الرجال 1480 سم مكعّب وفي النساء 1300 سم مكعّب، و وزن دماغ الرجل 1360 غم بينما وزن دماغ المرأة 1210 غم. إنّ هذا المعّدل يمثّل كافّة شعوب البشر بصورة عامّة. كتاب الحيوان للدراسة الجامعية: 388.
17. في ظلال القرآن، ج 5/ 60، المجلّد الثاني/ 356.
18. تفسير المنار: 2/ 380، و5/ 67.

المصدر: مركز الإشعاع الإسلامي.

التعليقات (0)

اترك تعليق