كلمة الحاجة عفاف الحكيم في مؤتمر الوحدة الإسلامية 2012م: دور العلماء في صيانة الهوية الإسلاميّة الواحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (سورة آل عمران، الآية: 103).
لا شك أنه كما للفرد هوية يتميز بها. فكذلك للمجتمع والأمة هوية تميزها عن غيرها من الأمم..
ومن هنا تعرّف هوية الأمة بأنها ذاتها ووجودها.. وتعرّف هوية الفرد بأنها حقيقته وجوهره والبصمة المميزة لكل ما يحمله أو يوصف به من صفات عقلية وروحية وفكرية وأخلاقية واجتماعية..
وأن عالمنا اليوم يشهد صراعاً حاداً على هذه الهوية.. كما يعتبر هذا الصراع التحدي الأكبر الذي يواجهه المجتمع الإنساني برمته. لأن استفحاله وتصاعد وتيرته سيؤدي إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية وذوبان التقاليد والأعراف لدى سائر الأمم والشعوب..
وأن هذا الخطر الذي يتهدد الجميع بات اليوم ظاهرة تكتسح مناطق شتى من العالم، والغاية منه هي محو الهويات، ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي.
وليست هذه الظاهرة التي نتحدث عنها ثقافية وفكرية وإعلامية فحسب كما يبدو؛ وإنما هي ظاهرة سياسية في المقام الأول -كما تبين الدراسات والأبحاث- لأن الهدف النهائي الذي تسعى إليه هذه القوى هو إخضاع العالم لمنطق القوة والهيمنة والسيطرة تحقيقاً لغاياتها الذاتية.
وقد بلغ إعجاب واغترار الرئيس الأمريكي -كلينتون- بالهوية الأمريكية أن وجد في نفسه الجرأة بأن قال "إن أمريكا مؤمنة بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري. وإننا نشعر أنّ علينا التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتنا".
وبناء عليه، فإنّ مؤهلات أي مجتمع وقدرته على مواجهة هذه المشاكل والتحديات إنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى ثبات واستقامة ذلك المجتمع مع هويته؛ لأن الهوية بالنسبة للمسلم -على سبيل المثال- تمثل صدق انتمائه وانصهاره، وتعلقه، وحبه لله تعالى وللرسول(ص) وأهل بيته(ع)، وبالقرآن، وبدين الإسلام عامة الذي جُعلنا به-خير أمة- وصبغنا بفضله بخير صبغة قال تعالى: «صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ» البقرة/138.
وإنه في ظل هذا المناخ العالمي الغير مستقر يتضاعف الخطر الذي يهدد -كما بينّا- المجتمعات الإنسانية والإسلامية منها بشكل خاص في خصوصياتها الثقافية والحضارية، وفي أمنها الفكري والعقائدي وهويتها العامة. ومن هنا يصبح الحفاظ على الهوية الإسلامية ضرورة ملحة وواجباً إسلاميا وأولوية هامة (وهنا نلفت إلى ما كتبه أيضاً الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته بأنه ليس أمامنا بالنسبة إلى المسلمين إلا أحد أمرين:
- الأول: تقتيلهم والقضاء عليهم.
- الثاني: تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنية العلمانية).
إن حرب الثقافات والحضارات والحرب الاجتماعية الناعمة التي يعيشها العالم في أيامنا ما هي إلا نموذج من هذا الصراع المحموم، الذي يسعى كل طرف فيه لفرض هويته وطمس هوية الآخرين، غير أنّ التحدي الأكبر يبقى في السياسة الاستعمارية الجديدة التي تسود العالم اليوم والتي ترمي إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم وفق معاييرها الجديدة، وتسعى إلى صياغة هوية شمولية تفرضها في الواقع الإنساني.
وإن المسؤولية الكبرى اليوم هي التي تقع على عاتق علماء الإسلام في العالم الإسلامي باعتبار أن الظروف الراهنة تحتم الجلوس لدراسة وتدارس هذا الأمر غير الهين من أجل وضع وتفعيل الرؤى والنشاطات الجماعية والأعمال الآيلة إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية.
ونحن نعلم أنّ القرآن الكريم قد وضع القواعد والأسس لهوية المجتمع الإسلامي من الناحية النظرية، وأنّ السنة المطهرة للنبي(ص) وأهل بيته الطاهرين قد عملت على تبيين وتفسير تلك المفاهيم القرآنية وتطبيقها على أرض الواقع، عاملة على تأمين سياج متين لحماية الفرد المسلم من أن يندمج بغيره أو يفقد هويته. وإن عظمة الإسلام المتجلية في عظمة كتاب الله والسنة المطهرة التي تفسره تبرز هنا مع تأكيد -الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في نفس الوقت- على احترام عقائد وأفكار وهوية الآخرين حتى لو كانت غير صحيحة، بل نراها تأمرنا مع تشديدها على انضباطنا وتمسكنا بهويتنا بعدم إيذاء غير المسلمين وإثارتهم وإهانة دينهم، كما تلزمنا بمنهج الدعوة بالحسنى بدل السب والشتم، وتحثنا على الصفح وغض النظر عن السيئة إظهارا لسماحة الدين العظيم.
قال تعالى: «قُلْ يأَيُّهَا الْكَـفِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَـبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَـبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ» سورة الكافرون.
وقال تعالى: «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» سورة العنكبوت/46
وقال تعالى: «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ» سورة الأنعام/17
وقال تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَـــكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» سورة فصلت/34.
ولقد كان الرسول(ص) صورة صادقة للدين الذي جاء به، وأهل بيته(س) كانوا أنموذجاً في الرحمة والبشر والانفتاح الكريم، وفي الصبر والصفح والعفو وغض النظر عن السيئة وعدم الرد على الإيذاء من أي جهة كانت.
ومن هنا شكل(ص) وأهل بيته الواحة المعنوية والروحية والملاذ الآمن ومحور الحب والالتفاف والاقتداء والوحدة في المجتمع الإسلامي كافة.
وإنها لصورة قاتمة ومخيفة تلك التي ترسم اليوم للإسلام في أذهان الناس حتى صار الناس يخافون من الدين ومن التدين لأنهم يظنونه شيئاً قاسياً لا يرحم، وأتباعه غلاظ لا يلينون، وأحكامه سيف قاطع على الرؤوس.
قوى الاستكبار وتراجع الأمة:
نعم، لقد مرت الأمة الإسلامية بأزمنة صعبة بدأت معها تفقد توازنها وانضباطها وهويتها وذلك بسبب الحكام والسلاطين الذين تسلطوا على مقدراتها بسبب فسادهم وتطلعاتهم الدنيوية والتنازلات التي قاموا بها من أجل تمكين عروشهم، ثم كانت الكارثة في فتح المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين وظهور هذه المدارس بأنها الأرقى، بعد أن زودت بإمكانات هائلة، وقد قال يومذاك مؤسس الجامعة الأمريكية في لبنان "علينا أن ننشئ مدارس لبنات المسلمين. فنحن لا نطمح أن يكنّ مسيحيات مستقبلاً.. ولكن نطمح أن لا يكنّ أمهات مسلمات".
وقال "كرومر" حاكم مصر أيام الاحتلال "إن أبناء مدرسة فكتوريا سيكونون أبناءً للغرب ينادون بالهوية الغربية ويحاربون الإسلام والمسلمين".
وقبل ذلك كانت نصيحة "لويس التاسع" ملك فرنسا، الذي يمثل معلماً بارزاً للغرب في تعامله مع المسلمين حيث قال: "إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم إمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم".
وقد وعى قومه هذه النصيحة فجاءت رياح الاستعباد وجاء الاحتلال الأجنبي لمعظم بلاد المسلمين ليعمق الشعور بالتخلف، وانتشر الفقر والجوع والمرض والجهل ونسب كل ذلك ظلماً للإسلام بعد أن عينوا حراساً لمشاريعهم تعمل على التجزير بالإسلام والمسلمين أمثال -كمال أتاتورك في تركيا- ورضا بهلوي في إيران وغيرهم وسعوا بكل أسلوب - كما نعلم- لإبعاد الأمة عن هويتها، آخذين بأسرع الطرق، وهو طريق التغريب الذي يهدم الشخصية الإسلامية ويبنى مكانها الشخصية الغربية- ونجحت هذه الخطة نجاحاً كبيراً وحققت لهم أهدافاً عظيمة على مستوى تغييب الهوية الإسلامية وبناء تصورات غربية لدى أبناء الإسلام.
وبعد ذلك غُزينا بالإعلام (صحافة وإذاعة وتلفاز وقنوات فضائية..)، وكان أن افتتنت مجتمعاتنا، التي انساقت باتجاه الحضارة المادية الواردة من شرق الأرض وغربها وغلبت الشعوب على أمرها، عبر حكام ظلمة وعملاء كانوا أشد ضراوة على شعوبهم من المستعمر نفسه، وكان أن أخرج الشعب الفلسطيني الأبي من دياره وأرضه، ثم راحوا يجهدون لتضييع القضية الفلسطينية برمتها، أهم وأعز قضية لدى المسلمين كافة.
وأذكر هنا ما قاله أخيراً وزير خارجية العدو الصهيوني حين أسقطت بعض دول الخليج المقاطعة الاقتصادية من الدرجة الثالثة: "ليس المهم ما نحققه من مكاسب اقتصادية بقدر ما حققنا من بداية انهيار الحاجز النفسي.. ".
العلماء وساحة المواجهة:
نعم، إلى جانب صمودهم وجهادهم العلمي والثقافي الذي هو حقاً أفضل من دماء الشهداء في بعض جوانبه، فقد تحمل علماء الدين في كل عصر من العصور المرارات من أجل الدفاع عن المقدسات الدينية والوطنية، وتحملوا الأسر والنفي والسجون والأذى والمضايقات الجارحة وقدموا شهداء. بل إن عدد الشهداء المجهولين منهم ممن قضوا غرباء خلال نشر المعارف والأحكام الإلهية على يد العملاء والجبناء كثير وكثير، وإنه على سبيل المثال نذكر من هؤلاء العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، العالم المجاهد الذي واجه الفرنسيين في لبنان أيام احتلالهم البلاد، والعلّامة المدرسي في إيران الذي واجه الحكومات الظالمة حتى استشهد، والمرجع الكبير الشيرازي الذي قاد ثورة التنباك، وواجه الحكم الذي مكّن الإنجليز من التصرف بالتبغ واستغلال الناس وإشاعة الفساد فأرسل برقية من سامراء إلى الشاه القاجاري مبيناً بأن هذا يعتبر "منافياً لصريح القرآن الكريم والقوانين الإلهية، وبالتالي يؤدي إلى ضعف الدولة وعدم تمكينها من المحافظة على مبادئها واستقلالها"، وقاد نهضة ضد الأهداف الاستعمارية لبريطانيا من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية للشعب الإيراني المسلم، والسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده في مصر، اللذين وضعا معاً أسس الإصلاح الديني الإسلامي في العالم الإسلامي كله، وكان كل ما يشغلهما هو توحيد كلمة الإسلام والمسلمين، وإزالة الفوارق بينهم، ويقظة العالم الإسلامي على مواجهة الغرب الذي يرغب في الاستيلاء على مصادر الثروات الطبيعية والبشرية في ديار الإسلام الممزقة التي يحكمها الجهل، والإمام عبد الحميد بن باديس، رائد النهضة الإسلامية في الجزائر، والمجدد المصلح الذي دعا إلى نهضة المسلمين وقال "إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكر وتدبر، وتنهض لجلب المصلحة، ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة"، والشيخ عمر المختار، المجاهد الليبي الذي قاوم ظلم وطغيان المستعمرين الإيطاليين عشرين عاماً، داعياً إلى التخلص من الاحتلال البغيض ومظالمه ومفاسده إلى أن قضى شهيداً. وكان يقول: إن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة، أو نموت نحن وليس لنا أن نختار -غير ذلك- إنا لله وإنا إليه راجعون"، وغيرهم كثير..
وهكذا كان للعلماء حضورهم الدائم في ميادين الجهاد، وإنّ كل من يعرف التاريخ يعلم أن من قام ضد التسلط هم العلماء، وفي أي ثورة إسلامية كان العلماء هم السبّاقون إلى الشهادة، كما أنهم اعتلوا المشانق في أكثر من مكان، فالعلماء الملتزمون كانوا يشكلون طوال تاريخ الإسلام أهم قاعدة شعبية للإسلام في مواجهة الحملات الاستكبارية والانحرافات، وإنّ دور العلماء لم يكن خافياً على الطغاة، بل إنهم كانوا الهدف الرئيسي للاستعمار على الدوام، وإنه بالإضافة إلى حفظ الدين وصون هوية المجتمع والأمة فإن العلماء أخذوا على عاتقهم نشر الدين بين الناس، والتصدي لعملية تعليمه وبث أحكامه ومفاهيمه في أصعب الظروف. ولقد بذل الكثيرين منهم أعمارهم ودماءهم في سبيل نشر حكم شرعي من أحكام الإسلام، وذلك في الوقت الذي كان فيه السلاطين والظالمين يسخّرون جميع إمكاناتهم من أجل إبعاد الناس عن تلك التعاليم.
نعم، لقد أدى علماؤنا العظام تكليفهم طوال التاريخ على أحسن وجه؛ لأنهم لم يكتفوا بثقل المسؤولية العلمية الملقاة على عاتقهم، بل حملوا معها عبء مواجهة الطواغيت، وحفظ المجتمع الإسلامي، وصون هويته بكل الوسائل والإمكانات المتاحة لديهم في تلك الأزمنة الصعبة.القيادة العلمائية وأنموذج القيام لله:
إنه من هذا الوسط العلمائي الحوزوي خرج الإمام الخميني(رض)، خرج الإنسان الذي صاغه الإسلام وقدمه إلى العالم في لحظة تاريخية غامرة اهتزت لها العقول والقلوب على امتداد الكرة الأرضية. عالم رباني أوجد حالة نادرة من القيام لله، استنهض شعباً بكامله، بل استنهض أمة. استطاع بعد توكله على الله أن يقود المجتمع وأن يهزم الظلم ويبني مجتمعاً رسالياً متماسكاً، ويؤسس لجمهورية إسلامية هي اليوم ملء سمع الدنيا وبصرها.
لقد كان(رض) مشبعاً بالإسلام فكان طرحه وفكره بحجم الإسلام، وليس بحجم مذهب أو فئة، كان يرى الأمة باتساع كل مكوناتها فالسنة والشيعة بحسب رؤيته يشكلون الإسلام الواحد، وعليه فهم هدف واحد لأعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر.
وهذا العالم الرباني، لم تمنعه كل الحواجز المادية والدنيوية من أن يجسّد الحقائق الأصيلة في بلده بفضل ما اتسمت به شخصيته المباركة الفذّة، التي اكتسبت سكينة وثبات في مواجهة التحديات، واتصفت بصفات الزهد والإخلاص، فكانت تترفع عن كل شوائب الدنيا وعناوينها، فلم يشده الحكم والسلطة والمناصب، مما جعله يؤثر تأثيراً بالغاً في نفوس الأجيال التي حرك فيها البعد المعنوي بحيث صار الوعي الديني إحدى أهم خصائص عصر الإمام(رض) بعدما أرخت الجاهلية المعاصرة بكامل ثقلها المادي على مجتمعاتنا.
هذا العالم الرباني كان يمتلك إيماناً كبيراً بقدرة الشعوب الإسلامية على تجسيد الإسلام الحقيقي إذا ما التزمت نهج الله تعالى وعملت طبقاً لما تقتضيه رسالة السماء، وذلك لكونها القوة الحقيقية التي يمكنها أن تبدأ بالتغيير والتوجه نحو الأفضل، نحو ساحة دين الله وحكمه.
سنتوقف مع بعض ما تحدث به الكثير من الكتّاب والمفكرين حول فكره(رض)، إذ يقول السيد القائد الخامنئي دام ظله "نهج الإمام الخميني هو نهج الأنبياء الذي قام على أساس الصبر والمقاومة والاستعانة بالله سبحانه وتعالى للتغلب على المصاعب والضغوط".
وقال الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) "لقد حقق الإمام الخميني حلم الأنبياء بإقامة الدولة والحكومة الإسلامية"، وقال في إحدى وصاياه للمؤمنين أن "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام".
وقال آية الله العظمى المرعشي النجفي "سلام الله على روح الله الذي استطاع قلب جميع المعادلات السياسية لأعداء الإسلام وحقق النصر المظفر على أعتى القوى الاستعمارية العالمية وذلك بفضل جهاده المتواصل وكفاحه الدؤوب".
وقال آية الله المصباح اليزدي "إننا نحتاج للقرنين على الأقل حتى نفقه بدقة ما تركه الإمام من تأثير على المجتمع البشري".
وقال الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل أن الإمام الخميني "رصاصة انطلقت من القرن السابع لتستقر في قلب القرن العشرين.. طبعاً الرصاصة بمفهومها النبيل، لذلك فإن الشرق الأوسط لم ينبض في مثل شخص الإمام منذ عهد طويل" وتابع "عندما رأيته فقد شعرت أني أمام تجربة فريدة في التاريخ الحديث، كنت قبل ذلك أعتقد أنّ الثورة الشعبية بالمعنى الحرفي لهذا التعبير قد فات زمانها، كان ظني أنّ الثورة السوفياتية هي آخر ثورة استطاعت فيها الجماهير الغير مسلحة أن تواجه جيش السلطة وأن تنتصر عليه، كانت الثورة الإيرانية شيئاً يختلف عن كل ما رأيناه وعرفناه على طول المسافة الممتدة من سنة /1917 إلى 1977 – ستين سنة كاملة ثورة شعبية، ثورة جماهير عزّل تواجه جيشاً في عنفوان قوته، والثورة بعد ذلك كله ذات طابع يختلف كثيراً عن المألوف في العصر الحديث -الثورة دينية وعلى وجه التحديد إسلامية.
نعم، هذا هو الإمام الخميني(رض) العالم الرباني الذي شق الطريق لمسيرة عصر جديد، والذي قدّم أعظم ما يمكن تقديمه لجهة استعادة المضمون الثوري للإسلام، كما قدّم أعظم أنموذج لرجل دين ثوري. عرف كيف يستعيد للدين حضوره، وللمسلمين هويتهم الجامعة والواحدة. عرف كيف يكشف عن جوهر الأمة وعن أنه رغم نجاح الأعداء في إبعاد الهوية الإسلامية عن واقع كثير من المسلمين إلا إنهم فوجئوا -مع الانتصار المدوّي لثورته المباركة- أنهم لم يستطيعوا أن يستلبوا ضمائر المسلمين، وأن روح العداء للغرب متأصل لديهم، وأن نجاحهم محدود مهما حقق من نتائج، ولذا راحوا بعد ذلك يعملون، بانفعال كبير، على تغيير الهوية الإسلامية بالقوة، وذلك بالتدخل المباشر في تغيير أنماط سلوكيات المجتمعات الإسلامية وذلك بتغريب جميع الوسائل المؤثرة في هذه المجتمعات مباشرة، كما راحوا يعملون بقوة على مبدأهم الأساس -فرق تسد- وظهر انفعالهم الشرس عبر إثارة النعرات الطائفية والمذهبية البغيضة في كل مكان بهدف قطع الطريق على أنموذج القيام لله.
دور العلماء في صيانة الهوية الإسلامية الواحدة:
طبعاً لسنا في وارد الحديث عن هذا الدور لخصوصيته، وإنما بالإمكان أن نقف مع ما تركه الإمام(رض) من توجيهات في هذا المجال، لندرك من ثم سمعة ومكانة وفعالية العلماء عنده، وبالتالي ندرك عظم المهمة وأبعاد الدور الملقى على عاتقهم، ففي مفاهيمه وأفكاره(رض) أنهم ورثة علم الأنبياء(ع)، والأدلاء على مرضاة الله، وحرّاس الإسلام الذين يحفظونه من الانحراف.
ويقول الإمام الخميني(رض): "لولا وجود فقهاء الإسلام منذ صدر الإسلام وحتى الآن لما كنا نعرف شيئاً الآن عن الإسلام، فالفقهاء هم الذين عرفوا الإسلام وهم الذين درسوا الفقه الإسلامي وكتبوه، وهم الذين عانوا وسلمونا إياه".
ويقول(رض) "إذا خسر الإسلام كل شيء -لا سمح الله- وبقي فقهه بالطريقة الموروثة من الفقهاء العظام سيستمر في طريقه. أما إذا ما حصل الإسلام على كل شيء وخسر -لا سمح الله- فقهه على طريقة السلف الصالح فلن يمكن الاستمرار في الطريق الصحيح وسينتهي الأمر إلى الضياع".
ويقول أيضا: "إنّ الدعاية للعلماء والفقاهة لم تكن تحت ظل الحرب ولا برأسمال عَبَدة المال والأثرياء بل بالفن والصدق والتزامهم مما دفع الناس لاختيارهم".
وفي أسلوبه العملي(رض) في قيادة النظام نجده يستعين بالعلماء كعين ويد في جميع مؤسسات الدولة والعمل بحيث لم يترك المؤسسات تعمل لوحدها من دون رقابة ومواكبة من العلماء، وذلك لثقته الواضحة بالعلماء وبأنّ لهم جذور واسعة في قلوب الناس؛ لأنهم لم يقفوا مع الحكومات الجائرة ضد الشعوب، ولم يكونوا تبعاً لأي نظام، بل إنهم حفظوا الدين بكل أبعاده الفكرية والعملية فتحملوا على امتداد العصور هذه المهمة، وإنه لولا جهودهم المباركة والمضنية لم يصل إلينا هذا الدين العزيز أصيلاً صافياً كما أراد الله ورسوله.
الوحدة والتقريب ودور العلماء:
من جهة ثانية وسعياً منه(رض) لتحقيق أسس ومقومات وحدة الأمة والإحساس بأهمية التقريب بين شعوب الأمة الإسلامية وفقهاء مذاهب الأمة الإسلامية نجده يؤكّد بأنّ الوحدة الإسلامية هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة التحديات التي تواجهها الأمة، وبأنه يتعين على جميع المسلمين وعلى رأسهم العلماء -وخصوصاً مع الظروف الحساسة التي تجتازها الأمة على كافة الصعد- اعتماد الوحدة، ملفتاً إلى أنّ الأخوة الإسلامية والتقريب بين الشعوب والمذاهب هو السبيل الوحيد لهذه الوحدة الجامعة والتي من دونها لا يمكن أن ندّعي اكتمال الهوية الإسلامية الواحدة، مبيناً أنّ الإسلام قد وضع خطة متكاملة لتحقيق هذه الوحدة على أساس الاعتصام بحبل الله وعدم التفّرق، مؤكداً على وحدة الأصل والخلق والإيمان والإسلام ووحدة الصف والكلمة والهدف والمسير، داعياً الجموع للدخول في إطار التسليم الكامل لله، والابتعاد عن وساوس الشيطان، مذكراً بأهمية التضحية بالمصالح الضيقة في سبيل الهدف العام، حاذفاً كل المعايير التي قد تفتح باباً للفرقة كاللغة والقومية والوطن والعشيرة واللون.. مركزاً على المعايير الإنسانية كالعلم والتقوى والجهاد، ومؤكداً على لزوم تحري نقاط اللقاء ومبدأ الأخوة الإسلامية الذي يشكل أهم جزء مشترك بين المذاهب الإسلامية.
يقول الإمام(رض) "يجب أن يكون المسلمون يداً واحدة ضد كل الظالمين.. إنّ القرآن الكريم يحكم بأن جميع المؤمنين في العالم هم أخوة متكافئون".
"الأخوة الإسلامية هي منشأ كل الخيرات".
"لقد بلغتم ما بلغتم بالمحافظة على الأخوة وبالمحافظة على الأخوة تبلغون ما هو أسمى أيضاً".
ويقول الإمام(رض)أيضاً: "لقد ذكرت مراراً أن لا أهمية للعنصرية واللغة والقومية والإقليم في الإسلام، جميع المسلمين -سنة كانوا أم شيعة- هم أخوة متكافئون متساوون في المزايا والحقوق الإسلامية.
إني أمد يدي وبمنتهى التواضع نحو جميع التجمعات العاملة لخدمة الإسلام، طالباً إليهم السعي لتحقيق الاتحاد فيما بينهم في جميع المجالات، وذلك من أجل بسط العدالة الإسلامية التي تمثل الطريق الوحيد لتحقيق السعادة للشعب".
"الفرقة من الشيطان والاتحاد ووحدة الكلمة من الرحمن".
"أن أشد الضربات التي توجه لنا إنما هي من الاختلافات الداخلية".
"بعد ما يئست القوى الكبرى من الحصول على نتيجة من الحرب والهجوم العسكري -بادرت باستخدام الأساليب الشيطانية- لذرع الخلاف والفرقة".
"إذا كنا مختلفين في الأسلوب أو الرأي فعلينا أن نجلس لنتحاور ونطرح مشاكلنا ونحلها في جو هادئ".
صيانة الهوية الإسلامية الواحدة:
بالوقوف على مفاهيم وأفكار الإمام الخميني(رض) -كعالم وأنموذج للقيام لله- في نظرته المتميزة والخاصة بالعلماء، ودورهم على امتداد التاريخ في حفظ الإسلام وصيانة الهوية الإسلامية ومواجهة الظالمين نصل إلى نقطة صراع الهويات، وحيث أدركت كل الأمم أن قضية الهوية قضية محورية، وأنّ من لم ينتبه إليها سيجرفه سيلها وسيذوب في ثقافة غيره وتتلاشى ميزاته الخاصة ليكون ذيلاً، لذا فإنّ هاجس الهويات حاضر بشكل وبآخر في معظم دول العالم، وهناك تجاذبات في شأنها ما بين المحافظة على الخصوصية ومتطلبات الحداثة، وهذا الهاجس بات مظهراً ساطعاً من مظاهر الصراع في هذا العصر.
والمهم هنا أنّ أعداء أمتنا لم ولن يتركوها على هويتها الإسلامية، وعقيدتها التوحيدية، وثقافتها الإيمانية، بل سيكيدون الليل والنهار لزحزحتها عنها وطمسها قال تعالى: «وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا» (سورة البقرة، الآية: 217).
ولقد حاول أعداء الإسلام سابقاً وهم اليوم يحاولون جاهدين من أجل أن يطمسوا ويستأصلوا الهوية الإسلامية من المسلمين ولهم في ذلك وسائل شتى، فهذا نيكسون، وهو أخطر رؤساء أمريكا لأنه رجل مفكر ومنظر وليس رئيساً عادياً، يقول في كتابه "انتهز الفرصة" "إننا لا نخشى الضربة النووية ولكنا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب".
ويقول نيكسون أيضاً: "إنّ العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الواحد والعشرين".
إنهم يخشون المواجهة العقائدية، يخشون الالتزام العقائدي الواعي، ويحسبون له اليوم ألف حساب؛ لأن الالتزام بالحق -كما رأينا أنموذج العالم الرباني- ليس شعارات تُرفع وإنما هوية تترجم إلى التزام وولاء وسلوك وعمل ومنهاج حياة. هوية ينضوي تحت لوائها كل مسلم؛ لأن المسلمين كلهم يجمعهم مسمى واحد ومعتقد واحد «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ» (سورة الحج، الآية: 78).
وهم أمة واحدة قال تعالى «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (سورة الأنبياء، الآية: 92).
وإنّ هذه الأمة لا بد أن يجمعها اليوم أولوية لمواجهة هذا السيل الهائل من الفتن الصهيونية الأمريكية، والتي تطالعنا اليوم بهدف شق الصفوف وتمزيقها عبر الموجة التكفيرية التي تجتاح الأمة.
الأمة اليوم أملها متعلق بورثة الأنبياء، بالقيادات العلمائية الفذّة، القادرة على رد هذه الموجة العاتية بخلق البيئة الصالحة التي تحتضن فكرة التقريب لجعل هذه الثقافة من جديد، ثقافة عامة وتياراً فكرياً يسري في المجتمع الإسلامي ليصبح مجتمعاً متضامناً متآخياً تسوده روح التآلف والتآزر والاحترام المتبادل.
وإن العمل التقريبي، الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية الكريمة، لا ينشأ من فراغ وإنما هو يتطلب التضحية والدأب والتفاني ليس فقط من أجل إنقاذ الإنسان المسلم اليوم، بل أيضاً من أجل إنقاذ البشرية كما هو مأمول منه.
يقول السيد القائد الخامنئي دام ظله الشريف "اليوم البشرية في أمّس الحاجة إلى نداء الوحدة والتقريب والتوحيد والعدل وهو النداء الذي يرفعه الإسلام والمسلمون".
ويقول سماحته أيضاً "إنّ العالم الإسلامي يمر اليوم في أكثر ظروفه التاريخية حساسية حيث يعتبر توحيد صفوف الأمة والتقريب بين المذاهب الإسلامية من أهم المحاور الرئيسية لتحقيق النصر بإذن الله سبحانه".
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
عفاف الحكيم
2/1/2013
اترك تعليق