للقدوة الصالحة دور كبير في توجيه الناس وبناء المجتمعات... وقد حرص الإسلام على استثمار هذه الوسيلة ورفع من شأن من يستحقون أن يكونوا قدوةً للمجتمع ليهتدي الناس بهداهم، وقد حمل لنا كتاب الله صورة واضحة لمن يستحق أن يرفع إلى مقام القدوة، مبيّناً إنّ أولى الناس بتلك المكانة هم الأنبياء، ومن سلك نهجهم، واقتدى بسيرتهم، قال تعالى: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» (سورة الأنعام، الآيات: 83-90). الأنبياء قادة البشرية وطلائعها: لأنبياء الله دور إيجابي عظيم في تاريخ البشرية. وهذا الدور يشهد به حتى منكري الدين. باعتبار أن تعاليم الأنبياء الأخلاقية والإجتماعية كان لها دور مؤثّر في إصلاح المجتمعات وتحسينها وتقدّمها..
فهم صوت الحق ومنارات الهدى، هم حملة مشاعل النور، هم المعلمون الهادون المصطفون الحائزون على صلاحية التقاط الوحي من عالم الغيب، هذه الصلاحية التي لا يعلمها إلا الله، «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» (سورة الأنعام، الآية: 124).
بعثهم الله للناس عندما اقتضت حكمته بذلك، كي ينيروا للخلق الطريق ويدلّوهم على ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.. فالنبي يبلّغ رسالة الله إلى خلق الله ويوقظ طاقاتهم ويوجهها ويدعو إلى الله وإلى ما يرضي الله. يدعو إلى السماحة والصفاء والإصلاح وعدم الإيذاء والتحرر من غير الله، وإلى الصدق، والإستقامة، والحب، والعدالة، وسائر الأخلاق الحسنة، ويعمل على إنقاذ البشرية من قيد هوى النفس وأنواع الأوثان والطواغيت.
وإنّه من أجل أن تعمّ الرحمة الإلهية كل البشر. فإنّ القرآن الكريم يخبرنا بأن المشيئة الإلهية اقتضت بأن يرسل لكل أمة رسولا من أنفسهم كي يعلمهم ويسلك بهم سبل الهداية «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ» (سورة النحل، الآية: 36).
وبما أن الإنسان فطر على المحاكاة والتأثر، والتطلع، والإقتداء، والكمال فإنّه ومن أجل تسهيل عملية الإقتداء بالأنبياء نجد أنّ الأنبياء أنفسهم كانت تشملهم التكاليف التي يقومون بتبليغها وإن كانوا أحيانا يُكلّفون بما هو أشد، كما كان التجهد في أواخر الليل ونافلة الليل واجبة على الرسول الكريم(ص)..
يبقى أن الآيات الكريمة من سورة الأنعام والتي استعرضت هذا المشهد التاريخي الجليل لمسيرة الأنبياء، منتهية إلى الأمر الإلهي: «فبهداهم اقتده» تلفتنا إلى فاعلية التأسي وإبعاد التطلع والاقتداء في العملية التربوية. وحيث الوحي كما تشير الآيات.. لا يخرج الأنبياء عن البشرية بل يجعلهم نمودجا للإنسان الكامل وأسوة للآخرين. ولهذا يكونون للآخرين قادة وطلائع. هدف النبوّات: للوقوف على هذا المطلب نستعرض آيات ثلاث
1_ يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا» (سورة الأحزاب، الآيات: 45- 46).
2_ «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (سورة الحديد، الآية: 25).
الآيات الكريمة تشير من جهة إلى الهدف العام الذي هو هداية الناس لتحقيق سعادتهم ونجاتهم، لكنّها من جهة ثانية ركّزت على أنّ تعاليم الأنبياء هي مقدمة لأمرين هما:
1_ معرفة الله والتقرب إليه .
2_ إقامة العدل والقسط في المجتمع البشري.
وهنا نلاحظ أنّ النبوة التي بدأت بالسير المعنوي والدعوة إلى الله، انتهت كما يطلعنا القرآن الكريم إلى إصلاح حياة الناس وتنظيمها وتوجيهها نحو المسير الصحيح.
أمّا الآية الثالثة فإنها أشارت إلى نقطة هامة وأساسية لعملية تتبّع خطى الأنبياء(ع) وهي تزكية النفس وتصفيتها استعداداً للتعلّم قال تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (سورة آل عمران، الآية: 164)، مضافا إليها أوائل سورة المزمل التي توحي بشيء من هذا: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» (سورة المزمل، الآيات: 1-5)، إنه التشديد على تزكية النفس وتنقيتها وعلى التقوى والطهارة كأهداف للمعرفة.. وحيث يصبح قيام الليل نوع من أنواع تزكية القلب استعدادا لتلقي العلم (القول الثقيل). ميزة الرسالة الخاتمة: تميزت الرسالة الخاتمة بميزات خاصة تتناسب مع عصر الخاتمية، وذلك بحكم كونها الصورة الكاملة الجامعة لدين الله وستكون الهادية للبشر إلى الأبد.
فالتعاليم التي حملها خاتم الأنبياء محمد(ص)، توجهت إلى الناس كافة بخلاف من سبقه من الرسل الذين أرسلوا إلى أممهم خاصة، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة سبأ، الآية: 28).
كما وأنّ الله تعالى دعا رسوله الخاتم إلى إعلان هذه الحقيقة إلى الناس عامة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ» (سورة الأعراف، الآية: 158).
يبقى أنه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ميزات الرسالة الخاتمة لم تتمكن من أن يكون لها وجودا واقعيّا في المراحل السابقة التي شهدت طفولة ونمو البشرية، بخلاف مرحلة النضج التي نظّمت الحقوق والواجبات، وحددت العقوبات، وجعلت -على سبيل المثال- الفضل والكرامة بين الناس -رجالا ونساء- بأمور ثلاثة:
1_ العلم «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (سورة الزمر، الآية: 9).
2_ الجهاد في سبيل الله «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا» (سورة النساء، الآية: 95).
3_ التقوى والطهارة «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (سورة الحجرات، الآية: 13). وحدة الرسالات: لقد صرّح القرآن الكريم بأنّ الأنبياء جميعا يشكلون سلسة واحدة وأنّ السابقين منهم بشّروا باللاحقين.. كما بيّن أنّه رغم الاختلافات الفرعية فإنهم حملة رسالة واحدة وأتباعٌ لمدرسة واحدة. وأن هذه المدرسة عرضت تدريجيّا بحسب مقتضيات قابليات المجتمع الإنساني. وحين وصلت البشرية إلى مرحلة النضج، عرضت المدرسة كاملة، وبهذا وصلت النبوة إلى النهاية.
وعليه فإنّ البشريّة، في ظلّ التعاليم الإلهية، كانت كما التلميذ الذي يترقّى بين يدي معلميه -من الرسل والأنبياء- مترفعا من صف إلى صف وصولا إلى الصف الأخير. بحيث شكّل هؤلاء -المعلمون القدوة- أسرة واحدة. وكان رسول الله(ص) وخاتم النبيين هو وارث هذه الأسرة الربانية. وهذا الميراث الحضاري الذي لا يتكوّن مرّة واحدة، وإنّما يتكوّن ويقوى ويتّسع ويتأصّل أكثر في نفوس المؤمنين كلما مرّ به جيل أو أمتد به زمن.
وإنّ هذه المسيرة المباركة، هي الصيغة الإلهية التي يجب أن تصنع حياة الإنسان، وتاريخه، وعقله، وعواطفه، وسلوكه، وتحركه، وسلمه، وحربه بلونها الخاص.
قال تعالى: «قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون◊ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» آل عمران /84-85
والخلاصة: إنّ ظهور الأنبياء(ع) كان في وقت تحتاج إليهم البشرية أيّما احتياج فكانوا على امتداد التاريخ البشري كما اليد الغيبية التي امتدت لتحي.. فكانت كالديمة السمحاء التي هطلت في صحراء قاحلة فاهتزت بها الأرض وربت.. أخيرا وراثة الأنبياء: جاء في الحديث الشريف عن النبي(ص) أن "العلماء ورثة الأنبياء" و"أمناء الرسل". وبديهي القول أن مع العلماء هناك ركب المؤمنين العاملين في كل عصر ممن أحرزوا ما فاضل به الله تعالى بين الناس؛ (العلم والجهاد والتقوى). وحيث اتجه تقدير الأمم والشعوب لكل طالب إصلاح وآمر بمعروف وناهي عن منكر؛ لأنّ هذه الفريضة التي جعلت قاعدة لسائر الفرائض تجعل المؤمنين في كل عصر في حالة فكرية دائمة وطلب إصلاح مستمر وجهاد دائب لا يفتر ضد العبث والظلم والفساد على اختلاف أنواعه.
وكان أن اتسعت عناصر التقدير لتشمل المعلمين المربين ممن تتبعوا نهج الرسل وخطى الأنبياء والتزموا شريعة الله سلوكا ومنهجا، وغاصوا في عمق المسؤولية ونهضوا بها وكان خيارهم العمل الدؤوب المثقل بأسمى معاني الصبر، والصدق، والإخلاص لأنهم علموا أنّ بناء الأوطان إنّما يبدأ ببناء الإنسان الصالح. وبناء الإنسان الصالح هو من مسؤولية المعلم، الذي تقترب رسالته كمربي من رسالة الأنبياء(ع).
فالتربية والتعليم كانت وما زالت المهمة الجليلة جدا في نظر الإسلام قال أمير المؤمنين علي(ع): "من علمني حرفا كنت له عبدا"، وحين أراد الله تعالى أن يكرّم المعلم يخبرنا القرآن الكريم أنه نسبه تعالى إليه وسماه ربانيّا.. قال تعالى: «كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ» (سورة آل عمران، الآية: 79).
المصادر:
1- الوحي والنبوة/ للشهيد مطهري
2- في رحاب القرآن/ للشيخ الآصفي
3- روح الدين الإسلامي لعفيف عبد الفتاح طبارة
4- بحار الأنوار – تفسير الميزان
اترك تعليق