مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أثبت كالجبل، وعامل الناس بالحسنى!

أثبت كالجبل، وعامل الناس بالحسنى!

«يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»(الآيات: 16-19).
كانت أولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد، والتي تكمل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله أي في يوم القيامة ويضعها للحساب إن الله لطيف خبير.
"الخردل": نبات له حبات سوداء صغيرة جدا يضرب المثل بصغرها، وهذا التعبير إشارة إلى أن أعمال الخير والشر مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفية كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإن الله اللطيف الخبير المطلع على كل الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيع شيء في هذا الحساب. والضمير في "إنها" يعود إلى الحسنات والسيئات، والإحسان والإساءة(1).
إن الالتفات والتوجه إلى هذا الاطلاع التام من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها، وبقاء كل الحسنات والسيئات محفوظة في كتاب علم الله، وعدم ضياع وتلف شيء في عالم الوجود هذا، هو أساس كل الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وهو قوة وطاقة محركة نحو الخيرات، وسد منيع من الشرور والسيئات. وذكر السماوات والأرض بعد بيان الصخرة، هو في الواقع من قبيل ذكر العام بعد الخاص.
وفي حديث روي عن الإمام الباقر(ع): "اتقوا المحقرات من الذنوب، فإن لها طالبا، يقول أحدكم: أذنب وأستغفر، إن الله عز وجل يقول: سنكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. وقال عز وجل: «إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير»(2).
وبعد تحكيم أسس المبدأ والمعاد، والتي هي أساس كل الاعتقادات الدينية، تطرق لقمان إلى أهم الأعمال، أي مسألة الصلاة، فقال: يا بني أقم الصلاة لأن الصلاة أهم علاقة وارتباط مع الخالق، والصلاة تنور قلبك، وتصفي روحك، وتضيء حياتك، وتطهر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر. وبعد الصلاة يتطرق لقمان إلى أهم دستور اجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر.
وبعد هذه الأوامر العملية المهمة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والاستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. من المسلم أنه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية، وخاصة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلم أيضا أن أصحاب المصالح والمتسلطين، والمجرمين والأنانيين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء واتهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الانتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمل والاستقامة أبدا. "العزم" بمعنى الإرادة المحكمة القوية، والتعبير بـ‍ عزم الأمور هنا إما بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمرا مؤكدا، أو الأمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميما راسخا، وأيا من هذين المعنيين كان فإنه يشير إلى أهمية تلك الأعمال. والتعبير ب‍ "ذلك" إشارة إلى الصبر والتحمل، ويحتمل أيضا أن يعود إلى كل الأمور والمسائل التي ذكرت في الآية أعلاه، ومن جملتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن هذا التعبير قد ورد بعد مسألة الصبر في بعض الآيات القرآنية الأخرى، وهذا يدعم ويقوي الاحتمال الأول.
ثم انتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أولا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبر، فيقول: ولا تصعر خدك للناس أي لا تعرض بوجهك عن الناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور. "تصعر": من مادة (صعر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدي إلى إعوجاج رقبته . و"المرح": يعني الغرور والبطر الناشئ من النعمة . و"المختال": من مادة (الخيال) و (الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيما وكبيرا، نتيجة سلسلة من التخيلات والأوهام. و"الفخور": من مادة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين. والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أن الأولى إشارة إلى التخيلات الذهنية للكبر والعظمة، أما الثانية فهي تشير إلى أعمال التكبر الخارجي.
وعلى هذا، فإن لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدا وأساس توهين وقطع الروابط الاجتماعية الصميمية: إحداهما التكبر وعدم الاهتمام بالآخرين، والاخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهم والخيال ونظرة التفوق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصة وأنه بملاحظة الأصل اللغوي لـ‍ "صعر" سيتضح أن مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الانحراف في التشخيص والتفكير، وإلا فإن الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقا بمثل هذه الظنون والتخيلات. ولا يخفى أن مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس، أو المشي بغرور وحسب، بل المراد محاربة كل مظاهر التكبر والغرور، ولما كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العادية اليومية، فإنه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصة. ثم بين في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الاعتدال في مشيك: واقصد في مشيك وابتغ الاعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عاليا واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(3).
إن هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين: فالنهي عن "التكبر" و "العجب"، فإن أحدهما يؤدي إلى أن يتكبر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدي إلى أن يظن الإنسان أنه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين. وبالرغم من أن هاتين الصفتين مقترنتان غالبا، ولهما أصل مشترك، إلا أنهما قد تفترقان أحيانا. أما الأمر بصفتين، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام، لأن التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة. والحق أن الإنسان الذي يتبع هذه النصائح الأربع موفق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.
ومما يستحق الانتباه أن من الممكن أن نسمع أصواتا أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا، كصوت سحب بعض القطع الفلزية إلى بعضها الآخر، حيث يحس الإنسان عند سماعه بأن لحمه يتساقط، إلا أن هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامة، إضافة إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات، والحق هو أن صوت الحمار أقبح من كل الأصوات العادية التي يسمعها الإنسان، وبه شبهت صرخات ونعرات المغرورين البله. وليس القبح من جهة ارتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحيانا، لأن بعض المفسرين يقولون: إن أصوات الحيوانات تعبر غالبا عن حاجة، إلا أن هذا الحيوان يطلق صوته أحيانا بدون مبرر أو داع، وبدون أي حاجة أو مقدمة! وربما كان ما ورد في بعض الروايات من أن الحمار كلما أطلق صوته فقد رأى شيطانا، لهذا السبب. وقال البعض: إن صراخ كل حيوان تسبيح إلا صوت الحمار! وعلى كل حال، فإننا إذا تجاوزنا كل ذلك، فإن كون هذا الصوت قبيحا من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث، وإذا رأينا في الروايات المروية عن الإمام الصادق(ع)، والتي فسرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال، أو الصراخ عند التكلم والتحدث، فإنه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(4).
- آداب المشي:
صحيح أن المشي مسألة سهلة وبسيطة، إلا أن نفس هذه المسألة السهلة يمكن أن تعكس أحوال وأوضاع الإنسان الداخلية والأخلاقية، وقد تحدد ملامح شخصيته، لأن روحية الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيات كل أعماله، كما قلنا سابقا، وقد يكون العمل الصغير حاكيا عن روحية متأصلة أحيانا. ولما كان الإسلام قد اهتم بكل أبعاد الحياة، فإنه لم يهمل شيئا في هذا الباب أيضا. ففي حديث عن رسول الله(ص): "من مشى على الأرض اختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها"(5).
وفي حديث آخر عن النبي الأكرم(ص) أنه نهى أن يختال الرجل في مشيه، وقال: "من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنم، وكان قرين قارون لأنه أول من اختال!"(6).
وكذلك ورد عن الصادق(ع) أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها -إلى أن قال- وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شئ من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل، فقال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا وقال: واقصد في مشيك"(7). وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيز(ص)، وذلك أنه كان قد مر من طريق، فرأى مجنونا قد اجتمع الناس حوله ينظرون إليه، فقال: "علام اجتمع هؤلاء؟" فقالوا: على مجنون يصرع، فنظر إليهم النبي(ص) وقال: "ما هذا بمجنون! ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ "قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال: "إن المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، فذلك المجنون وهذا المبتلى"(8).
- آداب الحديث:
لقد وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها:
- طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلم، فإن السكوت خير منه، كما نرى ذلك في حديث عن الإمام الصادق(ع): "السكوت راحة للعقل"(9).
- وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع): "من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة"(10).
- وقد ورد التأكيد في روايات أخرى على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في المواضع التي يلزم فيها الكلام، وأن الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت، وأن وسيلة الوصول إلى الجنة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب(11).
- آداب العشرة:
- لقد اهتمت الروايات الإسلامية الواردة عن النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) بمسألة التواضع وحسن الخلق والملاطفة في المعاملة، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة، اهتماما قل نظيره في الموارد الأخرى، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها، ونذكر منها هنا نماذج:
- جاء رجل إلى رسول الله(ص) فقال: يا رسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: "الق أخاك بوجه منبسط"(12). وفي حديث آخر عن النبي(ص) أنه قال: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"(13).
- وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق(ع): "البر وحسن الخلق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار"(14). ونقل عن رسول الله(ص): "أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق"(15). وعن علي(ع) في شأن التواضع: "زينة الشريف التواضع"(16).
وأخيرا نطالع في حديث عن الإمام الصادق(ع): "التواضع أصل كل خير نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب.. ومن تواضع لله شرفه الله على كثير من عباده.. وليس لله عز وجل عبادة يقبلها ويرضاها إلا وبابها التواضع"(17).


الهوامش:
1- احتمل البعض أن الضمير أعلاه ضمير الشأن والقصة، أو يعود إلى مفهوم الشرك، وكلا الاحتمالين بعيد.
2- نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 204.
3- "أنكر" أفعل التفضيل، ومع أنه لا يأتي عادة في مورد المفعول، إلا أن هذه الصيغة وردت بصورة نادرة في باب العيوب.
4- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
5- ثواب الأعمال وأمالي الصدوق، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 207.
6- المصدر السابق.
7- أصول الكافي، الجزء الثاني، صفحة 28 باب (أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها).
8- بحار الأنوار، ج 76، صفحة 57.
9- الوسائل، الجزء صفحة 532.
10- المصدر السابق.
11- المصدر السابق.
12- أصول الكافي، الجزء الثاني، صفحة 28 باب (أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها).
13- بحار الأنوار، ج 76، صفحة 57.
14- الوسائل، الجزء صفحة 532.
15- المصدر السابق.
16- المصدر السابق.
17- بحار الأنوار، الجزء 74، صفحة 171.
18- أصول الكافي، الجزء 2، باب حسن الخلق وما بعده صفحة 81، 82.
19- المصدر السابق.
20- المصدر السابق.
21- بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 120.
22- بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 121.


المصدر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 13.

التعليقات (0)

اترك تعليق