مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

هكذا يجب أن تكون نساء النبي!

هكذا يجب أن تكون نساء النبي!

«يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا»(سورة الأحزاب؛ الآيات: 32-34).
تأمر الآيات نساء النبي(ص) بسبعة أوامر مهمة. فيقول سبحانه في مقدمة قصيرة:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فإن انتسابكن إلى النبي من جانب، ووجودكن في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعا خاصا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكل النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكن، ولا تنسين مسؤولياتكن الملقاة على عاتقكن، واعلمن أنكن إن اتقيتن فلكن عند الله المقام المحمود.
وبعد هذه المقدمة التي هيأتهن لتقبل المسؤوليات وتحملها، فإنه تعالى أصدر أول أمر في مجال العفة، ويؤكد على مسألة دقيقة لتتضح المسائل الأخرى في هذا المجال تلقائيا، فيقول: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض بل تكلمن عند تحدثكن بجد وبأسلوب عادي، لا كالنساء المتميعات اللائي يسعين من خلال حديثهن المليء بالعبارات المحركة للشهوة، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.
إن التعبير ب‍ الذي في قلبه مرض تعبير بليغ جدا، ومؤد لحقيقة أن الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أما عندما تتعدى هذا الحد فإنها ستكون مرضا قد يصل إلى حد الجنون، والذي يعبرون عنه بالجنون الجنسي، وقد فصل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولد من طغيان هذه الغريزة، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطة الملوثة.
ويبين الأمر الثاني في نهاية الآية فيقول عز وجل: يجب عليكن التحدث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله، ومقترنا مع الحق والعدل: وقلن قولا معروفا.
إن جملة لا تخضعن بالقول إشارة إلى طريقة التحدث، وجملة: وقلن قولا معروفا إشارة إلى محتوى الحديث. "القول المعروف" له معنى واسع يتضمن كل ما قيل، إضافة إلى أنه ينفي كل قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكل ما خالف الحق. ثم إن الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلا يتصور أحد أن تعامل نساء النبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهن، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كل صفة مهيجة.
ثم يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفة، فيقول: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
"قرن" من مادة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادة (القرار)، وهي لا تختلف عن المعنى الأول كثيرا(1).
و"التبرج" يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.
لكن ما هو المراد من "الجاهلية"؟
الظاهر أنها الجاهلية التي كانت في زمان النبي(ص)، ولم تكن النساء محجبات حينها كما ورد في التواريخ، وكن يلقين أطراف خمرهن على ظهورهن مع إظهار نحورهن وجزء من صدورهن وأقراطهن وقد منع القرآن الكريم أزواج النبي من مثل هذه الأعمال. ولا شك أن هذا الحكم عام، والتركيز على نساء النبي من باب التأكيد الأشد، تماما كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أن الكذب مجاز ومباح للآخرين، بل المراد أن العالم ينبغي أن يتقي هذا العمل بصورة آكد.
إن هذا التعبير يبين أن جاهلية أخرى ستأتي كالجاهلية الأولى التي ذكرها القرآن، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبؤ القرآني في عالم التمدن المادي، إلا أن المفسرين القدامى لم يتنبأوا ويعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الأولى هي الفاصلة بين "آدم" و"نوح"، أو الفاصلة بين عصر "داود" و"سليمان" حيث كانت النساء تخرج بثياب يتضح منها البدن، وفسروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثانية! ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أن الجاهلية الأولى هي الجاهلية قبل الإسلام، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم - في الآية (143) من سورة آل عمران، والآية (50) من سورة المائدة، والآية (26) من سورة الفتح- والجاهلية الثانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا.
وأخيرا يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس، فيقول سبحانه: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله.
إذا كانت الآية قد أكدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات، فإنما ذلك لكون الصلاة أهم وسائل الاتصال وارتباط بالخالق عز وجل، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأما جملة: أطعن الله ورسوله فإنه حكم كلي يشمل كل البرامج الإلهية.
إن هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أن الأحكام المذكورة ليست مختصة بنساء النبي، بل هي للجميع، وإن أكدت عليهن.
ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. إن التعبير ب‍ (إنما) والذي يدل على الحصر عادة -دليل على أن هذه المنقبة خاصة بأهل بيت النبي(ص). وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلا فإن الإرادة التشريعية- وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم -لا تنحصر بأهل بيت النبي(ص)، فإن كل الناس مكلفون بأن يتطهروا من كل ذنب ومعصية.
من الممكن أن يقال: إن الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا، إلا أن جواب ذلك يتضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأن للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس. وبتعبير آخر فإن المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والاختيار في إتيانها، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمه، مع أنه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع، والمبادئ الفطرية والطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه. ولفظة "الرجس" تعني الشيء القذر، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(2). وما ورد في بعض الأحيان من تفسير "الرجس" بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الاعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلا فإن مفهوم هذه الكلمة عام وشامل لكل أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا، والتي تسمى بألف ولام الجنس. و"التطهير" الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس ونفي السيئات، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.
وأما تعبير أهل البيت فإنه إشارة إلى أهل بيت النبي(ص) باتفاق علماء الإسلام والمفسرين، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية، لأن البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلا أن المراد منه بيت النبي(ص) بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(3). إلا أن هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النبي هنا؟
اعتقد البعض أن هذا التعبير مختص بنساء النبي، لأن الآيات السابقة واللاحقة تتحدث حول أزواج رسول الله(ص)، فاعتبروا ذلك قرينة على مدعاهم. غير أن الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادعاء، وهي: أن الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أن ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، وهذا يوحي بأن هناك معنى آخر هو المراد، ولذلك خطا جمع آخر من المفسرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكل أفراد بيت النبي(ص) رجالا ونساء.
ومن جهة أخرى فإن الروايات الكثيرة جدا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكل أهل بيت النبي(ص)، وتقول: إن المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمد(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(ع) ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية، فإن التفسير الذي يمكن قبوله هو التفسير الثالث فقط، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيبة.
والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيات البحث في واجبات نساء النبي ولا يشملهن هذا المطلب؟
وقد أجاب المفسر الكبير العلامة "الطبرسي" في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرة الأولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتصل مع بعضها وتتحدث عن مواضيع مختلفة، فإن القرآن ملئ بمثل هذه البحوث، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.
وأضاف المفسر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخصه: لا دليل لدينا على أن جملة: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس... قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيدا من الروايات أن هذه القطعة قد نزلت منفصلة، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النبي(ص) أو بعده.
والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أن القرآن يريد أن يقول لزوجات النبي : إنكن بين عائلة بعضها معصومون، والذي يعيش في ظل العصمة ومنزل المعصومين فإنه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، ولا تنسين أن انتسابكن إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكن مسؤوليات ثقيلة، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.
وبينت الآية الأخيرة -من الآيات مورد البحث- سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النبي، ونبهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهن في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة. فإنكن في مهبط الوحي، وفي مركز نور القرآن، فحتى إذا جلستن في البيوت فأنتن قادرات على أن تستفدن جيدا من الآيات التي تدوي في فضاء بيتكن، ومن تعليمات الإسلام وحديث النبي(ص) الذي كان يتحدث به، فإن كل نفس من أنفاسه درس، وكل لفظ من كلامه برنامج حياة! وفيما هو الفرق بين "آيات الله" و"الحكمة"؟
قال بعض المفسرين: إن كليهما إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أن التعبير بـ‍ (الآيات) يبين الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير ب‍ (الحكمة) يتحدث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.
وقال البعض الآخر: إن "آيات الله" إشارة إلى آيات القرآن، و"الحكمة" إشارة إلى سنة النبي(ص) مواعظه وإرشاداته الحكيمة. ومع أن كلا التفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية، إلا أن التفسير الأول يبدو أقرب، لأن التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر، إضافة إلى أن تعبير النزول قد ورد في آيات متعددة من القرآن في مورد الآيات والحكمة، كالآية (231) من سورة البقرة: وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ويشبهه ما جاء في الآية (113) من سورة النساء. وأخيرا تقول الآية: إن الله كان لطيفا خبيرا وهي إشارة إلى أنه سبحانه مطلع على أدق الأعمال وأخفاها، ويعلم نياتكم تماما، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم. هذا إذا فسرنا "اللطيف" بالمطلع على الدقائق والخفيات، وأما إذا فسر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلى أن الله سبحانه لطيف ورحيم بكن يا نساء النبي، وهو خبير بأعمالكن أيضا. ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على "اللطيف" من جانب إعجاز القرآن، وعلى "الخبير" باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.
الهوامش:
1- طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادة القرار، وحذفت الراء الأولى للتخفيف، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة، وتصبح (قرن) -تأملوا جيدا-
2- ذكر الراغب في مفرداته، في مادة (رجس) المعنى المذكور أعلاه، وأربعة أنواع كمصاديق له.
3- ما ذكره البعض من أن "البيت" هنا إشارة إلى بيت الله الحرام، وأهله هم "المتقون" لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات، لأن الكلام في هذه الآيات عن النبي (ص) وأزواجه، لا عن بيت الله الحرام، ولا يوجد أي دليل على قولهم.



المصدر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 13.

التعليقات (0)

اترك تعليق