مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

في كمال أم النبي(ص) آمنة بنت وهب وجمالها الصوري والمعنوي

في كمال أم النبي(ص) آمنة بنت وهب وجمالها الصوري والمعنوي

لا يخفى أن أم الرسول(ص) آمنة هي بنت وهب بن عبد مناف بن قصي جدة فاطمة الزهراء(ع) لأبيها، وأمها برة. وآمنة تلي خديجة الكبرى في جلالة القدر ونبل المقام في مكة المكرمة. وكذا كانت فاطمة بنت عمرو أم أبي طالب وعبد الله في جلالة القدر والنبل.
كان أبوها متمكنا ثريا جدا. وكان لفاطمة وآمنة مقام خاص لأنهن أمهات النبي(ص).
ونسبها قريب جدا من سلسلة النبوة، فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، ونسبها من الأم: آمنة بنت برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وأم برة أم حبيبة بنت أسد بن عبد العزى بن قصي.
وعلى أي حال فهي متصلة من الطرفين بنسب النبي(ص) بوسائط قريبة وكان بنو زهرة يقولون: نحن أخوال النبي(ص).
وروي في أوصاف آمنة أنها كانت كالمرآة المضيئة، ووجهها كفلقة قمر، وكانت من أحسن النساء جمالا وكمالا، وأفضلهن حسبا ونسبا.
قال الإمام(ع): «والله ما في بنات أهل مكة مثلها، لأنها محتشمة ونفسها طاهرة مطهرة، وهي دينة أديبة عاقلة فصيحة بليغة، وقد كساها الله جمالا لا يوصف».
ويمكن استكشاف أدبها وفضلها وعقلها وإيمانها وبيانها المليح من أبياتها المنظومة وكلماتها المنثورة، ومنها ما خاطبت به النبي الخاتم قبل وفاتها:
إن صح ما أبصرت في المنام * فأنت مبعوث على الأنام
من عند ذي الجلال والإكرام * تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث بالتحقيق والإسلام * دين أبيك البر إبراهام
فالله أنهاك عن الأصنام * أن لا تواليها مع الأقوام

وهذه الأبيات مروية في كتب العامة، وهل يفهم منها سوى إيمانها وتحقق إسلامها، واتباعها لملة إبراهيم الحنيف؟!
ولي فيها نظما:
جدتها الطاهرة الحصينة * أم النبي آمنة الأمينة
وأمها البرة البيضاء * شريفة الأنساب والآباء
تميمة نيطت على هام العرب * كريمة بنت كريم كوهب
ما أتت الأيام والليالي * مثل أبيها صاحب المعالي
ما ولدت كريمة في العرب * في بيت طهر من كريم النسب
ومن ذرابة لسانها وحلاوة بيانها وحسن منطقها وعقيدتها الصحيحة أنها قالت عند وفاتها:
كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كثير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركت خيرا وولدت طهرا والسلام.
ومن فضل تلك الدرة اليتيمة والسيدة الكريمة والجوهرة الثمينة والحسناء الحصينة آمنة(ع) أنها صارت وعاء للوجود النبوي المقدس، ونالت به شرف الأمومة، ولنعم ما قال البوصيري:
فهنيئا لآمنة الفضل * الذي أشرقت به حواء
من لحواء إنها حملت * أحمدا وإنها به نفساء
يوم نالت بوضعه ابنة وهب * من فخار ولم تنله النساء
اى نور خداى در سرا پاى * اى مريم لا شريك له زاي(1)

والأفضل منه ما قيل في أمير المؤمنين وفي رسول الله(ص) معا:
ما لف في خرق القوابل مثله * إلا ابن آمنة النبي محمد
لقد كثرت المشاهدات قبل ولادته المباركة وفي أيام حمله وبعد الولادة بفترة وجيزة، فشاهد الناس عموما والنساء خصوصا في اليقظة والمنام من الآثار الأرضية والسماوية، ومن هواتف الجن ونداءات الملائكة وأقوال السحرة والكهنة من أهل مكة وغيرها، ومن الكرامات وخوارق العادات والمعجزات الباهرات لهذا المولود المبارك، حتى أذعن الأغلب بنبوته ورسالته وخاتميته، فكيف يعقل أن لا تؤمن تلك المخدرة؟ وهل يستقيم هذا الظن الفاسد والخيال الكاسد مع ظهور كل تلك المعجزات وبروز تلك الآيات البينات؟! حاشاها من هذه العقائد الفاسدة والنيات الكاسدة، بل ينبغي أن يقال في حق من يموت على هذه العقيدة الباطلة: لا جزاه الله خيرا.
فنقول: إذا قامت القيامة وأخرجت أمهات الأنبياء والأوصياء والصديقين والأولياء الكاملين رؤوسهن من التراب، فكم سيكون لهذه المخدرة من حرمة خاصة ومنزلة شريفة عند فاطمة الزهراء لا تكون لغيرها من النساء، سيما حينما تستظل آمنة خاتون تحت لواء الولاية، وتدخل في حمى النبوة والشفاعة، فأي امرأة تفضل عليها وتتطاول إلى مقامها؟!
إني أعظم ما بي أن أشبهها * يوم القيامة من مثل ومقدار
أقول: كان الملوك والسلاطين وأشراف مكة وصناديد قريش وسدنة البيت وخدام الحرم ورؤساء القبائل يتمنون لسنوات طويلة مصاهرة عبد المطلب، فكانوا يعرضون بناتهم الخيرات الحسان بلا مهر ولا عوض، بل كانوا يبذلون المهر وأكثر لعلهم ينقلون النور الساطع اللامع في جبينه إلى أرحام بناتهم، ويشرفون أسرهم بهذا الفخر.
فلما تزوجت السيدة آمنة تكدرت منها النفوس وأعرضت عنها القلوب، ورأوا أن النور النبوي المحمدي(ص) انتقل من صلب عبد الله إلى صدر آمنة بين ثدييها، فحسدوها وأرادوا إطفاء ذلك النور سيما نساء مكة، حيث كانت آمنة على مرأى ومسمع منهن، وشاهدن انتقال النور الطيب إليها، فمات منهن -كما في البحار- أكثر من مائتين باكر نادرة الحسن والجمال فتعرين من كسوة الدنيا وتغطين بإطباق التراب وسلمن أرواحهن إلى الموت بعد أن ماتت آمالهن ويئسن من الوصال مع عبد الله عديم المثال.
آتش عشق توأم خرمن پندار بسوخت * تن و جان و دل و دين جمله بيكبار بسوخت(2)
                                               * * *
روى السيد الجزائري عليها الرحمة وغيره من المحدثين عن زمر العاشقين: «من عشق وعف وكتم ومات مات شهيدا». ويؤيده قول الشاعر:
من مات عشقا فليمت هكذا * لا خير في عشق بلا موت
در عشق كسى را توانائى نيست * در هجر تحمل شكيبائى نيست
مرگست علاج آن و بيرون از مرگ * هر مصلحت دگر كه فرمائى نيست
(3)
وأجمل من هذا وأفضل، ما قاله لسان الغيب حافظ:
تو خود حجاب خودى حافظ از ميان برخيز * خوشا كسى كه در اين راه بي حجاب رود(4)
يعني وجودك ذنب لا يقاس به ذنب، وقال الله تعالى: «وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا»(5) والحجاب حجاب الغيرة للكفرة لأنهم لا يكونون أهلا لفهم أسرار القرآنية. وروي في ذيل الحديث السابق: إن تلك النساء المتوفيات متن حسرة وغيرة.
وقد تبين معنى الغيرة في الحديث عن سارة وهي كراهة مشاركة الغير في الأمر الخاص وهو معنى الحمية. وبعبارة أخرى: إن المحب لا يريد أن يشارك في محبوبه، كما قيل المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك.
وللمحبة علامتان حسب اختلاف المراتب: أحدهما حقن الدماء، والأخرى سفك الدماء.
قال محب:
عدمت وصال المحبين، فاشتعلت حسراتهم في صدري احترق بها وأعيش.
وفي الدعاء: «أسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة»(6).
والمحبة تحرك الشوق، وعلامة الشوق الموت، كما قال تعالى: «فتمنوا الموت إن كنتم صادقين»(7). ويؤكد المعنى السابق قول الشاعر:
إني لأحسد ناظري عليكما * حتى أغض إذا نظرت إليكما
وأراك تخطر في شمائلك التي * هي فتنتي فاغار منك عليكما

فمن نظر إلى الله لابد أن يغض النظر عن غيره، لغيرة الربوبية، فلا أحد أغير من الله، فلا يرى إلا الله، وقد أخبر الله عن غيرة سيد عباده، فقال: «ما زاغ البصر وما طغى»(8).
الحاصل: إن عنوان العشق البهيمي الذي قد ينجر إلى الفسق هو تجاوز الحد في محبة المحبوب، وهو الذي عبر عنه الإمام(ع) بقوله: «قلوب خلت عن ذكر الله»(9)، وهو شيء سوى عنوان الغيرة الحسرة، وإن أمكن أن يعد في أفراد العشق ببيان ما، وإرجاع الموت الإرادي إليه، فيحترق في نار الحسرة لفراق المحبوب كما قاله الطريحي في معنى الحسرة:
إنها الندم والاغتمام على ما فات ولا يمكن أن يعود، وسجية الحسرة وطبيعتها التلهف والحرارة والاحتراق، ويختلف الالتهاب والاشتعال في حقيقة القلب والروح على حسب اختلاف المتحسر والمتأسف، وكأنه مصداق قوله تعالى: «نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة»(10). وقد تنتهي بإتلاف النفوس وإفناء الوجود على حسب الإفراط والاستيلاء، ومن آثارها الحزن القلبي والبث النفساني «وابيضت عيناه من الحزن»(11) وقال تعالى: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله»(12) لذا سمي يوم القيامة بيوم الحسرة والندامة، فيالها حسرة على كل ذي غفلة من يوم الحسرة.
قال أبو علي عليه الرحمة: إذا بالغ العربي في أمر عظيم فاته، قال: يا حسرتاه ويا لهفتاه. وسمي يوم القيامة بيوم الحسرة لقوله تعالى: «كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم»(13)، ولذا قال تعالى: «وأنذرهم يوم الحسرة»(14) لأنه يوم تكشف فيه حقائق الأعمال الصالحة والأفعال الطالحة، فيندم أهل الغفلة والمعصية ويندم أهل الطاعة لما فاتهم من أعمال الخير، وكذا هو حال أصحاب الخضر في قصة اقتحام الظلمات والأخذ من أو الإمساك عن تلك الجواهر النفيسة، وكذا هي حسرة الإنسان حين الاحتضار على مفارقة المحبوبات والممتلكات:
ما حال من كان له واحد * غيب عنه ذلك الواحد
وهو معنى الخيبة ومفارقة الأحبة؛ والحسرة والندم على ما فات، والحرمان من زخارف الدنيا، والبعد عن الساحة المقدسة للكبرياء:
يهون علينا في المعالي نفوسنا * ومن خطب الحسناء لم يغله المهر


الهوامش:
1- يقول: يا من ولدت نور الله الشامل، ويا مريم التي ولدت من لا شبيه له.
2- يقول: لقد أحرق نار عشقك بيدر الأوهام، فأشعل النار في القلب والروح والبدن معا.
3- يقول: لا طاقة للمحب في حبه، ولا تصبر للعاشق على الهجر. ولا علاج للعاشق إلا الموت، وكل علاج تذكر في هذا الشأن غير شاف.
4- يقول: أنت حجاب نفسك، فقم يا حافظ من البين، وما أسعد من سار في هذا الدرب بلا حجاب.
5- الإسراء: 45.
6- انظر البحار 86/ 2 ح 2 باب 38.
7- البقرة: 94.
8- النجم: 17.
9- البحار 73/ 158 ح 1; قال(ع) -وقد سئل عن العشق-: قلوب خلت عن ذكر الله، فأذاقها الله حب غيره.
10- الهمزة: 6 - 7.
11- يوسف: 84.
12- يوسف: 86.
13- البقرة: 167.
14- مريم: 39.

التعليقات (0)

اترك تعليق