مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

في إسلام أم النبي(ص) السيدة آمنة بنت وهب

في إسلام أم النبي(ص) السيدة آمنة بنت وهب

إعلم أن السيوطي قال في كتابه «مسالك الخلفاء(1) في والدي المصطفى»: إني استقرأت أمهات الأنبياء فلم أجد فيهن إلا مؤمنة ماتت على الإيمان.
وقال الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير خلاف ذلك، وزعم أن والدي رسول الله كانا كافرين، وذكر أن نص الكتاب يدل على أن آزر كان كافرا، وكان والد إبراهيم الخليل.
وذهب القرطبي والدمياطي وابن حجر وعلماء آخرين من أهل الخلاف إلى مذهب السيوطي، وماتوا على هذا المذهب.
وذهب ابن أبي الحديد إلى التوقف في شرح نهج البلاغة بعد أن روى أبيات كثيرة لأبي طالب تدل على إيمانه، والعجب من فساد هذا المذهب.
ولعمري إن آمنة من كبار النساء، ومن أشراف النسوة المكرمات، وإنها من أعلى العرب نسبا وحسبا، سطع نور فخرها إلى السماوات العلى، وهبت رياح عطرها في كل ذرات الهواء، فلها الفضل الجميل، ولم يسمع لها بمثيل، أذاقنا الله من أسرار نفحاتها، وأعاد على من آمن بها وبإيمانها من بركاتها ورحماتها.
والعجيب أن الواقدي ومن شاكله من علماء السنة والجماعة رووا أخبارا في ولادة النبي(ص) تشعر في الغالب بجلالة قدر آمنة وصلابة إيمانها منها: أن كعب الأحبار اليهودي قال لمعاوية: إني قد قرأت اثنين وسبعين كتابا... وإنه لم يولد نبي قط فنزلت عليه الملائكة ما خلا عيسى وأحمد صلوات الله عليهما، وما ضرب على آدمية حجب الجنة غير مريم وآمنة، ولما حملت آمنة به تباشر أهل السماوات(2).
ولا شك أن الله يأبى أن يساوي بين امرأة كافرة وأخرى مؤمنة مثل مريم ويكرمهما بنفس التكريم، فما الفرق بين الإيمان والكفر حينئذ؟ وأي ميزان سيميز بينهما في العبودية؟!
وذكر هذا الشرف في حق فاطمة أيضا التي صارت وعاء للأئمة المعصومين(ع)، ونالت فضيلة الأمومة للأولياء الكاملين.
وهكذا كان الوعاء الشريف الذي ضم الوجود المحمدي السعيد، عظيما في ذاته، تميز بالمزايا الذاتية والأصالة الفطرية، فحسدتها لذلك نساء مكة وتمنين ‹ صفحة 61 › منزلتها وأثنين عليها بكل تلك الكرامات والسعادات والمواهب الجميلة والمناقب الجليلة، وباركن لأبيها بهذه النعمة المحمودة والمكرمة المسعودة، وكان الناس رجالا ونساء يدعون النبي بها ، وينسبونه إليها كما فعل الجارود ابن المنذر النصراني في عام الحديبية حينما أسلم، وكان عالما بالطب والفلسفة والكتب السماوية; قال في قصيدة:
أتيتك يا بن آمنة الرسولا * لكي بك أهتدي النهج السبيلا(3) إلى آخر ما قال...
ولم تكن هذه النسبة إهانة، بل كانت على سبيل التفخيم والجلالة.
أقول: إن ما دلت عليه أخبار الإمامية، واشتهر بين الفرقة الحقة الاثني عشرية زاد الله نظائرهم، أن والدي رسول الله ماتا على الإيمان الكامل والإسلام الخالص، ولم يتدينا بأديان أهل مكة طرفة عين أبدا، ولم يعبدا إلا الله.
نعم; حاول جملة من عبيد معاوية وعشاق الدنيا وأتباع الهوى أن يأولوا بعض الآيات والروايات إطاعة لأمر معاوية في كفر أبي طالب(ع) فحاولوا محاولات مضحكة في تأويل ظواهر الآيات في والدي النبي إكمالا لمرادهم، كما تبين من كلام الفخر الرازي، ولكن رأيهم لا يصمد أمام النقد، ومع ذلك فقد أجاب عليه الأصحاب بأجوبة سديدة، إضافة إلى ما مر من أشعارها التي رواها السنة قبل موتها وإخبارها عن الغيب، ودلالتها على حسن عقيدتها وشهادتها ببعثة النبي(ص).
ونروي هنا شيئا من الأحاديث النبوية والأخبار المروية عن الأئمة الطاهرين لنختم بها هذه الطليعة ونترك المخالف وشأنه في الإنكار:
قال المرحوم الصدوق في الاعتقادات: اعتقادنا في آباء النبي(ص) أنهم مسلمون، من آدم(ع) إلى أبيه عبد الله، وأن أبا طالب كان مسلما، وآمنة بنت وهب أم رسول الله كانت مسلمة(4).
وقال النبي(ص): إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم(ع)(5).
وقد روي أن عبد المطلب كان حجة وأبو طالب كان وصيه(6).
وفي النبوي أيضا: «لم أزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني من عالمكم هذا ولم يدنسني دنس الجاهلية»(7). والحديث عام يشمل جميع آباء النبي وأجداده، ولو كان فيهم مشرك لأخرجه، ولو كان فيهم مشرك لم يصفهم جميعا بالطهارة مع قوله تعالى: «إنما المشركون نجس»(8).
قال أمين الدين الطبرسي في مجمع البيان:
أجمعت الطائفة على ذلك(9).
وقال المجلسي: اتفقت الإمامية على أن والدي الرسول(ص) وكل أجداده إلى آدم(ع) كانوا مسلمين، بل كانوا من الصديقين، أو أوصياء معصومين. ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام لمصلحة دينية ولتقية (10). تم قوله.
وفي الحديث المعتبر عند الفريقين: «إن الله حرم النار على صلب أنزلك، وعلى بطن حملك، وعلى حجر آواك، وعلى أخ لك في الجاهلية»(11).
وفي حديث علل الشرائع: إن الله شفعك في خمسة منها.. في حجر كفلك وفي بيت آواك(12)، والمراد من الحجر عبد المطلب ومن البيت عبد مناف بن عبد المطلب.
وفي تهذيب الأحكام عن صفوان الجمال عن الصادق(ع) عن النبي(ص) قال: إني مستوهب من ربي أربعة وهو واهبهم لي إن شاء الله تعالى: آمنة بنت وهب، وعبد الله بن عبد المطلب، وأبو طالب، ورجل من الأنصار جرت بيني وبينه ملحة»(13).
والرسول(ص) لا يستوهب مشركا وينجيه من النار.
ولعل الرجل هو «خلاص بن علقمة»، والملحة إما أن تكون «الحلف» أو أكل الملح، أي أنه(ص) أكل من زاده وملحه، والحمد لله الذي أخرج نبيه من أزكى أرومة وأطيب جرثومة.
ودليلنا معاشر الشيعة على طهارة آباء النبي(ص) وأجداده من كتاب الله قوله تعالى: «الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين»(14) أي إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد، فالآية دالة على أن جميع آباء النبي(ص) كانوا مسلمين مؤمنين:
عبد المطلب وهاشم وعبد مناف وغيرهم.
وذكر ابن أبي الحديد احتمالا لإثبات خيالات أبناء جنسه، فقال: إذا تعارض الجرح والتعديل، فالترجيح لجانب الجرح; لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل(15) ولا شهادة على النفي.
ويجاب:
أولا: إننا نقول أن أخبارنا وصلت حد الإستفاضة، وما تروونه من أن أبا طالب قال عند موته: «أنا على دين الأشياخ» فالمقصود من الأشياخ آباؤه الكرام وأجداده العظام، وعلى هذا فلا تعارض بين الدليلين لتصل النوبة -من ثم- إلى الجرح والتعديل وتقديم الجارح على المعدل.
ومن البديهي عدم إمكان إثبات كفر والدي الرسول وأبي طالب من ظاهر قوله تعالى: «إذ قال إبراهيم لأبيه آزر»(16) لأن آزر كان عمه ولم يكن أباه واسم أبوه الواقع في عمود النسب النبوي -كما في القاموس- هو «تارح» بالتاء والحاء أخت الجيم، وإطلاق الأب على العم لغة مستعملة عند العرب إلى يومنا هذا، كما أنهم يطلقون الأم على الخالة.
وهم يقولون: إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام ويجاهر به، لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي(ص) ما تهيأ له، وكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه حينئذ(17).
وكيف يعقد على قول المنصور على المنبر - وهو معروف ببغضه وعداوته ‹ صفحة 65 › لأمير المؤمنين(ع) (أنا ابن سيد أهل الجنة أنا ابن سيد أهل النار)؟ قال ابن أبي الحديد: وهذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر وهو ابنه وغير متهم عليه ، وعهده قريب من عهد النبي(ص) لم يطل الزمان... الخ.
ثم قال: إنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة، وروي في موته على دين قومه أخبار كثيرة، فتعارض الجرح والتعديل، فكان كتعارض البينتين عند الحاكم، وذلك يقتضي التوقف، فأنا في أمره من المتوقفين(18).
وقال ابن أبي الحديد أنه سأل شيخه النقيب يحيى بن أبي زيد فقال: قد نقل الناس كافة عن رسول الله(ص) أنه قال: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية، فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك ، لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين.
وأما ما ذكر في القرآن من إبراهيم وأبيه آزر وكونه كان ضالا مشركا، فلا يقدح في مذهبنا، لأن آزر كان عم إبراهيم، فأما أبوه فتارخ بن ناحور، وسمي العم أبا كما قال «أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آباءك»(19) ثم عد فيهم إسماعيل وليس من آبائه ولكنه عمه(20). ثم رد ابن أبي الحديد هذا القول برد سخيف ضعيف، ثم قال في آخر كلامه: وصنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبي طالب وبعثه إلي يسألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلة عليه ، وأن أحكم بذلك قطعا، فلم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت على ظاهر المجلد:
ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا فقاما
فذلك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر * وأودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعد ما * قضى ما قضاه وأبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
وما ضر مجد أبي طالب * جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر اباة الصباح * من ظن ضوء النهار الظلاما
فوفيت حقه من التعظيم والإجلال ولم أجزم بأمر عندي فيه وقفة. (إنتهى كلام ابن أبي الحديد)(21).
إعلم أن إثبات كفر أبي طالب ليس بالأمر الهين، وكذا الأمر في إثبات كفر والدي الرسول (ص).
والشيعة الإمامية لا ترضى هذا القول بحال، ولا ينسجم مع عقائدهم، لذا انبروا للاحتجاج مع الخصوم، مع ما في حجج الخصم من ضعف واختلاط وإسخاط للنبي(ص)، فألفوا رسائل عديدة في هذه الشأن، وقد ذكر المرحوم الشيخ عبد الله بن نور الله طاب ثراه في عوالم العلوم منهم السيد الفاضل شمس الدين أبا علي فخار بن معد الموسوي من أعاظم المحدثين ورد اسمه في أغلب كتب الإجازات، وقد كتب كتابا في إثبات إيمان أبي طالب اشتمل على أخبار الخاصة والعامة، وكذا ألف المرحوم محمد طاهر القمي طاب ثراه المعاصر لسلاطين الدولة الصفوية وخرج فيه حديث أمالي الطوسي واحتجاج الطبرسي عن أمير المؤمنين، أنه قال لسائل في رحبة الكوفة: «مه فض الله فاك، أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار»(22) وهو حديث طويل سيأتي ذكره.
والغرض من هذا الحديث تحقيق مراد أهل الإيمان في إثبات إيمان آمنة الأمينة أم الرسول، وما ذكرناه كان استطرادا والله تعالى أعلم بسرائر الضمائر من الغائب والحاضر.



الهوامش:
1- مسالك الخلفاء كما في حاشية البحار 15/ 118.
2- البحار 15/ 261 ح 12 باب 3.
3- البحار 15/ 261 ح 12 باب 3.
4- الإعتقادات للشيخ الصدوق 85.
5- البحار 15/ 117 ح 63 باب 1.
6- البحار 15/ 117 ح 63.
7- البحار 15/ 127 ح 63 باب 1.
8- التوبة: 28.
9- البحار 15/ 117 ح 63 عن مجمع البيان للطبرسي.
10- البحار 15/ 117 ح 63 باب 1.
11- البحار 15/ 109 ح 53 باب 1 باختلاف يسير.
12- البحار 15/ 126 ح 66 باب 1.
13- البحار 15/ 108 ح 51 باب 1.
14- الشعراء: 218 و 219.
15- شرح النه 14/ 49 باب 9.
16- الأنعام: 74.
17- شرح نهج البلاغة 14/ 47 خ 9.
18- شرح النهج 14/ 48 خ 9.
19- البقرة: 133.
20- شرح النهج 14/ 38 خ 9 ويبدون أن الكلام ليس لشيخه وإنما هو من أدلة القوم المثبتين.
21- شرح النهج 14/ 48 خ 9.
22- البحار 35/ 69 ح 3 باب 3.


المصدر: الخصائص الفاطمية: الشيخ محمد باقر الكجوري، ترجمة: سيد علي جمال أشرف. ط1،انتشارات الشريف الرضي، 1380 ش. ج2.

التعليقات (0)

اترك تعليق