خلف القضبان: من قصة "سراديب الوجع"
خلف القضبان:
أوصدت الشرطية الباب الحديدي بقوة، ووقفت مكاني لبرهة أتأمل الوجوه الصامتة التي تحدّق بي، ثم ما لبِثتْ أن تقدمت إحدى المعتقلات تعرّفني عن نفسها، وسرعان ما اقتربت الأخريات يسلمنّ عليّ..
وضعتُ أغراضي التي كانت عبارة عن: فراش رقيق جداً للنوم، ووسادة، وصحن طعام، في زاوية من الغرفة المظلمة، وجلست وحيدة أستجمع شتات أفكاري في خضم مشاعر متناقضة من الإحساس بالغربة والأنس في الوقت عينه.. في هذه الزنزانة المظلمة، اجتمعنا، وعلى الرغم من انتماءاتنا المذهبية والسياسية المختلفة، قبعنا تحت سقفٍ واحد من الظلم بتهمة "الوطنية "..
قرأتُ في وجوههن الغريبة عني سطور حكايتي، وعرفت في قرارة نفسي أنهن العائلة التي أنتمي إليها.. فمن الجميل أن تشعر أن هناك من ينتمي إليك أيضاً، بوجعك.. بحزنك.. بوحدتك..
وقد تكون جراحي النازفة تحرقني، ولكني شعرت بسكون يسكن فؤادي، وهدوء ارتاحت فيه أعصابي المشدودة منذ أن دخلت إلى المعتقل..
اقتربن مني، ورحنّ يخففن عني، ويداوين أوشام التعذيب على جسدي.. هدأت في أصواتهن، ولجأت إلى أكفّهنّ الممتدة نحوي، كعصفور مبللٍ اختبأ في جذع شجرة خوفاً من المطر.. ولستُ أدري عما تحادثنا، ولكن كل ما أذكره، أنه في تلك اللحظة عشت ما بين الشرود والهدوء إلى حدٍّ من الضياع الجميل..
وبين حديث آخر، بدأت إحدى المعتقلات بالتودّد إلي بشكل لافت، وصادف أن أهلها يعرفون أهلي لأن قريتها مجاورة لقريتي، ما جعل دائرة الحديث تتسع في ما بيننا، وبين أسئلتها عن سبب اعتقالي، وإصرارها على معرفة التهمة الموجهة إليّ، كانت اللامبالاة في أجوبتي وبرودة موقفي تشعل غيظها..
وبينما هي تحاول استدراجي بإخباري كل ما جرى معها قبل الاعتقال وبعده، كنتُ أرد عليها بالجواب المعهود الذي حفظته مني جدران غرف التعذيب.. كنتُ أحادثها وأنظر إلى المعتقلات الأخريات فأراهن ينظرنّ إلينا بحذر، ويتهامسن بنظراتهنّ خوفاً من شيءٍ ما..كان حديثي يطول وتلك الفتاة، وهنّ يتجاذبنه معي في محاولة لإعطائي إشارات تفضح حقيقة تلك الفتاة التي كانت مجرد "عميلة زنزانة"!
وعميلة الزنزانة، فتاة تفضحها الميزات التي تحصل عليها مقابل وشايتها بالمعتقلات، فهي تحتفظ بالصابون، والسكاكر، وتأكل مع الشرطيات، ويسمح لها أيضاً بالخروج من الزنزانة، والعديد من الميزات الأخرى. وما عرفته أيضاً، أن مهمة عميلة الزنزانة تفوق بأهميتها عمل المحقق في غرفة التعذيب، فهي التي تستقبل المعتقلة المعذبة، الضائعة في سراديب الخيام ووحشية عذاباته، لتهدئ من روعها، وتكفكف دمعها، ولتأخذها بين ذراعيها فتصبح قريبةً جداً منها، فتعترف المعتقلة على ذلك الصدر الحنون بالأشياء التي لم تجبرها أسلاك الكهرباء والسياط على البوح بها، جاهلةً أن ذاك الصدر، سيكون باباً من أبواب جحيم العذاب بعد أن يواجهها المحقق بما نُقل إليه في التقرير.
ولكن ما كان يعرقل مهمة عميلة الغرف، الوعي والحذر بين جميع المعتقلات في جميع الغرف، والتكاتف ضدها بصمتٍ وترقب..
وبدأت الأيام تُطوى خلف جدران معتقل الخيام، وفي تلك الغرف الغارقة برطوبة العتمة، وبالروائح النتنة، ومن بين صدى أصوات المعذبين، الصارخين ألماً، الساكتين صلابةً وبأساً، نبتت بين قلوبنا ألفة العائلة والأُخُوَّة والمحبة، حتى صرنا نفساً واحدة ويداً واحدة، نخاف على بعضنا أكثر مما نخشى على أنفسنا، وكانت علاقتنا ببعضنا كوردة جورية نبتت بين أشواك الكراهية والخيانة..
تلك الجدران كانت عالمنا، وكنا نستيقظ صباحاً كل يوم لنؤدي صلاة الصبح، ثم نقرأ الدعاء سويّاً، ونتلو القرآن.. في الساعة الثامنة نتناول الفطور الصباحي وهو عبارة عن ملعقة من "اللبنة"، وأربع حبات من الزيتون، أو بيضة مسلوقة غالباً ما تكون فاسدة، أضف إلى ذلك كوباً من الشاي البارد الذي أطلقنا عليه اسم المشروب الغازي "بيبسي"..
بعد ذلك يبدأ عملنا في تنظيف المكاتب والغرف، وكان وقتنا يمضي بين أحاديث وخبريات، وإذا ما تحدثنا عن الماضي وذكرياتنا، تنتهي القصة بدموع تحرق المهج، وتولد في أنفسنا التمرد على واقعنا الضيّق..
وبين قضاء الصلاة، والصيام، والدعاء، نجتمع سويًّا في فراغ الزنزانة، لنحضن في قلوبنا نور الله المشع في أنفسنا، فنناجيه بما حفظت ألسنتنا ونتلمس أعتاب رحمته بصمت دموعنا.. ولم تكن تفوتنا أي مناسبة دينية، فكنا نحيي ليالي القدر المباركة في شهر رمضان المبارك، ونقوم بإفطار بعضنا على كسرات من الخبز، وأيضاً لم يفتنا إحياء شعائر عاشوراء الحسين عليه السلام، التي كانت تعطينا الدافع للصبر والرضى بما نزل بنا.. وكنا نجمع مقاطع بعض الأدعية من بعضنا البعض، ونكتبها بالصابون على باب الغرفة لنحفظها، ثم نقوم بتحفيظها للمعتقلات في الغرف الأخرى، والآيات والسور القرآنية، وقد قمنا في أحد الأيام بسرقة سورة الدخان من قران عميلة الزنزانة، وحفظناها وداورناها على كل الغرف، والجميل أنّ المعتقلات المسيحيات كنّ يقرأن القران معنا..
بعد وقت الغداء، الذي هو عبارة عن يخنة البطاطا أو البازيلا المليئة بالدّيدان، ما اضطرنا إلى تنقيب الديدان الظاهرة على سطح مرقتها، يحق لنا بعشر دقائق نجلس خلالها في الشمس، وندخن سيجارة واحدة، ولكنهم غالباً ما يختصرون الدقائق العشر تلك، بثلاث دقائق، وفي بعض الأحيان نبقى في زنزاناتنا لأيام من غير أن نرى الضوء خارجاً. وكان يحق لنا يوماً بعد يوم بالاستحمام، وبسخان مياه واحد يجب أن تستحم أربع وعشرون فتاة، ما جعلنا نتداور في الاستحمام حتى يصل الدور إلى الجميع.
ولما يأتي الليل، وبعد عشاء من الفول المسوس، أو مرقة من اليخنة الغارقة بالدود، نجلس لنتدفأ بأنفاس بعضنا، ونضيع في استذكار أيامنا الماضية، أو ننسج من الوهم حلماً نعيشه، لننسى مكان وجودنا، فليس هناك أروع من الوهم عندما يصبح كحصانٍ طائر يحلّق بك بعيداً عن الواقع المر..
كنا نتعامل مع بعضنا بأكثر من حدود الأُخّوة، بل إلى حدِّ كبير حدود النفس، فنتبادل الثياب، ونعطي لبعضنا المال إذا ما وصل إلى معتقلة مبلغ من أهلها، إن كانت إحدانا بحاجة لشراء أي شيء، على الرغم من أن أكثر الأموال والأغراض التي كان أهالينا يرسلونها لنا عبر المسؤول الأمني للقرى1 في ميليشيا لحد، تسرقها الشرطيات اللاتي كنّ محترفات بالسرقة، حتى إنهن كن يسرقن نصف الفروج المشوي المسموح لنا بتناوله مرة في الأسبوع، ليعطين لكل ست معتقلات في زنزانة نصفه الآخر !..
وفي أحد الأيام سحبنا عبر كوة الزنزانة سلكاً دقيقاً من شريط كهرباء، جعلناه إبرة طرّزنا بها العديد من الأحاديث والرسومات التي قضينا أياماً وشهوراً ونحن نطرّزها، وكنا نأتي بالخيطان من المناشف والثياب القديمة ونسحبها خيطاً فخيطاً، ونجمع حبّات الزيتون لنجعل منها سبحات صغيرة..
بعد ثلاثة أشهر من اعتقالي، زارتني والدتي في المعتقل، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة، وقد جلبت لي بعض الأغراض واطمأنت علي، وعرفت من خلالها أخبار أخوتي وأحوالهم، ولكنها وخلال وجودي لمدة سنوات أربع في المعتقل، كانت ترسل لي أغراضاً وثياباً كثيرة لم يصلني منها أي شيء!.بعد تلك الزيارة لم أعد أعرف أي شيء عن أهلي، كغيري من المعتقلات، وكان العملاء يستغلون هذا الموقف ليستهزئوا بمشاعرنا، وليبينوا لنا كذباً وافتراءً أن أهلنا قد نسونا، وهم لا يسألون عنا ولا يهتمون لأمرنا.. ولم توصد أبواب الزنزانات الحديدية علينا فحسب، بل لطلما فتحت لتدخل معتقلة جديدة حاملة أوجاعها والامها فنسارع إليها لنحضنها ونخفف عنها، وندفئها من برد وحدتها، ووحشة ساعات قضتها في غرف التعذيب، وكنا نعرف أخبار الخارج من المعتقلين الجدد، ونتناقل الأخبار عبر شبابيك الغرف، وكنا نعتمد في المعتقل على حاسة السمع لمعرفة أشياء كثيرة، وحفظنا أرقام الغرف من أزيز أبوابها وصوت مفاتيحها، ولم يثننا صراخ الشرطيات ونحن نتحادث عبر الشبابيك، وإذا ما وشت العميلة علينا وقفنا كلنا وقفة واحدة ونلنا العقاب نفسه، وكانت عميلة الزنزانة التي تتقاضى مبلغاً من المال لقاء عمالتها تعرضنا للضرب بالسياط والتعذيب مقابل قطعة من الشكوكولا!
وبعيداً عن الأجواء الأخوية التي تربط المعتقلات ببعضهن البعض، كنا نؤازر الشبان المعتقلين في كل شيء، على الرغم من أننا لم نلتقِ بهم أبداً، فكنا إذا سمعنا صراخ معتقل جديد يتعذب سارعنا للصلاة والتضرع إلى الله أن يخفّف عنه ويتحمل العذاب.. لقد كان أكثر المواقف شجاعةً في المعتقل، عندما أعلن الأخوة المعتقلون العصيان، وكانت الانتفاضة في العام 1989 ووقفنا جميعًا شباناً وشابات نؤازر بعضنا لتحقيق المطالب..
كان قد مرّ على وجودي في المعتقل سنتان عندما أخبرني المسؤول في المعتقل أنهم سيفرجون عني، وحدد لي نهار الخميس في 1989/11/26، ورحت أنتظر ذاك النهار بفارغ الصبر، ولم أكن اعرف أنها مجرد كذبة كذبها عليّ، فبعد ظهر ذاك اليوم، وبينما كنا نقوم بتدخين السجائر بعد الصلاة والغداء، سمعنا ضجة كبيرة آتية من زنزانات الشباب، لقد كانوا يضربون الأبواب الحديدية بقوة، ويصرخون "الله أكبر"، فظننا بادئ ذي بدء، أنهم يتعرضون للضرب والتعذيب، فقمنا بالتشاور السريع فيما بيننا عبر الشبابيك بعد أن أدخلونا بسرعة إلى الزنزانات، وارتأينا أن نقف إلى جانب الشباب مهما تكن مطالبهم، فرحنا نضرب بقوة على الأبواب حتى سارع المسؤولون والشرطيات إلى زنزاناتنا ليسكتونا، فهم كانوا يعرفون أن أصواتنا كانت تشجع الشبان ليزيدوا من ثورتهم، وأخبرناهم أننا نريد أن تتحقق مطالب الشباب في المعتقل، ولكنهم عاقبونا بالضرب بالسياط والمياه وتم تركيعنا لساعات، وعلا الصراخ من سجون الأخوة بعد أن قام العملاء برمي القنابل الغازية، وضرب المعتقلين بوحشية، ما أدى إلى استشهاد الأخوين "بلال السلمان" و"إبراهيم أبو العز"، ثم تناهى إلى أسماعنا صوت أحد المعتقلين وقد بدأ بالتفاوض مع العملاء باسم أسرى الخيام..
مع استشهاد "بلال" و"إبراهيم"، خيّم جوّ من الحزن القاسي على قلوبنا، وجمعنا بعضاً من القصائد، لنقولها كمجالس عزاء حسينية عن روحيهما الطاهرة، وكنا نقول تلك المجالس لكل غرف المعتقلات عبر الشبابيك، وكان مأتمهما في قلوبنا كبيراً جداً..
كان العملاء دائماً يتعمّدون تزويدنا بالأخبار السيئة التي تؤذينا، فعندما توفي الإمام الخميني قدس سره جاؤوا قبل طلوع الفجر ليخبرونا أن "زعيمنا مات"! وعندما يستشهد أحد المقاومين يسخرون منا، ويستغلون كل الأوضاع السياسية الخارجية ليؤثروا علينا داخل المعتقل، ويوهمونا أن المقاومة مجرد كذبة سرعان ما ستقضي عليها إسرائيل، ولكن ما كان يكذب أقوالهم أصوات العمليات التي كان يصل صداها إلى داخل المعتقل، فتعلو الزغاريد والتكبيرات، خاصةً عندما دوى في أحد الأيام صوتٌ قوي في سهل الخيام أدى إلى قتل العديد من الصهاينة، وذلك عندما فجَّر الاستشهادي الشيخ أسعد برو نفسه بقافلة إسرائيلية.. وأيضاً كان لعملية الحر العاملي دويّ صارخ خلف جدران المعتقل، وتلك العمليات هي رسالة محبة من المقاومة لنا، وإنهم على العهد باقون، يحفظون دماء من استشهد منهم، جراح من جُرِحَ، وقيدنا نحن الأسرى..
ومن بين الصفحات السوداء التي توالت في حياتي داخل المعتقل، يشع وجه "زينب شعيتو" تلك الفتاة التي تبلغ الأربعين من العمر، وتبصر بعين واحدة، وقد اعتقلوها من الحقل عندما كانت تساعد أهلها بجنيّ ما زرعت أيديهم، و أتوا بها وأختها إلى المعتقل حيث نالتا من التعذيب الشديد الحظ الوافر.. ولم تكن زينب تلك الفتاة المهتمة بالحياة الاجتماعية والسياسية، فهي لا تعرف من حدود الدنيا سوى منزلها والحقل في القرية، ولكنهم اعتقلوها إثر استشهاد ابن شقيقتها في المقاومة الإسلامية.
قضت زينب حوالي الشهر في المعتقل، وكان شهر رمضان المبارك، وأطلقوا سراحها بعد أن هددوها باعتقالها بعد العيد مباشرةً، وفي صبيحة عيد الفطر، أتى أحد العملاء ليخبرنا أن "زينب" انتحرت في بركة قريتها "الطيري"، وقد وجدوها في الصباح الباكر جثة هامدة تطفو على وجه المياه بثياب النوم، بعد أن فضلّت الموت على أن تعتقل من جديد.. قضينا ذلك اليوم بين بكاءٍ ونحيب، وقد عرفت بعد خروجي من المعتقل، أن زينب لم تنتحر كما أُخبرنا في المعتقل، بل قتلها العميل المقبور حسين عبد النبي بإغراقها في البركة..
بعد زينب، تأتي صورة "رفيقة"2، التي قضيت معها أياماً ملوّنة بالمعاناة والقهر، كانت أخبار أهلي قد انقطعت عني نهائياً، وقد مرّ على وجودي في المعتقل حوالي سنتين ونصف، فاستبدت بي مشاعر الإحباط والقلق والتوتر، وقد استغل العملاء، بخبثهم، نقاط ضعفنا بشوقنا إلى أهلنا وإيهامنا بأنهم لا يسألون عنا ولا يرسلون لنا أي شيء، فارتأيت أنه قد يفيدني الجلوس منفردةً ليومين، وطلبت إلى المسؤول أن ينقلني إلى زنزانة إفرادية، وبين رفضه وإصراري وافق بعد أن عرف أن طلبي بناءً لحاجتي إلى الجلوس مع نفسي وليس إثر إشكال مع إحدى المعتقلات.
نقلتُ أغراضي إلى الزنزانة الإفرادية، مهيّئة نفسي لساعات صفاء، أفكر خلالها بأشياء يتقاذفها التناقض ويشتت الحل بين الحس والمنطق، فمثلاً كنت على يقين بأن أهلي لم ينسوني، وأنهم يبعثون لي أغراضاً يقوم العملاء بسرقتها..
ولكن الشوق المتأجج في داخلي لرؤيتهم كان يحرّك فيّ التمرد على الواقع وأسلاكه، وأشعر بعتب عليهم يكسر خاطري، وهم الذين يحبونني كما أحبهم، ويذكرونني كما أذكرهم، ويعيشون معي في زوايا المعتقل بذكرياتهم الجميلة، فطالما كنتُ أمتطي صهوة الخيال بحثاً عن مكان أجد فيه لحظات من الراحة وإن كانت وهمية، وأرسم واقعاً كما يحلو لي، متناسية أن سطور الحقيقة هي التي تفرض نفسها علينا ولسنا نحن من يكتبها..
وبين خيالٍ وذكريات، تمتلكني أحاسيس السعادة التي تخفف من وطأة الحزن الساكن فيَّ، فكنت إذا ما أسندت رأسي إلى الحائط الجامد رحت أرسم بمخيلتي دروب القرية الحجرية المتشعبة وسكون قاد ومياتها وبيوتها الحجرية القديمة.. ألمحها في الربيع، وقد أزهر اللوز على أفنان أشجارها فغدت عروساً بيضاء تبهر العيون، وفي الصيف تتحلى بذهب السنابل وبريق المناجل..
ما أروع القرية! وما أجمل الاستيقاظ قبل طلوع الفجر لنرافق الندى إلى الحقل، فنقطف أوراق التبغ والكرى يتراقص على أجفاننا!
وعند هدوء العصر، أغفو على المصطبة أمام بيتنا متدثرة بالسكينة والهناء..
وفي لحظاتِ، أقوم لأمسك قضبان الكوة الصغيرة في الزنزانة عساني أقتلعها لأخرج منها فراشة صغيرة تنتقل من زهرة إلى زهرة، أو طيراً لا يملّ القفز من غصنٍ إلى غصن.. ولكن ليس كل ما يحمله الحلم جميلاً، فأحياناً أخبئ وجهي بكفي محاولةً أن أتذكر وجه أمي! وجوه اخوتي ! لكأنها تقاسيم نفيت من ذاكرتي كما نفيت إلى هذا المعتقل.. أجل فقد نسيت وجه الحبيبة، وهل هناك أصعب من أن تجد الغباش حدود الوجوه التي تحب!.. أمي، أخوتي، صور أسدل النسيان عليهاً ستاراً من عدم الوضوح، ففتح جرحاً في القلب بقي ينزف حتى موعد اللقاء..
وبين شتاتٍ وآخر، فُتح الباب الحديدي، لتدخل منه ضيفة تحمل أوجاعها بقعاً زرقاء على جسدها الطري، كانت تبكي وتئن من الألم، فهرعت إليها لأهدئ من روعها، ولأمسح مكان أوجاعها بلطف يدي..
نظرتُ إلى عينيها الغارقتين بالدموع، الناطقتين بالخوف والهلع والضياع، وما أثار دهشتي، أنها كانت تعاني من شلل نصفي يجعلها عاجزة حتى عن خدمة نفسها بالشكل المطلوب..
أخذتها بين ذراعي أخفف عنها، وعرفت اسمها، ولم تكن تعرف لماذا اعتقلوها، بعد أن عرّضوها لأبشع أنواع العذاب، ومن خلال حديثها معي، استنبطت أنها فتاة مسكينة لا تفقه من أمور الدنيا شيئاَ..
وهكذا تحولت تلك الفتاة إلى رفيقة وحدتي في الزنزانة التي أملت القضاء فيها فترة تخفف عني، ولكنها جاءت حاملة في جعبتها الكثير من المفاجآت.. والمعاناة..
نشأت بيني وبينها صداقة في فترة قصيرة جداً، وكنتُ أقوم بالاعتناء بها كالأم التي تعتني بولدها، فأغسّل لها، وأسرح شعرها، وأبدّل لها ثيابها وأغسلها.. وكثيراً ما كانت تحدثني وأنا أسرِّح لها شعرها عن شاب في قريتها كان يحبها، وعندما يزورها كان يجلب لها الكثير من الهدايا الجميلة، ولكنه غادر القرية إلى غير رجعة، ولم تعد تراه..
كانت تحدثني عن كل شيء في حياتها، وتبكي عندما تقول لي إن أهلها لا يحبونها لأنها عاجزة، فكنتُ أسرح في صفاء وجهها، وحزن صوتها، وأكثر ما كان يقتلني، ذلك الضياع في عينيها الذي لم أعرف له قرار..
إلى أن كان منتصف إحدى الليالي، والأضواء الكاشفة تمزق بين الفينة والأخرى ظلام الليل الدامس، استيقظ على صوت مرعب بدأ يرتفع تدريجيّاً خلفي. بداية الأمر لم أجرؤ على أن ألتفت، ولكني خفت على "رفيقة"، فنظرت خلفي لأطمئن عليها، وما إن وقعت عيناي عليها، حتى هرعت كالمجنونة إلى الباب الحديدي.
فأيقظ صراخي كلَّ مَنْ في المعتقل. ورحت أضرب الباب بيديّ ورجليّ خوفاً من المنظر الذي رأيته، فقد كان وجهها مرعباً، عيناها شاخصتان وتشعان ببريق أيبس الحياة في فؤادي، وعلى فمها تطفو رغوة بيضاء راحت تسيل على ثيابها.. وما إن فتحت الشرطيات الباب، حتى قفزت خارج الغرفة باكية وأنا اطلب أن يساعدوها، وراحت المعتقلات زميلاتي يسألنني عبر الشبابيك عما حصل معي، وأنا لا أملك جواباً، سوى صراخي الذي علا طلباً للمساعدة..
لم تجرؤ أي شرطية على الدخول إلى الزنزانة، وهي ما تزال تصدر صوتاً مرعباً، وسرعان ما وصل الممرض الذي قام بإعطائها حقنة مهدئة أعادتها تدريجياً إلى طبيعتها، ونامت، ولم يكن في المعتقل سوى دواء واحد لجميع الأمراض، وهو "مسكن الألم"!. قال لي الممرض إنها تعاني من مشكلة فقدان وعي شبه كامل، وتقوم خلال تلك الفترة بأشياء غير طبيعية تنساها بمجرد أن يزول عنها العارض، وطمأنني إلى أنني أستطيع أن أعود إلى الغرفة بلا خوف..
أوصدوا الباب الحديدي، وجلستُ بالقرب منها أتأمل وجهها الملائكي وقد غطاه السكون، وانحدرت من عيني دمعة شفقة عليها.. الآن عرفت أنها لم تكن تمثّل كما يعتقد ضباط العملاء، وأنها مريضة فعلاً، فقد أخبرتني إحدى السجينات ونحن نقوم بتنظيف المكاتب صباح أحد الأيام، أن زميلتي في الغرفة قد ألقي القبض عليها وهي تسير بالقرب من موقع الشومرية، فظنّ اللحديون أنها تقوم باستكشاف المكان لصالح المقاومة، ولكنها كانت في غيبوبة تامة، وكانت تسير في البراري دون أن تعرف وجهتها.. وعلى الرغم من عجزها فقد قاموا بتعذيبها أشد أنواع العذاب، ولم يرحموا ضعفها، ومرضها..
في صباح اليوم التالي، استيقظت وكأن شيئاً لم يكن، أخبرتها عما جرى في الليل، فاعتذرت إليّ لأنها لم تخبرني بمرضها، فطيبت خاطرها ووعدتها أن اعتني بها، ولكن بعد يومين تقريباً، وبينما كنا نقوم بتنظيف المكاتب صباحاً مع معتقلات أخريات، وقعت بيننا وأصبحت كَلَوْح من الخشب، جاء الممرض وساعدها، وسرعان ما أطلقوا سراحها.. عرفت حينما خرجت من المعتقل، أنّ أهلها يحبونها ويعتنون بها، وليس كما أخبرتني، وهي الآن أصبحت في مستشفى للعجزة لأن حالتها تتطلب مراقبة طبية دقيقة ومستمرة..
لقد كان صفاؤها، يعكس بوضوح وحشية اليهود وعملائهم، المشرفين المباشرين على معتقل الخيام
الهوامش:
1- نصري نهرا:مسؤول أمني في الميلشيات المتعاملة مع العدو الإسرائيلي، صرع على أيدي رجال المقاومة الإسلامية.
2- لميكن مسموحاً للصليب الأحمر اللبناني في تلك الفترة من الدخول إلى معتقل الخيام.
3- حفاظاً على حرمة الأخت تم استبدال اسمها الحقيقي ب"رفيقة" لذا اقتضى التنويه.
المصدر: سراديب الوجع: قصة الأسيرة مريم جابر: نسرين إسماعيل إدريس، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ
اترك تعليق