مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

بوابة العبور

بوابة العبور: من قصة "سراديب الوجع"

بوابة العبور:
سنواتٌ أربع. فصول تطويها فصول، وعذابٌ يولد من عذاب.. نهار يتآكله الخوف، وليل يضيع بين الماضي ودموعه..
سواد غرفة لا تعرف معنى الشمس، ووجوهٌ عيونُها محدّقة بالفراغ.. كل مقلة مبحرة في عالم غير العالم، تبحث في حنايا الذاكرة عمّا يدفئها من برد الغربة والوحشة..
سنواتٌ أربع، في هذه الغرفة الصغيرة الباردة.. التجئ إلى نفس الحائط: أبكي، أتدفأ، أسند رأسي ضاحكة، وتشخص عيناي عليه أرقة.. نسيتُ أن هنالك شيئاً ما بعد هذا الجدار.. نسيت الشمس، الهواء، القمر والنجوم.. كأني عمياء عن كل ما هو خارج حدود هذه الغرفة..
انتظرت طويلاً أن اسمع صوت المفتاح يدور في ثقب الباب الحديدي الصدئ، علّني أسمع صوت الشرطية مرافقاً أزيزه، لتبشرني ب "الإفراج".. لكنّ الأيام الطويلة، أخذت معها الانتظار واحتراق ساعاته، ولم يعد يعنيني أي شي‏ء حتى عدّ الأيام..هذا المكان، صار جزءًا مني.. مرآة لدهاليز نفسي، اتخذت الأشياء هنا، معانيها المضادة، فلم أرَ الأصفاد آلة لتكبيل الأيدي، ولا السياط سطوراً من الألم تُكتب على الظهور، حتى صقيع الشتاء والوقوف ساعاتٍ طِوالاً تحت الثلج، أخذا بُعداً من الدف‏ء ! لقد كانت الأصفاد نفذةً للحرية، كنتُ أشعر أن فؤادي يطير في عالم سماؤه رحبة، وأحس أن الكون كلّه ضيّق أمام جناحيَّ المتمردين على كل شي‏ء محدود.
كنتُ أكسر معاني التكبيل بالحديد، بمجرّد أن أزيد يديّ التصاقاً ببعضهما، لأشد عليهما تأكيداً لنفسي على العهد بالبقاء داخل القضية..
كنتُ أؤازر نفسي، وأنا أسير في السراديب المظلمة مكبلة، معصوبة العينين، شامخة الرأس:
إن أروع الانتصارات التي تخلّد، انتصار الحقيقة حتى لو كانت معلّقة على المقصلة.. وإن أفضح الهزائم، هزائم أنفسٍ تشرب بكؤوس الذل دم الأبرياء، وتصفق لنفسها بانتصار يتهاوى مع سقوط الأقنعة..
كنتُ أتلقى وجع السياطِ بالصراخ والدموع، ولكني أيضاً حفظتُ أسطرها في كل مسامات جلدي، وعرفتُ منها أن حدود الوجع الحقيقي يبدأ دائماً بعد الجسد..
وإن كان البرد يحمل عدة وجوه، منها الغربة والمنفى، فقد علّمني الثلج، أن الصقيع يبدأ دائماً من القلب، وأن الشمس أبداً لا تهبُ الدف‏ء لمن لا يملك قلباً، يشعّ منه نور الإيمان..معتقل الخيام، بعد سنوات أربع، صار عمري المختزل، ومكاني الضائع..
وفي يومٍ كانت ساعاته تتسابقُ بملل يسكن الثواني، فُتح الباب الحديدي على وجوهنا الغارقة بعتمة الغرفة، ليمتد نور ضئيل من الخارج إلينا..
وقفت الشرطية لبرهة مكانها ونحن نحدّق فيها منتظرات آخر القرارات الصادرة.. لكنها طلبت إليّ أن أحزم أغراضي.. اقتربت منها بهدوء قائلة لها: لا أريد أن أنتقل إلى غرفة أخرى، فأنا مرتاحة وزميلاتي..

لكنها أمرتني بلؤم أن أحزم أغراضي.. فما كان مني إلاّ أن فعلت ما طلبته، وتبعتها إلى خارج الغرفة..
كانت تسير أمامي، وفجأة استدارت قائلة: مبارك يا مريم، "إفراج".
إفراج؟!! لي أنا..
نعم، مبارك..
لم أصدّق للوهلة الأولى، فلقد وعدني المسؤول الأمني مرات عدة بالإفراج ولم يصدق، ولكن، منذ الصباح ونحن نشعر أن هناك حركة غريبة في زنازين الشبان، هذا يعني، أنه من الممكن أن يكون هذا الخبر صحيحاً..
أدخلتني الشرطية إلى غرفة تواجدت فيها أربع معتقلات أخريات، وطلبت إلينا أن ننتظرها، حدّقت بالمكان.. هذا المكان الذي أخذ من عمري أربع سنوات..
وركضت نحو الباب، تعلّقت بشباك كوته الصغيرة وصرخت للزنزانات الأخرى "إفراج"..
"سأخرج من هذا المنفى إلى الدنيا.. سأعود إلى البيت.. إلى أهلي.. إلى الحياة.."..
ولكن، أنتم ستبقون هنا، شبّاناً وشابات.. أيُّ فرحةٍ هذه التي مخاضها الفراق!
ويبس الكلام على شفتي، صار البكاء، حديث من لا يملك الكلمات...
بدأت المعتقلات يهنئنني على خروجي من السجن، ووعدتهم بدوري بزيارة أهاليهن بقدر ما أستطيع..
ومن خلف الأبواب، تبادلنا التحايا والقبلات والدعاء...
وانتظرت من جديد، صدى خطوات الشرطية التي تأخرت بالقدوم بسبب بعض العوائق في زنزانات الشباب..
وأخيراً جاءت.. مشيتُ خلفها وأنا أحمل الفراش الرقيق، والوسادة والصحن، سلّمتها في مكتب الأمانات، واستلمت حاجياتي التي سُلِبَت مني إثر اعتقالي. وبينما كنتُ أقوم بتدوين إمضائي على ورقة الخروج، "أوصاني" عميل أن لا أعيد ما اقترفت، لأنهم إذا اعتقلوني مرةً ثانية فالحكم سيكون مؤبداً..
وبدأت بداية نهاية كابوس اسمه "معتقل الخيام"... توجهتُ نحو الباب، وفي نفسي تضجُ أحاسيس ما عدت قادرة على حملها في فؤادي... صرختٌ بصمتٍ وأنا أتنشق الهواء العليل الذي يلفح وجهي "يا الله، ما أروع حدود السماء.."
عبرتُ البوابة، وكانت سيارات الصليب الأحمر متوقفة في الباحة الكبيرة، وجمع من المعتقلين المفرج عنهم يصعدون السيارات.. وقفتُ لبرهة مكاني، نظرت إلى الكوات الصغيرة لأرى الأكف ملوحة بالوداع.. رفعت كفي لأقول لهم "وداعاً"، ولكني أبصرت وجهي خلف عتمة نافذة زنزانتي.. عرفتُ حينها، أني تاركة بعضاً مني هنا، وأني آخذة الكثير من الأشياء معي..
عندما سارت السيارة في شوارع الخيام، راح الناس يرشون علينا الأرز والورود، وأنا ألملم جرحاً جديداً في قلبي.. لقد انسلخت عن واقعٍ أَلِفتُه، ومن عائلةٍ انتميت إليها في ليالٍ من الغربة، لأتوجه إلى مكاني الطبيعي، مكان، من الصعب أن أنتمي إليه بسهولة...
وصلتُ قريتي، كانت النوافذ مشرّعة، والناس في الطرقات:"هل غادرهم الخوف يا ترى، ليقفوا حاملين في أيديهم الأرز والورد يرشونه علينا؟".. كانت أمي هي الوحيدة التي بقيت في البيت، وجميع أخوتي في بيروت، ومنذ الصباح، تسأل أهل القرية إذا ما سمع أحد اسمي من بين المفرج عنهم في أخبار المذياع، إلى أن بشّروها بقدومي..
وصلتُ إلى بيتنا، رأيت الناس، يجتمعون لاستقبالي، كما اجتمعوا يوماً لوداع "والدي"،لم أعرف أحداً منهم، مشيتُ بضياعٍ نحو الباب، والكل يسلّم علي ويهنئني بالسلامة.. واستقرت عيناي على موضع الرصاصتين اللتين أودتا بحياة والدي.. وأطلت أمي من بين الجموع مزغردةً.. "عادت مريم".. ارتميت بين ذراعيها لأحدّ بحنانها شتات نفسي، ولأستقر هنيهةً على ضفاف ساعديها من تعب السير في دروب محفوفة بالخوف والوحدة وشتات العودة..
لقد عدتُ، بعد سنوات أربعٍ، ولستُ أدري لماذا، كلما حلمت بهذه اللحظة وأنا في غياهب المعتقل، يراودني وجه والدي ضاحكاً يقول لي "الحمد لله على السلامة يا حبيبة قلبي"، وأشعر به يأخذني في دنيا غير الدنيا وأنا أسند رأسي إلى صدره.. ولكن، عند وصولي، رأيت أثر الرصاصتين، اللتين اخترقتا فؤادي لتقتلاني من جديد.. "الحقيقة التي نسيتها في المعتقل، أن والدي قد مات !"..
ركضتُ في دروب القرية المتشعّبة، قبل أن أدخل البيت، لأصل إلى مدفن القرية، ولأكسر بدموعي هدوء ساكنيه.. جلستُ بالقرب من قبر أبي، مسحت عنه غبار البعد: "هل فعلاً مرت سنوات أربع يا أبا طالب؟"، وضعتُ خدي على البلاط البارد، لأغسله بدموع الشوق، ولأعبر المكانين والزمانين، بمشهد رائع من مشاهد الالتصاق الروحي، وليصبح شعاع الشمس يد "أبو طالب" تمسح رأسي..
كان شهر أيلول بارداً بعض الشي‏ء، وأمي المنهمكة باستقبال الضيوف المهنّئين بخروجي من المعتقل، غارقة ببحر من الفرحة، وبين فينةٍ وأخرى، تقبّلني وتتحسسني، لتصدّق أنني هنا.
كنتُ أدور في البيت أتفقد الزمان الذي مضى.. و أتوجه إلى الباحة الخارجية لأجلس على المصطبة التي طالما قضيتُ فترات العصر أنا وصديقاتي نشرب الشاي ونتحادث بأمور شتّى.. الآن، لم أعد أعرف عن أي أمور أتحدث، فقد تغيرت أحوال البلدة والبلد برمّتها.. وأسند رأسي أستذكر رفيقاتي في المعتقل، وأشتاق إليهن وإلى محادثتهن، هنالك أحاديث وأحلام كثيرة تجمعني بهنَّ، فلا يعرف الغياب إلا من يعانيه!

ومن بين المهنئين والزائرين، كنتُ أنتظر قدوم أختي "خديجة" من بيروت، وبينما أنا أرتب المنزل، دخلت البيت راكضةً، تقدمتُ منها وسلّمت عليها سلاماً عادياً ظنّاً منّي أنها إحدى بنات الضيعة، فاقتربت مني وحضنتني قائلة وهي تبكي: "يا حبيبتي يا أختي"، نظرتُ إلى وجهها، لقد كانت هي "خديجة"، وقعتُ أرضاً من شدة التأثر، ورحنا نبكي بكاءً ضجت به جدران البيت..
لقد كبرتِ كثيراً يا خديجة؟!
إنها سنوات أربع..
يا الله، كل شي‏ء تغيّر، مرّ الزمان عليهم، فيما كنت أنا خارج الزمان، وها هي خديجة أصبحت شابة بعد أن تركتها فتاةً صغيرة.. أي مكانٍ هذا الذي جئتُ إليه؟ زائرة الماضي أنا، أخطو خطوتي الأولى في دروب الحاضر، كأن الزمان ليس زماني !بعد مرور حوالي أسبوعين على خروجي من المعتقل، بدأت أتحضّر للخروج من الشريط المحتل إلى بيروت، لأن حالتي الصحية كانت متدهورة، وأثناء محاولتي للحصول على "تصريح "، حاول العملاء منعي بحجة أنه باستطاعتي العلاج في مستشفى مرجعيون، ولكني أصررت على المعالجة في بيروت، وهكذا حزمت وأمي وأختي كل أغراضنا، لأخرج من القرية التي عشتُ فيها كل عمري، ما عدا أربع سنوات، كنتُ خلالها أدفع ثمن حبي لها في دهاليز معتقل الخيام، وتوجهت السيارة بنا إلى المعبر، حيث سلّمت تأشيرة خروجي الشريط المحتل، لتكون خطواتي الأخيرة في تلك البقعة من الأرض..
وصلتُ إلى بيروت والتقيت بأخوتي، وكان الغائب الوحيد عن هذا الاستقبال، أخي الشيخ عليّاً، الذي لم يكن على علم بخروجي من الشريط، فقمتُ منذ الصباح الباكر وأخوتي، وتوجّهنا إلى منزله في الجنوب، ولما وصلنا كان يقوم بإعطاء دروس لطلاب العلم، عندما فتح لنا الباب وراني، لم يقل أي شي‏ء، فقط أخذني بين ذراعيه وضج صوته بالبكاء، ما جعل طلاب العلم يسارعون ليروا ماذا حصل..عدتُ بعد غياب أربع سنوات لأعيش بين أهلي، ولكن يبقى السؤال، هل فعلاً أنّ الذي أعيشه عودةً، وما يزال الكثير من الشبان والشابات مرتهنين في معتقل الخيام؟
هل انتهى كابوس المعتقل، وما أزال أحيا عذاباته وأشرب مراراته؟! هي ليلة من ليالي الذكريات، أبحرتُ في يمّ الماضي وأنا أجذف بمجذاف الحاضر.. لستُ سوى انعكاس يحمل في الصورة والظل عذابات "معتقل الخيام"...
ألقيتُ برأسي على الوسادة، وكان الفجرُ قد بدأ يمزّق بأصابعه النحيلة سواد الليل، وما هي سوى لحظات، حتى صدح المؤذن "الله أكبر"...
... إذن لقد بدأ نهار جديد!


المصدر: سراديب الوجع: قصة الأسيرة مريم جابر: نسرين إسماعيل إدريس، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. الطبعة: الأولى، أيار 2001م- 1422هـ


التعليقات (0)

اترك تعليق