مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

نفوسٌ مطمئنة

نفوسٌ مطمئنة

نفوسٌ مطمئنة:
ذكرت تفاصيل الموقع بالتحديد ليدرك القارئ حرج صمود هذه العائلة المؤلفة من هاتين الأختين اللّتين سبق ذكرُهما وأولاد أخيهما الثلاثة (صبيّتين وشاب كالورود الزاهرة) في منزلٍ قرويٍّ قديم هو عبارة عن سطيحة تطلّ على ثلاثِ غرفٍ كلٍّ منها لها بابٌ مستقلٌّ يطلّ على السّطيحة، ولا تتّصل هذه الغرف ببعضها بأبواب داخليّة بحيث أن من يريد الانتقال من غرفةٍ إلى أخرى عليه إلزاماً أن يخرج إلى السّطيحة، وهذه الغرف هي عبارة عن دارٍ لاستقبال الضيوف، وغرفة للجلوس ومطبخ. هذه الهندسة البسيطة المتواضعة، التي تحمل طابع الوداعة الرّيفية والأمن والسّكينة، أضحت أثناء الحرب الهمجيّة الوحشية مصدر حرج ومشقة وخطر حقيقيٍّ أثناء انتقال أفراد العائلة من غرفةٍ إلى أخرى.

ما لبث حزيران أن لملم أذياله ورفرف تموز ناثراً عبق الذكريات الحميمة التي بعثت الأمل والنّشاط في البيت الجنوبيّ الوادع، فأعلنت الحاجة مريم رغبتها أمام أختها الحاجّة زينب في التبكير هذا الصّيف في تحضير المؤونة من كشك وبرغل ومربّى ومخلل ولبنة بالزيت، كي يتسنّى لهما استقبال الضيوف والأقارب الذين يفدون إلى القرية من بيروت خلال الصّيف وهما أكثر راحة، فالمسؤولية كبيرة والأعمال كثيرة وجميلٌ أن نكون حكماء في تنظيم أوقاتنا، فما كان من الحاجة زينب إلاّ أن وافقتها الرّأي وشجّعتها.

وهكذا كان، تعاونت الأختان في إنجاز العمل فما مضى أسبوعان إلاّ وكانت تفوح من مطبخ الأختين رائحة خيرات الجنوب، الذي يرجعك عطر شذاه إلى مائدة الجدّة الممدودة على "الطّبلية".
جلست الحاجّة مريم على طرّاحة مزركشة ملقاةٍ على السّطيحة، واضعةً بقربها قفص الببغاء، ليشاركها فرحتها بالراحة بعد العناء، ويؤنسها ويردّد ما تعلّمه من عباراتٍ لطيفةٍ، فيذهب عن قلبها الهمّ والشّجن، وتنهّدت قائلةً: ألف الحمد لله والشكر لله، فردّد البّبغاء قولها بدقّة. ضحكت الحاجّة وأخذت تطعمه حبّات القمح المسلوق بيدها وقالت: غداً، سوف تحرس البيت جيداً، لأننا ذاهبتان أنا والحاجة زينب لزيارة أهل الضيعة والاطمئنان عليهم، فمنذ مدّة لم نَرَهم، كنّا مشغولتين بصنع المؤونة، عليك أن تنتبه جيداً للقطط والدجاجات والصيصان، سوف أعلّق لك القفص مقابل الحظيرة والخمّ كي تتمكن من الإشراف على كل ما يدور حولك، فنقرها بإصبعها كأنه يمازحها أو يعاتبها على تركه وحيداً، فابتسمت وتركته ودخلت لتذكّر أختها الحاجّة زينب بموعد الدّواء فهي تعاني من حينٍ لآخر من بعض المشاكل الصّحيّة.
في اليوم التالي، وكان الحادي عشر من تموز الـ2006، حملت الحاجتان بعضاً من هدايا الأرض المعطاء وتوجّهتا نحو بيوت الجيران والأقارب في الضّيعة وشمس تمّوز تحوك خيوطها الذّهبيّة على خطاهما.

اطمأنتا على الجميع، كما سرّ الجميع بزيارتهما، فكلّ الصّبايا والشباب بمثابة أولادهما وكلّ العجائز أهلهما وكلّ الرّجال إخوانهما وكلّ السّيدات أخواتهما، إنها التّربية العامليّة الأصيلة الصّادقة.

عند الغروب، عادتا إلى البيت، توضّأتا وصلّتا المغرب، وأثناء التّسبيح، التفتت الحاجّة مريم إلى أختها وقالت: "لا تنسَيْ يا أختي، إدعي للشّباب، شباب المقاومة".

فرفعت الحاجة زينب يديها إلى السّماء وقالت: "يا ربّ، انصرهم نصراً مبيناً مباركاً بقدرتك يا قادر يا كريم، وافتح لهم فتحاً ما فتحته لأحد مثلهم بحقّ الحجّة المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف. وكأنما تلقّفت الملائكة دعاءها كما تلقّفت السّماء نجيع رضيع الحسين عليه السلام...!

ففي صباح اليوم التالي، الثاني عشر من تموز، تعالت صيحات التّكبير من كلّ صوب، وتناهت إلى آذانهما بعض الزّغاريد وسمعتا بعض الشباب والناس يتبادلون التّهاني، فالبيت يقع قرب السّاحة مباشرة. وقفتا على السّطيحة ونادتا سائلتين: ما الخبر؟
فقيل لهما أن المقاومة قد أسرت جندييّن صهيونيين، فصرختا من الأعماق: "الله أكبر، النّصر للمقاومة!" وردّد الببّغاء: الله أكبر! الله أكبر! وبحركة عفوية توجّه المجتمعون في السّاحة إلى بيت الحاجّتين، وراحوا يتبادلون سَرْدَ ما سمعوه وكيفيّة حصوله، ويعبّرون عن فرحتهم بهذه البطولة المميّزة وهذا النَّصر الإلهيّ، ويستعرضون الاحتمالات حول الرّدّ الإسرائيلي المتوقّع.
ودارت الحاجة مريم بالصينية الفضيّة البرّاقة توزّع الأكواب اللؤلؤيّة، فيها شراب الورد الأرجواني على الأهالي ونثرت الحاجة زينب حبّات الملبّس الملوّن فوق رؤوسهم فصاروا يتلقّفونه فرحين هانئين، وسرّ الببّغاء بهذا الجمع الطّيّب، وقد تحلّق حول قفصه بعض الأطفال الذين كانوا بصحبة أمّهاتهم وأخذوا يعلّمونه عبارة: "الله يهدّك يا إسرائيل" فيكرّرها مرّات ومرّات، بلحن موسيقيٍّ معيّن، فيبتسم الجميع مستبشرين،فالحدث حدث انتصار، انتصار لقرار قائدٍ شجاعٍ أعلن أننا قومٌ لا نترك أسرانا في السّجون، وأننا سوف نعمل كل ما نستطيع لاسترجاع كامل أرضنا وتحرير كلّ أسرانا من السّجون الإسرائيلية.


 

المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ


 

التعليقات (0)

اترك تعليق