مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سكينة القلوب

سكينة القلوب

ما أودّ أن أنقله إليك يا قارئي الكريم، أنك أمام عائلة، ولو لم تكن لتتقن التكلّم أو القراءة بأكثر من لغة، ولم تلمّ بأطراف الحضارة من مختلف أركانها، إلا أنها تجيد لغةً واحدةً هي لغة الإيمان والصّبر والصدق والإباء، فكنت تجدهم وخلال هذا الأسبوع الأوّل في أوج قوّتهم وصمودهم وتحدّيهم لكل القصف الجهنميّ، يهزأون بقدرة إسرائيل، ويردّدون باستمرار بأنها حتى ولو أبادتنا جميعاً فإنها لن تنتصر، بل سيبقى هناك وبقدرة الله جلّ وعلا من يصرخ بوجهها الله أكبر، الموت لإسرائيل.

وكانوا يمضون اللّيالي بطولها فارّين من زاوية إلى زاوية في أنحاء الغرفة، التي كانوا يجتمعون فيها سويّاً.
وإذا طلع الصّباح فالمسؤولية كبيرة، عليهم إطعام الحيوانات، وحَلْبِ اللّبونة منها وجمع الدجّاجات والفراخ لإطعامها، وكم من مرّةٍ كانت تبكي الحاجة مريم وتقول: "ترى، هل تموت هذه الفراخ بشظايا الأعداء وأبقى أنا فيحترق قلبي عليها؟...!!

إضافة إلى إطعام الببّغاء والقطط ونشل الماء من البئر بالطريقة التقليديّة القديمة (أي بواسطة الدّلو المعلّق بالحبل)، وسَقْي كل هذه المخلوقات لئلاّ تموت عطشاً، وتحضير الطعام في المنزل، لأن أولاد الأخ بالنسبة للعمّات أمانةً في أعناقهما. هذه الأعمال اليومية التي كانت حتى الأمس القريب مصدر متعة وتسلية وراحة نفسية ومصدر رزق مقدسٍ، أضحت في ظلّ هذا العدوان الغاشم عبئاً ثقيلاً ومن أثقل الأعمال وأكثرها صعوبة ومشقة، فكم من مرّةٍ كانت تستمرّ عملية حلب البقرة ساعتين ونصف بين هروبٍ من هذه الجهة ولجوءٍ إلى تلك، ثم هروبٍ من تلك ولجوءٍ إلى الأولى، كما كان عليهما أن تغليا الحليب وتصنعا منه إمّا الجبن فتحفظانه بالملح كي لا يفسد، وإما اللّبنة فتكبسانها بالزيت خوفاً عليها من الفساد، فما عاد هناك من يشتري الحليب، فأهل القرية قد نزحوا إلاّ النادر منهم، المختبئ الذي لا يجرؤ على التظاهر مطلقاً.

أما الأرض، فقد قالت الحاجّتان: "منذ ولدنا وحتى اليوم، لم تعطِ هذه الأرض بالكَرَم الذي أعطت به أثناء الحرب"...! فما أدري، أيّ سرٍّ، أيُّ لغز قد انطوى في قلبها؟ ألأنها الأمّ التي تحنو على أبنائها؟ ألأنها الأم التي تبكي لوعة وحسرةً على فلذات كبدها؟ ألأنها الأم التي تعطي وتعطي دون حساب؟
أم لأنها ارتوت وارتوت حتى ثملت بالأحمر القاني؟ وتباركت حتى طهرت بأقدام رجالٍ عرفوا الله وأحبّوه فأحبّهم وسدّدهم ونصرهم.

هذه الأرض تضاعف عطاؤها حتى أصبحت شتلة البندورة التي كانت تحمل عشرين رأساً صارت تحمل أكثر من خمسين وهكذا حملت الخضار والفواكه والثمار حتى ما عادوا يعرفون ماذا يفعلون بكلّ هذا الخير؟ مع العلم أنها لم تعد ترتوي كالسّابق.

فكانوا يذكرون النّاس ويتحسّرون على صيف القرية حين كانت تعجّ بأهاليها وترفل بثوب العزّ والخير والجمال. لذا اضطرّت الحاجّتان إلى تجفيف ما يؤكل مجففاً، وإلى عصرِ البندورة وتصنيعها. كلّ هذا وطائرات العدوّ تظللّهما، وقصفه الغادر ينهمر على القرية من كلّ الجهات كالرّعد المزمجر، ممّا يجبرهما عشرات بل مئات المرّات على الهرب والاختباء تحت ظلال الأشجار حتى يتوقف سيل القنابل والصّواريخ للحظة فتستأنفان العمل من جديد بصبرٍ واحتسابٍ وشجاعة.

أما الشاب المؤمن، "شادي" الذي نشأ في كنفِ العمتين المؤمنتين، فتربّى على التواضع والإيمان والحشمة والأخلاق فقد كان يطلب إلى أختيه البقاء داخل الدّار لعلّ جدرانه تكون لهما ملجأً من الشظايا التي كانت تتناثر بين الحين والآخر في الأنحاء كما تتناثر أوراق الخريف الصفراء عند هبوب الرّيح، ويبقى هو بالقرب من عمّتيه، يحوم حولهما كالطائر الذي يحلّق لكنه لا يبتعد عن مملكته. ولأن من يتوكّل على الله فالله حسبه ونعم الوكيل، فإنه عزّ وجلّ لم يترك تينك الحاجتين وأولاد أخيهما، بل كان يكلؤهما بعنايته ورعايته، وأنزل سكينته على قلوبهم بالرغم من الإرهاق والضّعف الذي بان واضحاً على وجوههم وعيونهم.

كان الأولاد يقرأون القرآن الكريم والدّعاء وخاصة دعاء الجوشن الصّغير لحماية شباب المقاومة وردّ كيد الأعداء إلى نحورهم. والعمّتان تصلّيان وتدعوان للنّاس بالحفظ والأمان، وللشهداء بالسّعادة والرّضوان وللجرحى بالشفاء التام وتخفيف الآلام، وللمقاومين بالحماية والنّصرة والعزّة.

أما أنصار الله، العين السّاهرة على الوطن وعلى الأرض وعلى الناس، الذين لم تكن تخفى عليهم لا شاردة ولا واردة من أخبار أهالي القرى فلطالما عرفوا بمن سادوا ومن بادوا، ومن رحلوا ومن صمدوا ومن أخلصوا ومن خانوا...!

شباب القرية البارّون، كانوا يَرَوْن ويشعرون أن بيت الحاجّتين ما يزال عامراً ولم يخلُ من ساكنيه، لذا أرسلوا أحدهم لتفقدهم والاطمئنان على سلامتهم وطَمْأَنتهم إلى وجود الشباب بقربهم، هذا والقصف على أشدّه باتجاه الضيعة كما باتجاه كلّ القرى المجاورة.

وصل إلى الدّار، سلّم على أهلها، رحبّوا بقدومه، فرحوا برؤيته فرحاً عارماً، عرّفهم بنفسه، إنه ابن الضّيعة، حدّقوا به جيّداً، إنهم يعرفون كلّ أبناء الضيعة، لكنهم لم يعرفوه؟ كيف يعرفونه وقد غطّى التراب معالم وجهه، والعينان شديدتا الاحمرار من قلّة النّوم.

رحّبوا به من صميم القلوب، سألوه عن الشبّاب: "ماذا تحتاجون؟
نحن بخدمتكم، قلوبنا لكم، أرواحنا فداء لعيونكم" لم يتركوا له مجالاً ليسألهم عن حالهم، بل قالوا: " نحن نريد الاطمئنان عليكم، نحن في بيتنا لا ينقصنا شيء، إنما أنتم الذين هجرتم البيوت للدفاع عنّا، اطلبوا ما شئتم، ماذا نفعل كي نكافئكم؟ أنتم تحمون القرية والوطن وتدافعون عن الناس" ثم توسّلت إليه العمّة أن يجلس قليلاً، وأحضرت كيساً وضعت فيه الخبز والطعام والخضار، وقدّمته إليه قائلةً: "دلني على مكانكم كي أذهب يومياً وأرسل لكم ما تحتاجونه من خبز وطعام وخضار" فشكرها ووعدها بالحضور بنفسه أو بحضور أحد رفاقه كلّما سنحت لهم الفرصة. ثم طلب منهم الدّعاء وانصرف. ودّعوه والدموع تنهمر على الوجنات تأثراً لحال هؤلاء المقاومين المضحّين الذين أرخصوا دماءهم وأرواحهم للذّود عن التراب والأهل والدين والوطن...!

منذ ذلك اليوم، صارت الحاجّة «مريم» تهيّئ البيض المسلوق والطعام والخبز والخضار وكل ما يتوفّر عندها حتى يأتي أحد الشباب للاطمئنان عليهم فتحمّله ما هيأته لهم. وأصبح كل أفراد العائلة يقلقون إذا تأخر الشباب بالمجيء، وكم تحسَّر شادي وقضى السّاعات الطّوال جالساً في أحد أركان الغرفة سارحاً حزيناً لأنه لم يتدرّب على حمل السّلاح متمنياً الالتحاق بصفوفهم فكانت عمته تطيّب خاطره وتذكّره بحالة والده الصّحّية وبأخواته الفتيات اللّواتي لا سند لهنّ غيره. هكذا كانت تمرّ الأيام طويلةً مليئة بالمواجهات البطولية من قبل شباب المقاومة الذين سطّروا الملاحم الأسطوريّة بوجه عدوّ زوّدتْه أمريكا بشتى أنواع الأسلحة المدمّرة، مكبّدينه الخسائر، محطّمين كبرياءه، مزلزلين الأرض تحت قدميه، حتى راح يصرخ ويستنجد، فزوّده الشيطان الأكبر بالقنابل الذكيّة التي كان يقذفها على الأطفال والنساء والعزّل من الناس كما على القرى والبيوت والسّيارات علّه بذلك يجعل النّاس تنقِمُ على المقاومة وتتخلّى عنها.

إلاّ أنّ جمهور المقاومة المؤمن الصّابر المحتسب الصّامد، فإيمانه بالمقاومة ينبع من إيمانه الثابت، الراسخ، المتأصّل بالله وبالأرض وبالوطن وبالحق. إنه خرّيجُ المدرسة الحسينية الزينبيّة الكربلائية، لذا، ما زادته وحشية العدوِّ، والآلام وإراقة الدّماء وارتكاب المجازر إلاّ إصرارا وتصميماً على دعم المقاومة وتقديم الأرواح والممتلكات فداءً لها، فما هي إلاّ فلذات الأكباد، والإخوة والأزواج والآباء.


 

المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق