مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كرامٌ بَرَرَة

كرامٌ بَرَرَة

مع بداية هذا الأسبوع، قام العدوّ الإسرائيلي بهجوم بريٍّ باتجاه بنت جبيل، على محور مارون الراس ـ بنت جبيل، وقد ترافق هذا الهجوم مع قصفٍ مدفعيٍّ عنيفٍ طاول كل قرى بنت جبيل من دون استثناء، فقامت المقاومة بصدّهم ببسالة قاصفةً العدوّ قصفاً ضارياً شيّبَ رؤوسهم ودَحَرَهم وكبّدهم الخسائر بالأرواح والدّبابات، ومرّغ أنوفهم بالوحل فتقهقروا خائبين مكسورين مذلولين.

إلا أن العدوّ الجبان، وللانتقام والثأر لهزيمته من المقاومة، راح يمطر جمهورها وناسها الطّيبين وقراها الصّامدة بغاراته الهمجيّة وقنابله العنقوديّة والانشطاريّة فتحوّلها إلى براكين منفجرة، تقذف الحمم في كل مكان وتردم النساء والأطفال تحت ركام منازلهم ولا من مغيث، فالجسور قد دمّرت والقرى قد عزلت تماماً والمعارك البريّة على أشدّها، يستخدِمُ فيها العدوّ القصف المدفعيّ المركّز، تسانده الطائرات والبوارج فوق كل قرى المواجهات، فباتت قرية "برج قلاويه" كما كل قرى بنت جبيل خصوصاً في فم التّنّين.

وفي أحد صباحات هذه الأيام الملتهبة، كانت العائلة تحاول سدّ رمقها ببضع لقيماتٍ لتقوى على تحمّل ثقل الاضطراب والتوتّر والهلع، وكانوا قد وضعوا طعاماً للقطط في إحدى نواحي الدّار كالعادة ـ فالحاجّتان كانتا تحرصان على وضع وعاء خاصٍّ لكلّ قطّة على حدة، كي لا تصيب إحداها نصيباً أكثر أو أقلّ من غيرها إن هي أكلت في وعاء واحد ـ وإذا بالقصف يعنف، والمنزل يهتزّ من أركانه وكأنه الزّلزال، واشتعلت الأجواء، تركوا الطعام وتفرّقوا في الزوايا، وإذا بالقطط تترك الطعام وتسرع نحو الحاجتين فتحتمي بهما كما يحتمي الأطفال بحضن أمّهاتهم.

ازدادت المواجهات البرّية عنفاً، فالضّغط كبيرٌ على الصّهاينة، والمفاجأة بصمود المقاومة مذهلةٌ للعالم كلّه، والهزيمة تعني الكثير من الحسابات التي لم تكن بالحسبان بالنسبة لأمريكا وإسرائيل. كان الشباب يمطرون العدوّ بصواريخهم المباركة، فاشتدّت زمجرة الأسلحة حتى بات مجرّد سماعها كفيلاً بإصابة الإنسان بتلفِ الأعصاب واليأس والانهيار. وكان قد مضى على الشباب بضعة أيام لم يطلّوا خلالها على عائلتنا الصّامدة تلك.

من جهتهم، أفراد هذا البيت المؤمن الصّامد كانوا يتجلّدون، ولا يفكّرون بأنفسهم كما يفكّرون بالشباب المقاومين الذين هم في وضعٍ أشدّ حرجاً وأكثر خطورة. في هذه الأثناء، أقبل أحد الشباب وقال إنّ الإخوة بحاجة إلى بعض الخبز.

بلمح البصر، أفرغت الحاجّة مريم كلّ ما لديهم من الخبز في أحد الأكياس وأتبعته بكل ما تمكنت من الأطعمة والخضار وغيره ووعدته بأن تخبز لهم حالاً كلّ الطحين الموجود في المنزل.

فأجابها الشاب بأنه سوف يؤمّن ورفاقه لهم الطّحين، كي يقوموا هم بصنع الخبز بدورهم.

وهكذا، فقد كانت الحاجّتان تحضّران العجين عند العصر من كل يوم، وتقومان عند الفجر بتقريص العجين، لتبدآ مع طلوع الصّباح بخَبْزه. معروفٌ أن عمليّة العجن تحتاج إلى الماء، والعجن بهذه الكميَّة الكبيرة يحتاج إلى ماء كثير (كلّ يوم، يتم عجن كيس كامل من الطّحين) والماء غير متوفّر إلاّ في البئر. كان شادي يقوم بنشل الماء والقصف يزنّر الضّيعة من كلّ الجهات وطائرات الاستطلاع المزوّدة بالصّواريخ لا تغادر سماء القرية ولا للحظة واحدة.

العائلة بأكملها كانت تشارك في عملية صنع الخبز للمقاومين: من رقٍّ للعجين، إلى إكمال تصميم الرغيف، إلى جمع الحطب والأغصان اليابسة، إلى إشعال النار، إلى إنضاج الخبز.
ومن البديهيّ أن تتم هذه العملية تحت مظلة القصف الهستيريّ بأسلوب الكرّ والفرّ، لذا فقد كانت تدوم أكثر من ثلثي النهار ـ من نهارات تمّوز وآب الطويلة السّاعات ـ وكثيراً ما كانوا يتراكضون تاركين العمل للحظات والعودة من جديد، وكثيراً ما كانوا يخالون أنفسهم يطيرون في الهواء ثم يحطون على الأرض من ضغط القنابل والصّواريخ التي كانت تهدّ الأرض هدّاً عنيفاً، وكم من مرّةٍ سقطت قذيفة أو صاروخ على مقربة من المكان فغطاهم الدخان وحجب رؤية بعضهم عن بعضهم الآخر، فراحوا يتصارخون ويتنادَوْن حتى تنجلي الغبرة فيلتقون من جديد ويتفقدّون أجساد بعضهم البعض خوفاً من أيّة إصابة ويحمدون الله على نعمته ومنّه عليهم بالسّلامة. وأكثر ما كان يحزنهم ويملأ قلوبهم لوعةً وحسرةً وأسى أصوات انهيار البيوت وهي تتهدّم، فتتهادى جدرانها ويتحطّم زجاجها فيتطاير الرّكام والحصى في كلّ الجوانب. كانوا يكملون جهادهم بصنع الخبز للمقاومين وهم يمطرون الصّهاينة بأدعية الاندحار والفشل والهزيمة والانكسار، ويدعون للمقاومين بالنَّصر الإلهي المؤزّر والحماية والحفظ والصّون، وكانوا عندما يذكرون شباب المقاومة يبكون ويذرفون الدموع وهم يعملون متسائلين: ـ هل نفيهم حقّهم؟ وهل نردّ لهم جميلهم إذا صنعنا لهم لقمة الخبز؟ يا ليتنا نستطيع ردّ الأذى عنهم بأهداب عيوننا...

آه... صدقتَ يا أمير الرّكب، صدقتَ يا صاحب العمّة السّوداء... صدقتَ يا أميناً على الدّم والسّيف وعلى الدّين وعلى الوطن... صدقتَ حين خاطبتهم بقولك: يا أشرف النّاس ويا أكرم النّاس... إيه أيها الصّامدون المجاهدون الجهاد الأقدس والأوفى والأبَرّ والأكرم...

إيه... لقد نضب مدادي وبَكُمَ يراعي وتسمّر قلمي بين أناملي...

ما عدت أفقهُ ما أقول... أيّهما أشدّ إخلاصاً ووفاءً؟ المقاومة؟ أم جمهور المقاومة؟ أم انّ هذا التِّبْرُ من ذاك الطيّن؟...

فلْتهنأ روحك يا أبا ذرّ الغفاري... فشيعتك يؤدّون الأمانة ويحفظون الوصيّة ويدافعون عن النّهج الحقّ، هم الأوفياء، لقد حاكوا بوفائهم وفاء أصحاب الحسين عليه السلام في كربلاء... آهٍ يا أبا ذرّ، لو حضرتَ ساعةً واحدةً في تموز وآب الـ2006 إلى قرى عاملة، إلى قرى بنت جبيل، فوالله لبشّرت أهلها بالجنّة.

ما وهنتِ العزيمة أبداً، وما أخذ الخوف من قلوبهم أبداً، وما نال الحصار من إيمانهم وثباتهم وإخلاصهم أبداً...

وما زادتهم المجازر التي كانت تُرتكَبُ كلّ يوم وكلّ ساعة إلا احتضاناً للمقاومين وتفانياً في محاولة تقديم ولو الشيء اليسير.

ظلّوا ثابتين على العهد بالرغم من وحشيّة العدوان، فكانت نيران آليّته العسكريّة تهزّ أركان المنزل القرويّ البسيط مئات المرّات في اليوم الواحد، وهم بإصرارٍ يصنعون العجين ويوقدون النّار ويصنعون الخبز، ويقطفون الثمار والخضار ويحضّرون بعض الطّعام، ويقدّمون هذه الأشياء للمقاومين وعيونهم خجلى وقلوبهم وضمائرهم تشعر بالذّنب والتقصير فكانوا دوماً يحدّثون بعضهم بأن هؤلاء الشباب يواجهون العدوّ لأجلنا، ويتساقطون على الأرض شهداء وجرحى، ويجوعون ويعطشون، ويتركون بيوتهم الآمنة، ويتسابقون إلى الموت لأجلنا، فماذا عسانا نفعل لأجلهم؟ ونحن لا حول لنا ولا قوّة...
يا ربّ، نحن لا نملك إلا الدّعاء، أمام هذا الواقع، حملت أيام هذا الأسبوع معها الكثير من العناء والجهاد والسّهر، وتحمّل المشقّات، وزاد استهداف القرية حتى لم يبقَ بيتٌ من البيوت المجاورة إلا وأصيب بصاروخ أو قذيفة أو قنبلة أو أكثر، ولم تكن لتمرَّ ساعةٌ إلاّ وكانوا يقفزون فيها من ناحية إلى ناحية بحثاً عن مأمَنٍ من شظايا القنابل والقذائف، إلى أن شحبت الوجوه واغبرّت النظرات وجفّت الشّفاه ووهنت القوى. لكنّ الإرادات والعزائم كانت بحول الله وقوّته صامدة، صابرة، قويّة، ثابتة، راسخة، لا تلين ولا تستسلم، وكانت كلمة (الله أكبر، الموت لإسرائيل وأميركا) تتردّد في اليوم عشرات المرّات، حتى صار الببّغاء يردّدها كلّما اهتزّ به القفص من شدة القصف...! هذا الأسبوع شهد جنون العدوّ الإسرائيلي إزاء انكساره وفشله وخذلان حساباته بالقضاء على المقاومة ويقينه بأنه أسقط نفسه أو أُسْقِطَ في مستنقع الوحول اللّبنانية، فحاول تغطية هذا الفشل وهذه الهزيمة النّكراء بزيادة عدد مجازره وجرائمه، فأنشب أظافر همجيته حتى العظم، فكنت ترى الغارات الجويّة المجنونة، وقصف البوارج الهستيريّ، والقصف المدفعيّ الضّاري بهدف التقدّم البرّي، بالإضافة إلى طائرات الاستطلاع المزوّدة بالصّواريخ الحارقة، التي كانت ترصد تحرّكات المواطنين وتصطادهم كالعصافير، وفاحَتْ رائحة الموت بامتياز. إلا أن أبطال قصّتي هذه، كانوا يتجلْببون بالاطمئنان النفسي والهدوء الرّوحي والإيمان العميق.

بالإضافة إلى أن الشباب قد طلبوا إليهم عدم إنارة أيّ ضوءٍ من المنزل بتاتاً أثناء الليل، فالعدوّ جاهز لارتكاب أبشع المجازر فوراً وفي أية لحظة، لذا فقد كانوا يعانون كثيراً من صعوبة هذا الأمر، إذ كانوا يتحرّكون في المنزل عن طريق اللّمس، وغالباً ما كانوا يتجمّعون كلّهم في زاوية واحدة ويحتضنون بعضهم، خوفاً من إصابة أحدهم دون أن يشعر به الآخرون.

في إحدى ليالي ذاك الأسبوع الرّهيب، وعند السّاعة الحادية عشر والنصف تحديداً، التهبت القرية، وكانت القذائف والصّواريخ تضيء غرف المنزل، فيفزع أولاد الأخ من جهة إلى أخرى وشظايا القذائف الانشطارية والقنابل الذكيّة تتناثر حول جدران البيت، فاخترقت إحداها خزانة الملابس في الغرفة ذاتها التي يحتمون داخلها، لكن أحداً لم يعلم ولم يشعر بها في خضمّ هذا الانهمار الغزير لهذا السّيل من القذائف والشظايا.

وبدأت الثياب تحترق وتحترق داخل الخزانة، والنّار تعسعس بين الأقمشة. لكنّ العناية الإلهيّة أنجت هذه العائلة وهي في قلب النار. فقد وصلت رائحة الدّخان وسط الظلمة الحالكة إلى أنوفهم، فأخذوا يتحسّسون الفرش والوسائد بأيديهم ليبحثوا عن مصدر النار، فالإضاءة مستحيلة وفي منتهى الخطورة، أخذوا يقرأون سورة الفيل، ويردّدون الآية الكريمة: "سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم" ويبحثون في أنحاء الغرفة، حتى علِموا أن الحريق داخل الخزانة، فتحوها، رموا الثياب على الأرض وأخذوا يطفئونها بأقدامهم.
منذ تلك السّاعة، أصبح تطايُر الشظايا في أنحاء المنزل أمراً مألوفاً. تقول الحاجّة زينب: "كنت جالسةً على الفراش، وكانت الأرض تهتزّ من شدّة القصف، وإذا بالشظية تخترق الفراش ولم أُصَبْ بسوءٍ والحمد لله".

وتقول الصبيّة: "كانت عمّتي تصلّي، وإذا بالشظيّة تستقرّ على سجّادة الصلاة فتحرق طرفها، أكملت عمّتي صلاتها". وكان نداء "يا عمّتي" يتردّد في أنحاء البيت كلّما أحاط القصف بالمنزل، حتى الببّغاء صار يردّد صرخة "يا عمتي" فتقول له الحاجة "قل: الله أكبر" فينادي بنبرته الحادّة: "الله أكبر".

وكان شادي، الشاب الوحيد بينهنّ، لا يملك إلا أن يداري النساء، ويبلع غصّته خاصةً حين يجدهنّ وقد غلبهنّ التعب والنّعاس، لكنهّن لا يستطعن النوّم.

وكانت الحاجّتان قلقتين على حالة الشباب، وتقولان: "يا ويلي عليهم، إنهم في مواجهة الوحوش والخنازير، في مواجهة الحديد والنار، ترى، منذ كم يوم لم يتسنَّ لهم أن يتذوّقوا لا طعاماً ولا شراباً ولا نوماً ولا راحة؟ الله أكبر، اللّهم حطمّ إسرائيل وانصر الشباب بحق صاحب الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف".

وكانت نداءات الشباب عند إطلاقهم الصّواريخ على العدوّ تتعالى، لتصل أصداؤها إلى مسامع أفراد هذه العائلة المحتسبة: "يا زهراء، يا مهدي، يا حيدر... الله أكبر" فكانت تختلج لنداءاتهم النفوس وتهفو لها القلوب وتحنّ لها الأفئدة وتدمع العيون وخاصةً الحاجّة زينب فهي الأكبر سنّاً والأشدّ رهافة، فتقول: لهفي على الشهداء، على الشباب الذين تركوا أَسِرّتهم النّاعمة وجاؤوا يتوسّدون التّراب والحجارة...!

كلّ هذه المعاناة اليوميّة ولم تتوقف هذه العائلة عن صنع الخبز والطعام للمقاومين وإمدادهم بكل ما تيسّر عندهم في الحقل. إلاّ أن المعاناة الحقيقية والخطر الحقيقيّ كان يكمن في عملية نشل الماء من البئر يومياً قبل حلول الظلام، وقد كان شادي يتولى هذه المهمّة إلاّ أنهنّ جميعاً كنّ يحطنَ به من كل الجهات، خوفاً عليه من الوقوع في البئر، تحت ضغط الاهتزاز وعدم التوازن من جرّاء القصف الذي كان يحيط بالقرية من كلّ جانب فتهتز منه الأشياء اهتزازاً عنيفاً.

بدأ العدوّ يتهاوى عسكرياً وسياسيّاً أمام ضربات المقاومة، وتصدّيها ببطولات لم يشهدها الزّمن. لذا بدأ يمطر المناطق اللبنانية بأطنان القنابل الانشطاريّة والعنقوديّة، ويحاول التقدّم البرّي والإنزالات في القرى والمناطق فيهاجمه المجاهدون ويحبطون محاولاته موقعين بجنوده الإصابات، وبآليّاته التدمير، ويجبرونه على التقهقر، فيصاب بالإحباط الشدّيد ويحاول التعويض بالقصف الهستيري العشوائي. ففي إحدى هذه المحاولات، وكانت على محور (القنطرة، عدشيت، القصَيْر)، تصدّى المقاومون للعدو وأحبطوا التقدُّم موقعين فيه إصابات كبيرة، فقام العدوّ جرّاء ذلك بدكّ قرى بنت جبيل بالصّواريخ، التي نالت منها قرية برج قلاويه النّصيب الأكبر، (أكثر من عشرين قذيفة في الدّقيقة الواحدة) ثم إن عقدة مارون الراس ووادي الحجير (وادي الموت) بالنسبة للعدوّ، جعلته يحوّل القرى الوادعة إلى جحيم مطبق أو كما تقول الحاجّة: "يا بنتي، جهنّم وانفتح بابها على الضّيعة"، حتى أصبح لديهم خبرة بكل أنواع الأسلحة من خلال الصوت وكيفية صدوره وانفجاره، وصاروا ـ أي أفراد تلك العائلة العزيزة ـ يستنتجون أيّ نوع من الإنفجارات سوف يتبع هذا الأسلوب من القصف وكم عدد الطلقات التي سوف تنهمر عليهم في تلك اللحظة.

كلّ المنازل المحيطة بمنزلهم تهدّمت كليّاً، لم يبقَ سوى منزلهم وسط باحةٍ تشبه الملعب الواسع المليء بالرّكام وبشتى الذخائر المتفجّرة، وبقطع أثاثٍ محطمٍ وبقايا ألعاب وكتب للأطفال تبكي على أيدٍ كانت تلهو بها أو تقلّبها فكأنما صار بينها وبين تلك الأيدي عهد حبٍّ ووفاء.

أما باقي بيوت الضيعة فمنها ما تهدّم ومنها ما أصيب إصابات مباشرة وبليغة حطّمت جزءاً منه وصدّعت الباقي.
تحوّلت هذه الأيام إلى جهاد كربلائيٍّ بامتياز، ما عادوا يستطيعون نشل الماء من البئر، ولا قطف الثمار أو الخضار من الحقل، ولا العناية بالحيوانات ولا حلب الحيوانات اللّبونة ولا صنع الخبز ولا تحضير الطّعام، بل ما عادوا ذاقوا طعاماً ولا شراباً، وباتوا محاصرين في غرفةٍ مهدّدة بالانهيار على رؤوسهم في الدقيقة عشرات المرّات، إن غادروها فهم مقتولون تقطيعاً، وتناثراً في الأرجاء، وإن ظلّوا داخلها فهي حتماً منهارة على رؤوسهم لتحوّلهم إلى جثثٍ مدفونةٍ تحت أنقاضها. وشعرت الحاجّتان بالخوف الشديد على أولاد الأخ، فقد قامتا بتربيتهم منذ ولادتهم وحتى أينعت أزهار أعمارهم، فهل تفقدانهم في هذه الحرب العدوانية الغاشمة؟ أو على العكس، إن قتلتا هما وبقي الأولاد وحيدين في هذه الظروف القاسية، ماذا يحلّ بهم؟ بلغت الأزمة ذروتها في القصف العشوائي الرّهيب، وجنّ جنون العدوّ، فصبّ حمم آلياته العسكرية باتجاه القرى، فامتلأت قلوب جميع أفراد العائلة رعباً من أن يُقْتَلوا أو يصابوا أمام أعين بعضهم البعض، فلا يستطيع أحدهم أن يساعد الآخر.

كان الشباب يتبعون تكتيكاً يكبّد العدوّ القدر الأكبر من الخسائر البشرية والآلية، ويتراجعون إلى الخلف فيطوّقوا القرى على شكل زنارٍ محكم الطّوق، ويتقدّم العدوّ مستخدماً كل مدفعيته الثقيلة ودباباته المصفحة وذلك تحت غطاءٍ كثيفٍ من الغارات الجوّية التي كانت ترمي بصواعقها المستعرة على الآمنين، فيقوم الشباب بالالتفاف على التقدّم البرّي ويقصفونهم بالصواريخ ببطولة انقطع نظيرها، ويوقعون في صفوفهم الخسائر من قتلى وجرحى وتدمير آليات ويجبرونهم على التراجع نادبين حظهم العاثر في هذه الأرض التي حرّمت عليهم وتحوّلت بالنسبة إليهم إلى موتٍ أحمر.

ويقف العالم بأجمعه مشدوهاً أمام هذه المعادلة الغريبة...!
كما القرى التي كانت تشتعل، بأشجارها، بمبانيها، بكلّ ما فيها، كذلك بالنسبة إلى قرية (برج قلاويه) التي طوّقها المجاهدون تاركين العدوّ يتقدّم إلى مشارف الغندوريّة، والتحموا معه في مواجهاتٍ شرسةٍ في ليلة ليلاء أحسّت فيها تلك العائلة أنّ المنيَّة قد حانت وعليهم الاستعداد للقاء وجه ربّهم، فاجتمعوا على حصيرِ قشٍّ في ركنٍ من أركان الغرفة وأخذوا يتلون شهادة الموت، ويكرّرونها ويذكرون الله كي يموتوا على الإسلام، وعلى شهادة لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليٌّ وليُّ الله، ويتسامحون من بعضهم ويستغفرون ربّهم ويتوسّلون إليه، باتوا على هذه الحال، إلى طلوع الفجر والغرفة تهتزّ بهم كأنها تصعق بالكهرباء. وإذا بهم يسمعون بعض الأصوات في الخارج، ثم يتنحنح الشّباب ويرفعون أصواتهم بالتحيّة الإسلاميّة ويردفون سائلين: وينكم يا حجّاج؟ هل أنتم بخير؟ هل أصيب أحدكم بمكروه؟ هبّوا من مجلسهم بلهفة عارمة واستقبلوهم (كان ظنُّ الشباب أنّهم سيجدون البيت مدمّراً كلياً) كان الشباب يبتسمون في وجوه أفراد العائلة بسمةً تضاهي قيمتها كلَّ أفراح الناس، منذ أن وُجِدَ الناس، مع أن وجوههم كانت معفّرة، لا تُرى معالمها وكانوا في أشدّ حالات التأثر، فالمفاجأة بالنسبة إليهم حلوة ومؤثرة وتدعو للخشوع أمام إرادة الله عزَّ وجلَّ، القادر على إظهار معجزاته لمن يشاء ومتى يشاء.

فبيت الحاجتين ما زال سالماً تماماً بسكانه جميعاً، بجدرانه، بكائناته من حيوانات أليفة وطيور. لكنّ الخطر ما زال قائماً بأشدّ حالاته. قامت العائلة ورحّبت بهم، حتى الببغاء قال: السّلام عليكم، فأخذوا يلاعبونه كأنهم سَلَوْا همومهم ونسَوْا أنهم في مواجهة إسرائيل، على الرغم من أنهم كانوا على آخر رمقٍ من الجوع والعطش.
اختار الشباب أن يجلسوا للحظةٍ تحت ظلال شجرة الجوز الضخمة، فطائرات الاستطلاع تئِزُّ فوق رؤوسهم، ليتبادلوا مع العائلة بعض الأخبار السّريعة، فطلبوا إليهم أن يكونوا شديدي الحذر بشكلٍ مطلق، لا تجوّل في الحقل، لا أضواء مطلقاً في اللّيل، حتى ولا بصيص عود كبريت، لا تحرّك بتاتاً، المكوث داخل الغرفة والدّعاء: "نحن لا نريد منكم الآن سوى الدّعاء".

أسرع شادي وانتشل دَلْوَ ماءٍ من البئر وسقاهم، ومزجت الحاجّة مريم قليلاً من الكشكِ والماء وقدّمته إليهم مع بعض خبزٍ متبقٍّ لديها منذ أكثر من أسبوع، تناولوا منه بضع لقماتٍ، أخذت الحاجّتان تلحّان بالأسئلة عن حال الشباب في المعركة، كيف؟ وكيف؟ وكيف؟ فالقلوب معكم، أنتم أولادنا، أحبابنا، دماؤكم غالية وعزيزة جداً علينا، عسى الله أن ينصركم ويدحر هذا العدوّ الغاشم، وإذا بها تلمح أحدهم يشيح بوجهه ماسحاً دمعةً تفطّر لها قلبُها ألماً، فتوجّهت نحوه قائلةً: قل لي يا ولدي: هل اشتقت لأهلك؟ ما بك؟ هل تذكرت أحداً عزيزاً على قلبك؟ هل تريد شيئاً وتخجل من طلبه؟ قل يا حبيبي تكلّم، فأنتم أولادنا ونحن ملزمون بمساعدتكم ومساندتكم.

فأجابها: لا يا خالتي، أنا جئت إلى المعركة بعد أن كتبت وصيّتي ونذرت نفسي للشهادة، أنا لا أريد إلا رضى الله، لكن العدو شرس، والوضع صعبٌ وأنا خائفٌ جداً عليكم، فالوضع شديد الخطورة ونحن مصمّمون على المواجهة حتى آخر رمقٍ من أنفاسنا.
عندها نظر أفراد العائلة كلٌّ في وجه الآخر لحظةً، وكأنهم تفاهموا بالنظرات، ثم توجّهت الحاجّة نحو الشباب قائلة: "نحن نعرف يا ولدي أن مصير هذا المنزل صار محتوماً، سيهدمه العدوّ فوق رؤوسنا، لم يبق في هذه السّاحة غيره، لن يتركه الأعداء، وإذا بتْنا خارجَهُ فلن نسلَمَ من القتل، إما بالقنابل وإمّا بشظاياها. في كلتَا الحالتيَن، نحن مقتولون. لذا خذونا معكم يا ولدي إلى المواجهة، نحن لا نخشى الموت، فقد تربّينا على قول الإمام الحسين عليه السلام : "لقد خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة"، ولكن من الأفضل لنا أن نقتل في سوح القتال من أن نقتل ضحايا تحت الرّكام، أيهون عليكم أن نُردَمَ تحت أنقاض هذا المنزل الصّغير؟ ها أنتم ترَوْنه بناءً قديماً يسقط تحت أوَّلِ غارة من غارات هذا العدوّ المتوحش...! لو رضيتم أن نرافقكم إلى الجبهة، سوف نساعدكم في نقل السّلاح، وإسعاف الجرحى، فنستشهد وقد قدّمنا شيئاً فنلقى جزاءنا عند الله عزَّ وجلَّ. التفت الشباب نحو الحاجّتين وقالوا: لا يا خالة، إن نحن اصطحبناكم معنا، نكون قد سقناكم إلى الموتِ سوقاً، أمّا إن أنتم بقيتم في منزلكم، فالله الذي حماكم وتولاّكم بعنايته منذ بداية الحرب وحتى اليوم، سوف يرعاكم ويحفظكم حتى يقضي الله بيننا وبين هذا العدوّ أمراً كان مفعولاً. ثم هل نحن مجرمون حتى نصحبكم إلى مواجهة الدبّابات وأنتم نساء كأمّهاتنا وفتيات كأقحوان الرّبيع بمثابة أخواتنا، وشابٌّ أعزل لا يجيد استعمال السّلاح؟

أهكذا علّمنا الإمام الحسين عليه السلام؟ وهل صحب زينب عليه السلام والنساء وزين العابدين عليه السلام والأطفال إلى مبارزة الأعداء؟
ألم يقل لزينب عليه السلام إذا أنا قتلت فاحفظي لي النّساء والأطفال؟ فليقم كلٌ بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، ولنتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وإذا استشهدنا فسوف نلتقي بإذن الله في الجنّة التي وعد الله بها المتّقين والصّابرين والمجاهدين من عباده، وإذا بقينا أحياءً فلَنا بإذن الله عقبى الدّار.

نستودعكم الله يا خالة، أكثروا من الدّعاء، فالدّعاء يردّ القضاء. وانصرف الشباب يغالبون دموعاً لو أطلقوها لَجَرَتْ من المآقي لآلئ حرّى، وتركوا أفراد العائلة يشعرون كأنهم في ديارهم غرباء، والغربة تحمل بين ثناياها كلّ الحزن والأسى والدّموع والآهات. فقد أحسّوا أن القرية خاويةٌ تماماً إلاّ من رعود الطائرات التي كانت تعوي كالذئاب الجائعة، دخلوا الدار، تيمّموا فقد نضبت الآنية من الماء، وتوجّهوا للصلاة ثم تفرّقوا في الغرفة على فُرُشٍ ممدودةٍ في جوانب الغرفة. مضى النهار بطوله وهم بين صلاةٍ ودعاءٍ وقراءة آياتٍ من القرآن الكريم تحت هولِ القصف المجنون.

حلّ الظلام ولم يغيِّر شيئاً سوى زيادة حدّة الغارات، وزيادة انهيار الرّكام الذي كان يحدث ارتطامه بالأرض وتكسّره حول المنزل أصواتاً تدعو للقلق على مصير باتَ محتوماً.

استلقوا على الفُرُشِ محاولين النّوم، علّهم يذوقون طعمه ولو للحظات...

طوى الزّمن المسافات ليتعانق ثرى كربلاءَ مع ثرى عاملة، ويحتضن كلٌ منهما الآخر، ويبثّه شكواه والآلام.

فكل يومٍ يستشهد فيه حرٌّ، أبيٌّ، حسينيٌّ هو يوم عاشورائيٌ، وكلّ أرضٍ يُواجهُ عليها الحقّ الباطل هي أرض كربلاء.

وكم من حسينيٍّ استشهد لنا في تلك الأيام؟ آهٍ يا أرضَ عاملةَ الوفيّة، الخصبة المعطاء...! كم أنجبتِ من باكين على الحسين، فكانت كلّ عَبرةٍ تنبت برعماً حسينياً سرعان ما يشبّ فيضحى بطلاً يحمل السَّيف بيدٍ والقرآن بيد مردّداً الوصيّة الأساس: "والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد".


 

المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ



التعليقات (0)

اترك تعليق