في مقامٍ أمين
كانت ليلة هوجاء، عمياء، صمّاء، إلاّ أن الله القادر على كلّ شيء، والذي يفعل ما يريد وما يشاء، ربط على آذانِ أفراد تلك العائلة الصّابرة، فناموا نوماً عميقاً، وكأنّهم بمعزلٍ عمّا يجري حولهم. وإذا بالحاجّة مريم ترى فيما يرى النائم أن مجموعة خيلٍ بالقرب من بيتهم في ساحة القرية، يعتليها فرسان عليهم ثياب ناصعة البياض، وإذا بأحد الفرسان يتّجه نحوها ويقول لها: "لا تخافوا يا حاجّة، أنتم في أمان".
انتبهت من نومها، فوجدت الجميع نائمين على الرغم من كثافة الغارات والقصف. أدّت صلاة الصّبح بسكينة واطمئنان، ولمّا استيقظوا قصّت رؤياها عليهم.
بردت القلوب، وهدأت الخواطر، واطمأنّت النّفوس، فالهاتف واضحٌ في بيانه: "أنتم في أمان"، ترى، من هم هؤلاء الفرسان؟ الله أعلم بتفسير هذه الرؤيا، إلا أنهم حتماً من الأولياء الصّالحين...! في اليوم نفسه، استهدف محيط المنزل استهدافاً مباشراً، فكانت الأحجار تطير في الهواء كالورق ثم ترتطم بالأرض وبالأشياء، طارت الكائنات، تهدّمت البيوت واشتعلت النّيران في أنحاء القرية، وقد كان هناك على رابية مجاورة فيلا واسعة يملكها أحد أبناء القرية، قد لجأ إليها الشباب بعد إصابة أحدهم، فحملوه إليها لإسعافه ريثما يتسنّى لهم نقله إلى المستشفى، طالتها إحدى القنابل، فأصابت المطبخ وتعالى اللّهب بمواجهة منزل العائلة، فاضطرّ الشباب لحمل أخيهم الجريح والخروج من ذلك البيت. كلّ هذا، وأفراد العائلة ينظرون من داخل غرفتهم إلى ما يجري، وقلوبهم تتفطّر حزناً على ما يصيب أهالي قريتهم ومجاهدي المقاومة فلا يملكون إلاّ الدعاء والتضرّع لحماية هؤلاء الناس وهذه المقاومة.
المزروعات مثقلةٌ بالثمار، والماء موجودٌ في البئر، لكن ما من أحدٍ يتمكّن من التقدّم قيدَ أنملةٍ نحو الحقل أو نحو البئر، وما عادوا شعروا لا بجوعٍ ولا بعطش، بل كانت السّاعات تمرّ وهم يترقبون ما يحدث حولهم. وبينما هم كذلك، هزّ انفجار عنيف كأنه الصاعقة أركان المنزل، وسمع دويّ الأحجار تتدحرج من كل الجهات، والشظايا تتطاير والأشياء تتحطّم. لَزِموا أماكنهم يتساءلون: أين استقرّ هذا الصاروخ؟ هل أصاب الغرفة الثانية؟ أم المطبخ؟ أم الحظيرة؟ وهل قتلت الحيوانات؟ وقالت الحاجة زينب: "أخشى أن تكون مئذنة المسجد قد قُلِعَتْ من مكانها ووقعت على سطح المنزل...! (فقد كان المسجد قريباً من بيتهم أيضاً). وتابع الصّهاينة قصفهم لقنابل الحقد على القرية كما على القرى المجاورة والمناطق اللبنانيّة كافةً حتى الصباح. اغتنمت الحاجّة مريم لحظة تسلّلت فيها إلى الخارج، لترى عمود الكهرباء المنصوب تماماً على ركن منزلهم قد اقتلع من أساسه، وتناثر حديدُهُ إرباً إرباً وانتشر في كلّ مكان، وتطايرت جذوع الأشجار والصخور والأشياء من حوله وصارت هباءً منثوراً...!
نظرت الحاجّة إلى السّطيحة، إلى الدَار، إلى العتبة، إلى الحظيرة، إلى الجدران... وجدتها كلها سالمة تماماً، لا أثر عليها لأيّة شظيّة، وكأنها كُنِسَتْ قبل دقائق. لم تصدّق عينيها وقالت في نفسها: :"أنا متأَكّدة أن السّطح قد أصيب بإصابةٍ ما" فغامرت وصعدت مسرعةً إلى السّطح فوجدته سالماً، لا يوجد عليه ولا مجرّد بحصة صغيرة. دخلت إلى الغرفة، سجدت شاكرة الله على هذا الأمان، رآها الجميع، سجدوا معها شكراً لله قائلين: "لقد صدق الهاتف، نحن والحمد لله في أمان".
إلاّ أن حناجر الطّائرات ما بُحَّتْ بعد، وعواء القنابل لمّا يهدأ، وعويل الصّواريخ ما برح في أقصى ذروته، والوصف كلّ الوصف، ما عاد يعكس حقيقة الواقع، لأن الواقع الهستيري بات أعجز من أن يوصف بريشةٍ غرّى، أصبح كالأساطير أو كحكايا ألف ليلة وليلة. فكانت كلّ من العمّتين إذا وقفت للصّلاة طلبت إلى واحدة من بنات أخيها، الجلوس بقربها ومراقبتها كي لا تخطئ بعدد الرّكعات، لأن هول القصف وطول المعاناة، ووهن القوى ما عاد يمكنهما من القدرة على التركيز أثناء الصّلاة. إلاّ أن تلك المراقبة ما كانت لتنفع في إحصاء عدد الرّكعات، فالكلّ كان تحت وطأة وأزيز الآلة الأميركية الصّهيونية، لا يملك إلاّ أن يطير أو يقفز أو على الأقلّ يكوّم جسده على بعضه مخبّئاً رأسه إلى الأسفل وكأنه لا يريد أن يرى الهولَ النازل به لا محالة.
وكان العدوّ في تلك الأيام يثأر لهزيمته النّكراء في التقدّم البرّي، فينتقم بارتكاب المجازر بالأطفال والنساء والأهالي، فارتكب مجزرتين في بلدة "الغازيّة" ومجزرة في بلدة "الغسّانية" ومجزرة في "حولا"، عدا عن قصفه لكلّ المناطق اللبنانية من أقصى الجنوب إلى أقصى البقاع بغارات متواصلة.
في خضمِّ هذا الجنون العسكري، والجنون السياسيّ الذي لفّ العالم بأسره، بالإضافة إلى الجنون الإعلاميّ حيث راح كلٌّ يغني على ليلاه ويحلّل على هواه، كان أبطالنا في شباب المقاومة الإسلامية منكبّين على عبادتهم المقدّسة بكل جوارحهم، ألا وهي الجهاد في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم. فسلامٌ عليكم يا خرّيجي المدرسة الكربلائية بأوسمةٍ من ذهب، موشاةٍ بالشقيق الأحمر القاني، الرّيان من نجيع شرايينكم، الباعثِ الصحوَ في شرايينِ الأممِ الغافيةِ على وسائد الذل والخنوع والجبن والانكسار.
أمَّا عائلتنا الصابرة فالتزم أفرادها أماكنهم داخل الغرفة التي شهدت صمودهم منذ بداية الحرب، وإذا بأحد المقاومين ينادي من خارج الدّار: "السّلام عليكم يا خالتي الحاجّة"، أسرعت الحاجّة مريم وابن أخيها يسبقها باتجاه الباب، فإذا بالشابّ المقاوم يعرج في مشيته والدماء تسيل من قدمه، أقبلت عليه بلهفة وتوسّلت إليه أن يدعها تضمّد له جرحه ويستلقي قليلاً على فراش ليستريح، لكنه أبى بشدّة وقال: "إن لم أعُدْ إلى رفاقي، سيظنّون أننا استشهدنا جميعاً (أنا وأنتم) وسيضطرون للّحاق بي، والوضع لا يسمح لنا بذلك، فكلّ الشباب منهمكون بمهمّاتهم ولولا إصابتي ما سنحت لي الفرصة لزيارتكم والاطمئنان عليكم، فكرّرت الحاجّة رجاءها أن يُرِيَها جرحه علّها تتمكّن من مساعدته في تضميده لكنّه رفض، فناولته رِباطاً وقالت: كيف أتيتَ يا ولدي وأنت على هذه الحال؟
فقال: نحن قومٌ لا يضيع معنا الجميل، ولا ننكر معروف أو عهد من سدَّ رمقنا بلقمة خبزٍ أو شربة ماء. فكيف نترككم في ظلّ هذا القصف دون أن نعرف عنكم شيئاً أو نطمئن على سلامتكم؟ ثم ودّعهم وانصرف ولم ينسَ أن يذكّرهم بعدم إصدار أيّ ضوءٍ من البيت ليلاً فيمّمت الحاجّة مريم وجهها شطر السّماء ونذرت، إن شفيَ هذا الشاب من جرحه فستصوم ثلاثة أيام شكراً لله تعالى. وتبع ذاك اليوم ليلةٌ مضيئةٌ بلمعان القنابل والقذائف والصّواريخ، فكانت الفتاتان تقولان لعمّتيهما إنهم يوصوننا دائماً بعدم إضاءة أية شمعة أثناء اللّيل، وهل نحن بحاجة إلى الضّوء؟ ألا تكفينا أضواء الصّواريخ؟ فكانت العمتّان تدعوهما إلى الصّبر والتجلّد وذكر الله والدّعاء. وما إن يلمع ضوء الصّاروخ على جدران الغرفة حتى تنطلق من أعماق الجميع صرخة "الله أكبر" قبل انفجاره في محيط المنزل، حتى تهدّم كلّ ما حولهم وأصبح منزلهم في فلاةٍ من الأرض، كالنخلة في الصحراء. ثم أتبع تلك الليلة يومٌ أحمر دَكّت فيه مدفعية العدوّ الثقيلة، وتحديداً عند الواحدة ظهراً كل القرى المجاورة وخصّت قرية (برج قلاويه) ومحيطها بمئات القذائف من مختلف الأوزان والأنواع. وهكذا وفي كلّ مرّة كانت المقاومة تحوّل دبّابات العدوّ إلى توابيت، كان العدوّ يثأر بقصفٍ هستيريٍّ أعمى. وبعد أن تبنّى مجلس الأمن القرار 1701 وطلب من لبنان وإسرائيل الموافقة عليه، حاول الكيان الصهيوني استعادة القليل من ماء وجهه الذي أريق في هذه الحرب، فقام بإنزال مظلّي كبير على التخوم الشمالية لنهر الليطاني، إلا أن المقاومة تمكنت من إسقاط مروحيّة وقتل خمسة عسكريين كانوا على متنها. كذلك حاول العدوّ التقدّم البرّي باتجاه اللّيطاني حيث شهدت قرى الجنوب الكثير من الملاحم البطولية، كملحمة الغندورية وملحمة وادي الحجير والقليعة. ثم حاولوا التسلّل إلى محلة صف الهوا بواسطة دبّابتين مدرّعتين إلاّ أن المقاومين رصدوها ودمّروها بالصّواريخ.
وهكذا أمضت العائلة الصّامدة الأيام الأخيرة من العدوان، حيث كان طعامها عدّ الصّواريخ وشرابها التضرع إلى الله كي ينقذهم وينقذ بلدهم وينقذ المقاومة من هذه المحنة. وقد ظلّت قريتهم محوراً أساسياً للاعتداءات الصهيونية وقلعةً مقدّسة لاستبسال المقاومين المجاهدين. ففي اليوم الأخير، حاولت المروحيّات الإسرائيلية إنقاذ جنودها المنتشرين الفارّين في وادي الحجير فأفشلت مهمتها المقاومة، عندئذٍ عمدت إلى إدخال المدفعية وقصف بلدات برج قلاويه وقلاويه والغندورية لمنع تقدّم رجال المقاومة نحو الجنود الفارّين.
وأشرقت شمس الثالث عشر من آب على ما تبقى من حجارة في برج قلاويه، كما في كلّ القرى الأبيّة، لتشهد على مذابح ارتكبتها أبالسة الأرض دون أن يرفّ لهم جفن.
وتوجّهت الحاجّة مريم نحو البئر، وحملت الدّلو بيدها تريد أن تنتشل قليلاً من الماء، فأولاد الأخ، حبّات القلوب، قد غارت عيونهم وخارت قواهم وراحوا يفتشون في لَكَنِ الخبز عن لقمةٍ يقتسمونها لسَدّ رمقهم. وكلّ ما في البيت أصابه الجوع والعطش؛ فالببّغاء انزوى في القفص مستنداً إلى قضبانه يفتح عيناً ويغمض الأخرى، والدّيك ما قويت حنجرته على الصيّاح، والقطط هامت على وجهها تبحث عن صيدٍ في البراري.
تبع شادي عمّته وأخذ الدلو من يدها، وأدلاه في البئر وهي من خلفه تحوطه بيديها، انتشل الماء وسحب الحبل وإذا بالطيران الصّهيوني يغير على القرية كالصواعق، ملقياً القنابل العنقودية في البساتين والوديان وخلف التلال. بلمح البصر، جذبته عمته من قميصه بكلتا يديها صارخة، سحب الدّلو ورماه أرضاً وأمسك بيد عمّته ودخلا المنزل وهما يتمتمان: "حسبنا الله ونعم الوكيل، ولنا في عطاشى كربلاء أسوة حسنة".
أما ليلة إعلان الانسحاب، الليلة الأخيرة، فعنوانها على لسان الحاجّة "لا تسأليني يا ابنتي عن آخر ليلة من العدوان"، فقد صبّت إسرائيل جام حممها على كلّ الصامدين من جمهور المقاومة، في الضاحية والجنوب والبقاع والشمال. ونالت القرى المتاخمة لوادي الحجير، وادي الموت والهزيمة النكراء والفشل الذريع بالنسبة للصّهاينة، القدر المريع من تلك الحمم. فقد طال قرية برج قلاويه حوالي مئتان وخمسون قذيفة في الدقيقة الواحدة.
وتكرّر الحاجّة: "لا تسأليني يا ابنتي عن آخر ليلة من العدوان" فقد متنا ثم عشنا فيها ألف مرّة، والصّهاينة أنفسهم لن يصدّقوا إن قلنا لهم أننا كنا موجودين في هذا المنزل هنا، ولم نصب بأذى.
المصدر: عقبى الدار، سلو بو سلمان، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة: الأولى، تموز 2008م- 1429هـ
اترك تعليق