مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

تعدد الزوجات- تفسير الميزان

تعدد الزوجات- تفسير الميزان

« وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا[2] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا[3] وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا[4] وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا[5] وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا[6]» 
 الآيات تتمة التمهيد والتوطئة التي وُضعت، في أول السورة، لبيان أحكام المواريث وعمدة أحكام التزويج؛ كعدد النساء، وتعيين المحارم، وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني وأعظمها، ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه؛ فإنّ النكاح يتعيّن به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التي تكوّنه، والإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتنى عليها بنية المجتمع في عيشته وبقائه. وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنا والسفاح، والنهى عن أكل المال بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض، وعند ذلك تأسّس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال. ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني، ونشبت في أصوله وجذوره، وصرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم والتحمت عليه أفكارهم، ونبتت عليه لحومهم ومات عليه أسلافهم ونشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر. وهذا شأن ما شرّع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الانساني يومئذ بالعموم، وفي وضع العالم العربي، ودارهم دار نزول القرآن وظهور الاسلام بالخصوص وفي كيفية تدرج القرآن في نزوله وظهور الاحكام الاسلامية في تشريعها.
 
قوله تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب -وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل- كان يكثر فيهم الأيتام، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهنّ، ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهنّ، وربما أخرجوهن بعد أكل مالهنّ، فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن، وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[10]» (النساء 10) وقوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا» (النساء 2). فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل، وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقّهم، ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب، وكان إذا فضل من غذائهم شئ لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وشكوا إليه فنزل: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[220]» (البقرة 220) فأجاز لهم أن يؤووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وإن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرّج همّهم.
إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى "وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا الخ" وهو واقع عقيب قوله "وآتوا اليتامى أموالهم" اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى -والله أعلم-: اتقوا أمر اليتامى ولا تتبدلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى أنكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساءا غيرهن ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع . فالشرطية؛ أعني قوله إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساءا غيرهن فقوله فانكحوا، ساد مسدّ الجزاء الحقيقي، وقوله "ما طاب لكم" يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن وقد قيل ما طاب لكم ولم يقل من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله مثنى وثلاث إلخ، ووضع قوله "إن خفتم أن لا تقسطوا" موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله ما طاب لكم هذا.
وقد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة؛ منها أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع والخمس وأكثر، ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما .
 ومنها أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشدّدون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا، ولا يعدلون بينهن فقال تعالى إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.
ومنها أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى، وأكل أموالهم فقال سبحانه إن كنتم تحرجتم من ذلك، فكذلك تحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء.
 ومنها أن المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مما أحل لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع.
 ومنها أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مواكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء، وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور؛ فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه .

قوله تعالى "مثنى وثلاث ورباع" بناء مفعل وفعال في الاعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ولما كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جئ بواو التفصيل بين مثنى وثلاث ورباع الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى وثلاث و رباع. وبذلك وبقرينة قوله بعده وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تُنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا، وكذا في الثلاث والأربع أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية. على أن الضرورة قاضية أن الاسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة. وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لان مجموع الاثنتين والثلاث والأربع تسع، وقد ذكر في المجمع أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة، فإنّ من قال دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الاعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ولان لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي جل كلامه عن ذلك وتقدس.
قوله تعالى "وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة" أي فانكحوا واحدة لا أزيد وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم، لأنّ العلم في هذه الأمور ولتسويل النفس فيها أثر بين لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة. قوله تعالى "أو ما ملكت أيمانكم" وهى الإماء فمن خاف أن لا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة، وأن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء. ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم والتعدي عليهن، فإنّ الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد، بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهنّ أسهل، ولهذه النكتة بعينها، كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وإتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه، فإنّ مسألة نكاحهن سيتعرض لها في ما سيجئ من قوله «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ» (النساء 25). قوله تعالى "ذلك أدنى أن لا تعولوا" العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من أن لا تميلوا عن العدل، ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن وربما قيل إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى. وفي ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفى العول والإجحاف في الحقوق.
 
مصدر: الطبطبائي، السيد محمد حسين:الميزان في تفسير القرآن، ج4، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة، 1412هـ، ص 150- 169

التعليقات (0)

اترك تعليق